على الرغم من حضور المقاومة الفلسطينية بشكل لافت في مختلف القضايا الوطنية المتعلقة بالشهداء والقدس المحتلة والأسرى، فإن هناك إستراتيجيتين تعمل بهما الفصائل والأذرع العسكرية في السنوات الأخيرة في قطاع غزة.
فمنذ عام 2001 وحتى عام 2007 عملت المقاومة وتحديدًا كتائب القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس) على تكتيك عسكري يتمثل في مشاغلة الاحتلال وإطلاق الصواريخ تجاه المدن والبلدات المحتلة عام 1948، وكان هذا النهج متبعًا لدى غالبية الفصائل، وبعد حرب عام 2008/2009 اتجهت حركة حماس – التي تدير شؤون القطاع – نحو بناء إستراتيجية جديدة تعتمد على مبدأ مراكمة القوة العسكرية ومباغتة الاحتلال خلال الحروب التي يشنها على غزة بهدف مفاجأته وتحقيق نوع من توازن الردع.
في المقابل حافظت سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) على إستراتيجيتها المتمثلة في مشاغلة الإسرائيليين من غزة عبر إطلاق الصواريخ بين فترة وأخرى، مستفيدة من عدم وجودها في الحكم وإدارة الشأن العام.
أما حركة حماس فترى أن هذه الإستراتيجية أصبحت من الماضي حاليًّا نظرًا لتكلفتها العالية عليها في ظل إدارتها للشأن العام وحكمها للقطاع الذي يرزح تحت حصار إسرائيلي مشدد فرض عليه في أعقاب فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006.
تنقيط الصواريخ على الاحتلال وحالة القصف خلقا في أكثر من مناسبة حالة من الجدل بين أنصار الحركتين
ومنذ عام 2014 أطلقت الجهاد الإسلامي عشرات الصواريخ بين الحروب، سواء للرد على انتهاكات إسرائيلية أم لاستغلال بعض الأحداث السياسية الميدانية في دولة الاحتلال، وهو ما كان يقابل بقصف إسرائيلي يطال مواقع للمقاومة أو مقدرات لها.
وبين هاتين الإستراتيجيتين تقف قوى المقاومة الفلسطينية أمام نقاش مستمر ودائم بشأن جدوى الإستراتيجية القائمة في ظل تكرار عمليات القصف الإسرائيلي، ما خلق نقاشًا على مستويات داخلية بشأن ضرورة التوافق الداخلي.
ورغم تأكيد قيادات حركتي حماس والجهاد الدائم على الارتباط الوثيق، فإن تنقيط الصواريخ على الاحتلال وحالة القصف خلقا في أكثر من مناسبة حالة من الجدل بين أنصار الحركتين على مواقع التواصل الاجتماعي.
وكثيرًا ما تبادل أنصار وكوادر الحركتين بعض الاتهامات بشأن جدوى هذه الصواريخ وأهميتها في أوقات الهدوء وغياب جولات التصعيد، لا سيما في ظل عدم التوافق داخل الغرفة المشتركة للمقاومة الفلسطينية على هذه الآلية في مقاومة الاحتلال.
المشاغلة ومراكمة القوة.. مصطلحات متجددة
الساحة الفلسطينية ولادة بالمصطلحات الجديدة، في إطار إدارة الصراع المتواصل مع الاحتلال، وفي سياق النقاش المستمر بين الحركات السياسية، ومن هذه المصطلحات الجديدة أو المتجددة: مُراكمة القوة ومُشاغلة العدو.
برزت هذه المصطلحات في السنوات الأخيرة على لسان بعض قادة المقاومة الفلسطينية، خاصة بعد جولات العدوان على غزة، وهو الأمر الذي فتح الباب أمام النقاش بشأن تكامل هاتين الإستراتيجيتين وتناقضهما في عمل حركات المقاومة.
تستند حركة الجهاد الإسلامي وذراعها العسكرية في مصطلح “مشاغلة العدو” إلى مقولة مؤسسها وقائدها الأول فتحي الشقاقي الذي كان دائم القول: “دور المجاهدين في فلسطين هو إحياء فريضة الجهاد ضد العدو ومشاغلته واستنزاف طاقاته”.
مفهوم مشاغلة العدو يعني استمرار مقاومة الاحتلال دون فترات هدوء طويلة الأمد تسمح له بالاستقرار والإحساس بالأمن
أما مفهوم مُراكمة القوة كإستراتيجية عسكرية لحركة مقاومة وتحرر وطني تردد على لسان بعض قادة المقاومة الفلسطينية بعبارات متشابهة منها: نبني القوة ونراكمها والمقاومة تعمل على مراكمة القوة وسنواصل درب إعداد القوة ومراكمتها والمقاومة ستواصل إستراتيجية مراكمة القوة والمقاومة ستعمل على أربع جبهات تبدأ بمراكمة القوة.
وجميع هذه المصطلحات والتعبيرات تعني كلغة ومصطلح: حشد وتجميع وتكديس القوة العسكرية، سواء كانت عتادًا عسكريًا وأنظمة تسلح من ناحيتي الكم والكيف أم كانت تجنيد المقاتلين وتدريبهم وتجهيزهم للقتال في المعركة الحاسمة، أم غيرهما من عناصر القوة العسكرية.
في حين يبدو مفهوم مُشاغلة العدو كإستراتيجية عسكرية لحركة مقاومة وتحرر وطني تردد على لسان بعض قادة المقاومة الفلسطينية بعبارات مشابهة منها: عدم التخلّي عن مشاغلة العدو والمقاومة تريد تثبيت معادلة مشاغلة العدو ومن الضروري الاستمرار في مشاغلة العدو إلى حين المنازلة الكبرى.
ويعني مفهوم مشاغلة العدو استمرار مقاومة الاحتلال دون فترات هدوء طويلة الأمد تسمح له بالاستقرار والإحساس بالأمن وعدم دفع ثمن جرائمه وعدوانه واحتلاله والعمل على استنزاف طاقاته البشرية والمادية وزعزعة أمنه.
تكامل أم تناقض.. المراكمة والمشاغلة
في ضوء القراءة السابقة يمكن القول إن مراكمة القوة ومشاغلة العدو مفهومان غير متناقضين وإستراتيجيتان غير متضاربتين، بل هما إلى التكامل أقرب، إلا إذا كانت مشاغلة الاحتلال بالمقاومة المستمرة مُعيقة لمراكمة القوة بالمقاومة الكامنة.
وبالابتعاد عن وجهات النظر السابقة واقترابنا من وجهات النظر التكاملية بين المفهومين والإستراتيجيتين نجد العكس هو الصحيح، فمشاغلة العدو أهم وسائل مراكمة القوة، فاستمرار المقاومة الشاملة، ليس فقط في قطاع غزة، بل في كل فلسطين المُحتلة عام 1948 والضفة الغربية، هي أهم أدوات ووسائل بناء القوة وبمفهومها الشامل: قوة الشعب الفلسطيني وصموده فوق أرضه، وقوة المقاومة بمراكمة خبرات المقاتلين، وقوة الأمة بزيادة دعمها للشعب والمقاومة، وبناء القوة ومراكمتها من خلال المقاومة تتم بمنع استقرار الكيان وزعزعة أمنه واستنزاف قوته، كما من المفيد التذكير أن ما تراكم من قوة للمقاومة في قطاع غزة قد تم باستمرار مشاغلة العدو ومقاومته.
إذا كانت سياسة مُراكمة القوة تصلح فرضًا على قطاع غزة، فلا يعني هذا بالضرورة أنها قد تصلح بنفس الآليات على الضفة الغربية
مراكمة القوة بمفهوم التناقض مع مشاغلة العدو، وبالتوازي والتزامن مع تأجيل المقاومة، لا تبعد كثيرًا عن مفهوم (الإعداد والتربية)، وهي المنهجية التي كانت تتعامل بها الحركة الإسلامية ما بين النكبة الفلسطينية والانتفاضة الأولى، على مدار أربعة عقود من تاريخ الصراع، برز خلالها دور حركات المقاومة الوطنية الفلسطينية في الكفاح المسلح، لا سيما بعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، هذا الغياب الطويل عن فلسطين والمقاومة تم تبريره بنظرية مرحلة الاستضعاف التي تتطلب إعداد وتربية للفرد والجماعة، وتقتضي تنقية وتطهير الجماعة والمجتمع.
مراكمة القوة قريب من مفهوم (التوازن الإستراتيجي) وإستراتيجية لنوع آخر من مراكمة القوة، مع الفارق أن مراكمة القوة قد تعني الوصول للتوازن الإستراتيجي، وربما لا تصل إليه أو تتجاوزه، والمقصود بالتوازن الإستراتيجي العسكري – وليس الشامل – هو التعادل والتكافؤ في القدرات العسكرية ويشمل المساواة الكمية والنوعية من الجوانب كافة.
في المقابل فإن مراكمة القوة في سياق إستراتيجيات حركات التحرر الوطنية، بحاجة إلى توسيع دائرة الرؤية، ونظرة أكثر شمولية، تتجاوز جغرافية وخصوصية المقاومة في قطاع غزة لتمتد إلى كل فلسطين التاريخية لا سيما الضفة الغربية، فإذا كانت سياسة مُراكمة القوة تصلح فرضًا على قطاع غزة، فلا يعني هذا بالضرورة أنها قد تصلح بنفس الآليات على الضفة الغربية.
إستراتيجية إسرائيلية مضادة.. المعركة بين الحروب
تبنى الاحتلال الإسرائيلي لسنوات إستراتيجية خاصة به تسمى “مبم” أي المعركة بين الحروب، ولطالما استخدمها في جولاته مع المقاومة الفلسطينية أو حتى ضد إيران أو أذرعها في المنطقة نظرًا لقدراته التسليحية الفائقة والمعلومات الأمنية والاستخباراتية التي يمتلكها.
وتستند هذه الإستراتيجية إلى تنفيذ عمليات اغتيال أو تدمير لبعض إمكانيات المقاومة الفلسطينية مثل ورش التصنيع أو مرابض إطلاق الصواريخ أو بعض الأهداف العسكرية التي تشكل تهديدًا على أمنه ومنظومته الداخلية.
وفي بعض الأحيان عملت المنظومة الأمنية والعسكرية للاحتلال على استخدام هذه الإستراتيجية بهدف الهروب من الأزمات السياسية الداخلية في ظل عدم استقرار الحكومات المتعاقبة والفشل الداخلي في تحقيق استقرار النظام السياسي.
لكن التحول الإسرائيلي في استخدام هذه الإستراتيجية كان بعد عام 2018، بعدما طورت المقاومة الفلسطينية قدراتها الصاروخية والعسكرية وأصبحت أكثر قدرة على توجيه ضربات نوعية للاحتلال بصواريخ أكثر دقة من السابق وأكثر قدرة على إحداث الضرر.
تستند إستراتيجية “المعركة بين الحروب” إلى تنفيذ عمليات اغتيال أو تدمير لبعض إمكانيات المقاومة الفلسطينية مثل ورش التصنيع أو مرابض إطلاق الصواريخ أو بعض الأهداف العسكرية
وتبنى بعدها الاحتلال إستراتيجية جديدة تتمثل في “الهدوء مقابل التسهيلات”، استنادًا إلى التفاهمات التي جرت في أعقاب مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار في مارس/آذار 2018 التي قدم بموجبها الاحتلال تسهيلات اقتصادية للقطاع سمح من خلالها بإدخال مبالغ مالية للعائلات الفقيرة إلى جانب إدخال بضائع وسلع كانت ممنوعة عدا عن السماح عقب معركة سيف القدس عام 2021 بعمل فلسطينيي غزة داخل الأراضي المحتلة لأول مرة منذ عام 2005.
وسعى الاحتلال عبر هذا الأسلوب لتطبيق سيناريو قوى الاستعمار “العصا والجزرة” الذي يستند إلى إطالة أمد الهدوء أطول فترة ممكن وعزل غزة عن بقية الساحات والجبهات لضمان شراء صمت المقاومة الفلسطينية، غير أن هذا التكتيك لم يحقق أهداف الاحتلال.
ومع تواصل تنقيط الصواريخ لا يمكن القول إن ثمة اتفاق كامل بين قوى المقاومة في غزة وتحديدًا الذراعين العسكريين (القسام وسرايا القدس) بشأن الإستراتيجية المستخدمة في هذه المرحلة، على أنه يمكن الجزم باستمرار التنسيق في جولات التصعيد والمعارك الكبرى.