تعمل قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل، على إنجاح مبادرتها للحوار بمعية المنظمات المشاركة معها، لوضع حد للأزمة التي تضرب مختلف المجالات في تونس، لكن يبدو أن الرئيس قيس سعيد غير متحمس لهذا الحوار، وأعلن وفاته حتى قبل انطلاقه.
ظهر هذا جليًا في استهداف قيادة الاتحاد واتهامها بخدمة جماعات سياسية تحت لافتة الحوار، واستهداف المركزية النقابية من الداخل لتفكيك صفوفها، فضلًا عن محاولة خنقها ماليًا، وهو ما رفضه اتحاد الشغل واعتبره بمثابة “إعلان حرب” من سعيد.
جواب سعيد السلبي على مبادرة الاتحاد، ظهر أيضًا من خلال موجة الاعتقالات التي شهدتها تونس في الأيام الأخيرة، التي شملت سياسيين ورجال أعمال وقضاة ومحامين وصاحب أكبر مؤسسة إعلامية خاصة في البلاد.
موجة اعتقالات واسعة
آخر الاعتقالات، تمت مساء أمس الإثنين، وشملت قياديًا في حركة النهضة وكذلك مدير محطة إذاعية واسعة الانتشار، كما تم توقيف القيادي في النهضة نور الدين البحيري بعد مداهمة قوات أمنية منزله، دون ذكر أسباب الاعتقال.
وهي المرة الثاني التي يتم فيها اعتقال البحيري، فقد سبق أن تم توقيفه العام الماضي في إطار تحقيقات في قضية قالت السلطات التونسية إنها تتعلق “بشبهات إرهابية”، ليطلق سراحه لاحقًا، لعدم وجود أي أدلة تدينه في هذه القضية.
في نفس الوقت، فتشت فرقة أمنية منزل المدير العام لإذاعة “موزاييك إف إم” الخاصة نور الدين بوطار وإيقافه، دون الإفصاح لعائلته عن سبب الإيقاف، يذكر أن موزاييك منحت الكلمة لمعارضي سعيد وأنصاره للخوض في الشأن العام في الوقت الذي اقتصر فيه الإعلام الحكومي على بث مقابلات مع أنصار الرئيس فقط.
الجامع بين هذه الاعتقالات، أن جميعها تم دون إذن قضائي وفق المعارضة التونسية
قبل ذلك، اعتقلت الشرطة التونسية المحامي والناشط السياسي لزهر العكرمي، الذي ينشط في جبهة الخلاص وعرف بمعارضته الكبيرة لسعيد، وقبل أيام انتقد العكرمي سلسلة الإيقافات التي عرفتها تونس مؤخرًا، وشبهها بـ”القرابين التي كانت تقدم للآلهة الجائعة في مصر القديمة كي لا يفيض النيل”.
نهاية الأسبوع الماضي، أوقفت عناصر أمنية الناشط السياسي ووزير المالية الأسبق والقيادي السابق في حزب التكتل من أجل العمل والحريات خيّام التركي ووجهت له تهمة “التآمر على أمن الدولة”، على خلفية تنظيمه مأدبة غذاء ببيته على شرف عدد من الوجوه السياسية المعارضة لانقلاب 25 يوليو/تموز 2021، وفق جبهة الخلاص المعارضة.
وتم إيقاف التركي في نفس القضية مع 5 أشخاص آخرين وهم: رجل الأعمال كمال اللطيف – صاحب النفوذ الكبير في الأوساط السياسية – والقيادي السابق بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي و3 أشخاص آخرين، ولم تعلق السلطات التونسية بعد على هذه الإيقافات.
كما شملت موجهة الاعتقالات أيضًا، رئيس محكمة التعقيب السابق الطيب راشد، وقاضي التحقيق السابق البشير العكرمي الذي كان مكلفًا بملف اغتيال السياسيَّين المعارضَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وكان العكرمي قد أقيل من مهامه في يونيو/حزيران الماضي بمرسوم رئاسي بتهمة إخفاء أدلة في ملف الاغتيال قبل إبطال المحكمة الإدارية لإقالته.
سعيد يحل محل القضاء
الجامع بين هذه الاعتقالات أن جميعها تم دون إذن قضائي وفق المعارضة التونسية، ما يعني أن سعيد ليس بحاجة لأذون قضائية حتى يعتقل معارضيه ومنتقدي سياساته، بعد أن حل محل القضاء وسيطر على جزء كبير منه.
ويرى المحامي سلمان الصغير أن “القضاء التونسي مثله مثل مختلف أجهزة الدولة الحساسة يشهد محاولات متكررة وجدية بغية السيطرة عليه خاصة بعد الإعفاءات التعسفية التي اتخذت في شأن عدد من المنتمين إليه من القضاة وخاصة منهم وكلاء الجمهورية ومساعديهم وقضاة التحقيق وغيرهم”.
لم يتمكن سعيد بعد من السيطرة الكلية على القضاء، وفق الصغير، لكنه أفلح في استغلال جزء كبير منه لتنفيذ أجنداته ومحاصرة معارضيه، حتى يهيئ لنفسه الطريق وتنزيل برنامج حكمه الفردي الذي يذكر التونسيين بسطوة الرئيس المخلوع بن علي.
#تونس #الانقلاب يعتقل المعارض البارز #عبد_الحميد_الجلاصي وشخصيات أخرى..نظام يعوض عن فشله في #انتخابات هزيلة بخلط الأوراق عبر حملة اعتقالات لخصومه#يسقط_الانقلاب_في_تونس #قيس_سعيد يطبع مع المجرم #بشار_الأسد ويعتقل خصومه السياسيين #مساء_الخير
— Jalel Ouerghi جلال الورغي (@jalelouerghi) February 11, 2023
في علاقة بالإيقافات الأخيرة، يؤكد محدثنا أن “وزارة الداخلية تنطلق في إجراء تقارير شفاهية تكبل بها القضاة وخاصة قضاة النيابة العمومية لتجعلهم أمام تلك التقارير ملزمين باستحضار ما حدث لزملائهم في فتح الأبحاث اللازمة وإصدار البطاقات القضائية الضرورية في تلك الملفات”.
يُذكر أنه منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية في 25 يوليو/تموز 2021، عمل سعيد على استهداف القضاء بصفة متتالية قصد السيطرة عليه، وأسند مهمة ذلك إلى زوجته وشقيقتها، فهي الأكثر دراية في محيط الرئيس بملف القضاء.
إسكات المعارضة
يرى سلمان الصغير أن “الهدف الرئيسي لهذه الإيقافات هو إسكات كل نفس معارض في تونس خاصة بعد النتائج المخجلة التي تم تحقيقها في الانتخابات التشريعية التي نُظمت نهاية الشهر الماضي ولم تتجاوز نسبة التصويت فيها 11.2%”.
يضيف محدثنا “يبدو أن السلطة القائمة وفي ظل عجزها عن إيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ الوضع انتهجت مسار تحريك الملفات القضائية والقيام بنوع من الغربلة السياسية القضائية لفسح المجال وتمهيد الطريق لاستمرار النظام الحاليّ دون معارضة جدية”.
من المستبعد أن تتوقف حملة سعيد ضد معارضيه السياسيين، فهدفه الأول تثبيت نظريته للحكم القائمة على أطروحة النظام القاعدي ومركزة كل السلطة بين يديه
في خصوص اعتقال رجل الأعمال كمال اللطيف المعروف عنه قربه الشديد من رجال السياسة وتحكمه بعض الشيء في العملية السياسية في البلاد قبل الثورة وبعدها، يقول الصغير إن الهدف منه “تقديم سردية معينة شعارها مقاومة الفساد والتطهير على حد عبارة الرئيس”.
وقبل أيام قليلة، دعا قيس سعيد الحرس الوطني للتصدي لمن وصفهم بأعداء الوطن، بالتزامن مع إعلانه التمديد في حالة الطوارئ التي كان يقول قبل توليه الرئاسة إنها غير قانونية، وتمنح حالة الطوارئ وزارة الداخلية التونسية صلاحيات استثنائية، من بينها منع الاجتماعات وحظر التجوال والإضرابات العمالية وتفتيش المحلات ومراقبة الصحافة والمنشورات والبث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية، وهذه الصلاحيات تُطبق دون وجوب الحصول على إذن مسبق من القضاء.
أمر غير مستغرب
في مقابل ذلك، لم يستغرب المحلل السياسي التونسي سعيد عطية، ما يحصل من إيقافات في صفوف رجال الأعمال والسياسيين والقضاء والإعلاميين، قائلًا إنه كان سيستغرب لو لم يحصل هذا الأمر، فذلك نهج الرئيس سعيد من البداية، وفق قوله لنون بوست.
يقول عيطة لنون بوست: “ما حصل وسيحصل هو أمر عادي جدًا في نظام فردي ديكتاتوري انقلابي، فكل شيء متاح عند سعيد الذي أحكم سيطرته على أغلب مؤسسات الدولة وطوّعها خدمة لمشروع حكمه الخاص، غير مبالٍ بالشعب التونسي”.
قيس سعيد يرهب المعارضين.. حملة اعتقالات في #تونس #قناة_الشعوب pic.twitter.com/xsHvuzEm8t
— قناة الشعوب (@AlshoubTv) February 12, 2023
يرى عطية أن الرئيس يهدف من وراء حملة الاعتقالات الأخيرة إلى “ضرب كل محاولة لتجميع معارضيه في جبهة سياسية، ومن ناحية ثانية استعادة شعبيته المتراجعة تحت شعار “الدولة القوية التي تقاوم الفساد””.
وأضاف محدثنا “سعيد يستغل في كل ذلك هدايا المعارضة المتشتتة التي لم تجدد قياداتها وتلميح البعض منهم لضرورة الانقلاب على الانقلاب، ونفور جزء كبير من الشعب التونسي منهم كونهم لم يقدموا أي إضافة للمشهد السياسي حتى الآن”.
من المستبعد أن تتوقف حملة سعيد ضد معارضيه السياسيين، فهدفه الأول تثبيت نظريته للحكم القائمة على أطروحة النظام القاعدي ومركزة كل السلطة بين يديه، وهذا لن يكون إلا بعد إسكات كل صوت معارض له وإقصاء كل المعارضين عن طريقه، فهل تتحمل تونس ذلك؟