تأتي زيارة وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد إلى القاهرة التي أجراها أمس السبت 1 أبريل/نيسان 2023 ضمن حزمة من التحولات السياسية التي تشهدها المنطقة إزاء أكثر من ملف، وكان للملف السوري نصيب الأسد في تلك التحولات التي تشي بتغيرات محتملة في موقع سوريا على رادار الأنظمة العربية.
وعلى هامش الزيارة التي تعد الأولى لوزير خارجية النظام السوري لمصر منذ 2011، التقى المقداد نظيره المصري سامح شكري، حيث “عقدا لقاءً ثنائيًا مغلقًا أعقبته جلسة محادثات موسعة، تناولت مختلف جوانب العلاقات الثنائية وسبل دفعها وتعزيزها، وعددًا من الملفات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك”، فيما أكد الوزير المصري على دعم بلاده “لجهود التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية في أقرب وقت”، كذلك دعم الجهود الأممية في هذا الصدد و”أهمية استيفاء الإجراءات المرتبطة بتحقيق التوافق الوطني بين الأشقاء السوريين، وبناء الثقة، ومواصلة اجتماعات اللجنة الدستورية السورية” بحسب البيان الصادر عن وزارة الخارجية المصرية.
وتمثل تلك الزيارة حلقة في سلسلة مطولة من الجهود الدبلوماسية المبذولة خلال الآونة الأخيرة لدمج النظام السوري في التكتل العربي الإقليمي بعد سنوات من العزلة جراء الانتهاكات التي مارسها هذا النظام بحق شعبه وارتقت في كثير منها إلى منسوب جرائم ضد الإنسانية، أطاح فيها بمئات آلاف المدنيين وشرد عشرات الملايين خارج بلادهم.. فهل بات إنهاء عزلة الأسد مسألة وقت؟ وهل تكون القاهرة هي البوابة الرئيسية لعودة النظام المثقل بهذا الإرث الدموي الثقيل إلى الحضن العربي مرة أخرى؟
السيد سامح شكري وزير الخارجية يعقد الآن لقاءً ثنائياً مغلقاً مع نظيره السوري الدكتور فيصل المقداد.@syrianmofaex pic.twitter.com/G0YYBte5dJ
— Egypt MFA Spokesperson (@MfaEgypt) April 1, 2023
جهود دبلوماسية مكثفة.. سياق مهم
الآونة الأخيرة شهدت انفتاحًا غير مسبوق على نظام الأسد، بل إن مواقف بعض الحكومات شهدت انقلابًا جذريًا في التوجهات، كما هو حال الرياض وأنقرة، فالسعودية التي كانت على رأس الدول المعادية للنظام السوري وسحبت جميع الدبلوماسيين والعاملين في سفارتها لدى دمشق في مارس/آذار 2012 بسبب جرائم الأسد بحق المعارضة، ها هي اليوم تعيد النظر في تلك التوجهات عبر مغازلة النظام السوري من خلال بعض التصريحات التي جاءت على لسان وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، حين أشار أن “إجماعًا بدأ يتشكل في العالم العربي حول لا جدوى من عزل سوريا، وأن الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما”، مضيفًا “لذلك، ينبغي أن يمر ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما، بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الأكثر أهميةً، خاصةً فيما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين وما إلى ذلك”.
ثم جاء الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في 6 فبراير/شباط الماضي ليفتح الباب على مصراعيه أمام العديد من الحكومات والأنظمة لتعميق العلاقات مع الأسد، حيث زار وزراء خارجية مصر والأردن والإمارات دمشق لأول مرة منذ عقد كامل، كما هبطت طائرات مساعدت مصرية وجزائرية وسعودية المطار السوري وتحت إشراف النظام هناك في سابقة لم تحدث منذ سنوات.
حتى على المستوى التركي، وبعد سنوات من الحرب – ولا تزال – مع نظام الأسد، بدأت أنقرة تعيد النظر في هذا الصدام الممتد، حيث التقى وزيرا دفاع تركيا والنظام في موسكو أواخر العام الماضي، فيما أعرب الرئيس التركي ذاته رجب طيب أردوغان عن اهتمامه بالاجتماع مع بشار الأسد، فيما تتواصل الزيارات والاتصالات بين الطرفين بشكل مكثف في إطار الجهود الرامية لتقريب وجهات النظر وربما التطبيع بينهما.
هذا الحراك الدبلوماسي والانفتاح الواضح على النظام السوري أسال لعاب الأسد ومنحه قوة دفعته للقيام بزيارتين خارج البلاد خلال مارس/آذار الماضي، الأولى إلى روسيا والثانية إلى الإمارات، وفي كلتيهما استقبل استقبالًا رسميًا لأول مرة منذ قطع العلاقات معه في 2011، فيما تتناقل بعض وسائل الإعلام احتمالية عقد لقاء قريب بينه والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تمهيدًا لإعادة تسمية السفراء بين البلدين.
من أسفل الطاولة لسطحها.. محركات ودوافع
يمكن قراءة فتح القاهرة أبوابها أمام وزير خارجية نظام الأسد في إطار مساعي الدولة المصرية هندسة سياستها الخارجية مرة أخرى، متزحزحة بشكل أو بآخر عن الكثير من المرتكزات التي استندت إليها طيلة السنوات العشرة الأخيرة وأفقدتها الكثير من حلفائها ووسعت الفجوة مع القوى الإقليمية ذات النفوذ القوي في المنطقة.
وضمن هذا السياق تحركت القاهرة في مسارات متوازية لتقريب وجهات النظر مع الدوحة وأنقرة بعد فترات من الجفاء والخصومة وصلت إلى مستويات كان من الصعب معها الحديث عن أي تقارب محتمل على المدى القريب، غير أن التطورات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة غيرت الكثير من قواعد اللعبة وفرضت البرغماتية كإستراتيجية سياسية من الطراز الأول.
العلاقات بين نظام عبد الفتاح السيسي ودمشق – وعلى عكس الموقف السعودي مثلًا – كانت تسير في إطار التناغم والتنسيق وتبادل الزيارات وفتح قنوات اتصال، فمنذ الوهلة الأولى لتولي السيسي المسؤولية أعلن دعمه الكامل للجيش السوري ونظامه في مواجهة المعارضة التي دومًا ما كانت توصف في الخطاب الإعلامي الرسمي المصري بـ”الجماعات الإرهابية”.
وخلال السنوات الماضية كانت هناك قنوات اتصال مستمرة بين القاهرة ودمشق، من أبرزها اللقاء الذي تمَّ على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر/أيلول 2021، الذي جمع وزير الخارجية المصري مع نظيره في النظام السوري فيصل المقداد.
رغم عدم فاعلية نظام الأسد في السياسات الإقليمية، فإن منظومة داعميه من القوى الإقليمية والدولية استطاعت إدخاله في الصفقات السياسية الجارية، مستغلة الأهمية الجيوسياسية للدولة السورية
ورغم ذلك كان الجانب المصري يتجنب التخندق بشكل كامل مع نظام الأسد خشية توتير العلاقات مع الرياض والعواصم الخليجية، فضلًا عن الأمريكان، وعليه كان الميل نحو مسك العصا من المنتصف هو السمة الأبرز للسياسة المصرية إزاء دمشق طيلة السنوات الماضية، لكن الوضع اليوم تغير كثيرًا، فتح قنوات اتصال بين الرياض ودمشق من جانب، وأنقرة ودمشق من جانب آخر، فضلًا عن تعاظم المزاج العربي الراغب في إعادة سوريا للحضن العربي مرة أخرى، هذا بخلاف الموقف الروسي الصيني الداعم لهذا التوجه كأحد مرتكزات إستراتيجية إنهاء القطبية وتدشين عالم متعدد الأقطاب.
تلك التغيرات حفزت القاهرة لإخراج العلاقات مع دمشق من تحت الطاولة إلى سطحها، ليتوجه وزير الخارجية المصرية لدمشق في زيارة هي الأولى منذ تولي السيسي الحكم، يليها رد سريع عبر دعوة المقداد لزيارة مصر، وسبقها اتصال هاتفي بين السيسي والأسد في أثناء كارثة الزلزال، وحديث عن قمة محتملة بينهما خلال الشهر الحاليّ.
فشل المعارضة السورية على المستوى الداخلي والخارجي كان أحد الأسباب التي عجلت بتعويم نظام الأسد، هكذا يرى الكاتب حسام كنفاني، الذي يقول في مقال له: “عدم قدرة المعارضة في إيجاد بديل حقيقي للنظام وتشرذمها واستزلامها وتقديمها نماذج أقلّ ما يقال عنها إنها معيبة في المناطق التي سيطرت عليها كان أحد الدوافع الرئيسية وراء تغيير الأنظمة المعادية للأسد من مواقفها السابقة”.
وحمّل كنفاني – مع المعارضة – أطرافًا إقليميةً من بينها دول عربية مسؤولية هذا الفشل وتقسيم المعارضة وتفتيتها من خلال تحويلها إلى منصات سياسية متقاتلة ومتناحرة، هذا بخلاف تفريغها من الكثير من الأسماء التي كان يمكنها أن تشكل ثقلًا سياسيًا كبيرًا وقادرة على أن تقدم البديل في مواجهة نظام الأسد.
هل تكون القاهرة بوابة العودة؟
تحاول القاهرة استعادة بريقها الإقليمي المتراجع خلال الفترة الأخيرة جراء السيولة التي شهدتها خريطة التحالفات في المنطقة التي فككت الكثير من السلاسل التحالفية القوية التي كان يعتمد عليها النظام المصري الحاليّ، وربما يكون الملف السوري أحد الجسور القوية التي يمكن للدولة المصرية استعادة حضورها من خلاله مجددًا.
المزاج العام الحاليّ – في كثير من مساراته – يميل إلى إعادة دمشق للحضن العربي ودمجها في السياسات الإقليمية مرة أخرى، وتبقى العملية مسألة وقت انتظارًا للتوافق الكامل داخل أروقة الجامعة العربية، فهذا الملف من الملفات الشائكة المنقسم عليها، هذا بخلاف بعض التحديات التي يمكن أن تعرقل أي خطوات تقدمية بشأنه، على رأسها موقف نظام الأسد من إيران، فرغم الاتفاق السعودي الإيراني الأخير برعاية الصين، فإن دافع الرياض الأول في التقارب مع دمشق هو محاولة فك اللحمة بينها وبين طهران، وهو أمر غاية في الصعوبة بالنسبة للأسد واختيار من المرجح ألا ينجح فيه في ظل تشابك العلاقات مع الدولة الإيرانية أحد أبرز الداعمين له في مواجهة المعارضة والمجتمع الإقليمي والدولي.
من السابق لأوانه تحميل الزيارة فوق ما تحتمل، وهو ما تكشفه ردود وزير الخارجية المصرية على أسئلة الصحفيين بشأن عودة سوريا للجامعة العربية، يبدو أن الأمر لم يحسم بعد، وأن هناك مشاورات ستجريها القاهرة مع الرياض وعمان لتقييم الأمور من كل الجوانب
ويتفق مع هذا الطرح الخبير في العلاقات الدولية محمد الزواوي الذي يرى أنه رغم عدم فاعلية نظام الأسد في السياسات الإقليمية، فإن منظومة داعميه من القوى الإقليمية والدولية استطاعت إدخاله في الصفقات السياسية الجارية، مستغلة الأهمية الجيوسياسية للدولة السورية، أما فيما يتعلق بعودة المقعد السوري للجامعة العربية فيتوقع أن يكون ذلك خلال القمة المقبلة في السعودية أو التي تليها على أقصى تقدير، مبررًا بذلك بأن هذا الملف بات “ورقة تفاوضية لمختلف الأطراف فيما يتعلق بإعادة ترتيب خريطة التحالفات الإقليمية”.
كانت هناك بعض الأصوات التي تقول بأن الولايات المتحدة ستقف عائقًا أمام التطبيع مع نظام الأسد، إلا أن الصمت الرسمي المخيم على واشنطن إزاء هذا الحراك السياسي ومساعي التعويم المعلنة كان صادمًا للجميع، فيما فسره آخرون برغبة أمريكا في عدم إسقاط هذا النظام بالكلية خشية تكرار السيناريو الليبي حيث الفوضى العارمة وتفشي الجماعات المسلحة النظامية المنبثقة من الجيش السوري حال تفكيكه، وهو ما قد يشعل المنطقة بأكملها، وعليه قد لا تمانع الولايات المتحدة في ذلك لكنها ستضغط قدر الإمكان حتى يبقى الأسد داخل إطاره المرسوم له بحيث لا يتم تجاوزه بأي حال من الأحوال.
من السابق لأوانه تحميل الزيارة فوق ما تحتمل، وهو ما تكشفه ردود وزير الخارجية المصرية على أسئلة الصحفيين بشأن عودة سوريا للجامعة العربية، يبدو أن الأمر لم يحسم بعد، وأن هناك مشاورات ستجريها القاهرة مع الرياض وعمان لتقييم الأمور من كل الجوانب، وبحث جدوى تلك الخطوة من عدمها في ضوء لعبة التوازنات والمصالح، إلا أن الزيارة في حد ذاتها وما يثار بشأن تسليم المقداد دعوة للسيسي لزيارة دمشق تعد خطوة مهمة في هذا السياق.