برحيل الملك عبد الله بن عبد العزيز فقدت المصالحة المصرية القطرية وهجها، وفُتح الباب أمام تكهنات عدة حول مستقبل المصالحة، التي يبدو أنها ماتت في مهدها، يمكن القول بأن المصالحة تعتبر مؤشرًا هامًا يمكن من خلاله تحديد مستقبل المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة.
لعبت المملكة العربية السعودية دور الوسيط الأساسي بالضغط على الطرفين تارة وتقريب وجهات النظر تارة أخرى، ولعل تهديد قطر بإلغاء القمة الخليجية المزمع انعقادها في الدوحة، وسحب سفراء دول خليجية من الدوحة، إضافة إلى تشنج الخطاب الإعلامي ضد قطر، وقد يفسر ذلك إشارة أمير دولة قطر في كلمته الافتتاحية للدورة الـ 35 لقمة قادة مجلس التعاون الخليجي قال فيها: ” تعلّمُنا التجاربُ الأخيرة ألا نسرع في تحويل الخلاف في الاجتهادات السياسية وفى تقدير الموقف السياسي، والتي قد تنشأ حتى بين القادة، إلى خلافات تمس قطاعات اجتماعية واقتصادية وإعلامية وغيرها”.
وبالفعل نجحت قطر في ترميم علاقتها بدول الخليج الأخرى، وعاد السفراء لمزاولة أعمالهم بعد أن تم سحبهم في 5 مارس 2014، على خلفية دعم قطر لمناوئي نظام الانقلاب العسكري في مصر، وبالتالي تكون قطر هي من كسب الرهان حتى الآن، لاسيما وأنها لا تعاني ما يعانيه النظام المصري من تحديات سياسية واقتصادية وأمنية.
مؤخرًا؛ جاء قرار مجلس الأمن لصالح موقف الجزائر وتونس وقطر، الرافض لأي ضربات عسكرية مصرية في ليبيا، بدعوى مكافحة ما يسمى بـ “الإرهاب”، تسبب ذلك في توجيه اتهامات لقطر بدعم الإرهاب، من قِبل ممثل النظام المصري في الجامعة العربية، وهو ما دفع الدوحة لدعوة سفيرها للتشاور، فضلًا عن بيان مجلس التعاون الخليجي أدان اتهام دولة قطر، بل إنه وبصورة غير مباشرة دفع عن قطر تهم تبنتها “إسرائيل” ضد التحركات القطرية في المنطقة.
وقد راهن النظام المصري على إمكانية استجابة القوى الإقليمية والدولية المتشكلة في الحلف الدولي ضد تنظيم الدولة “داعش”، لوضع ليبيا تحت مظلة التحالف.
وفي هذا السياق تأتي أهمية التحليل للتنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في ظل المتغيرات المكوكية التي تشهدها المنطقة.
أولًا: خلفيات المواقف السياسية
يسعى كل طرف لتحقيق مكاسب سياسية سواء طرفي المصالحة أو الوسطاء “السعودية” وتتثمل تلك الأهداف في الآتي:
دوافع وأهداف خليجية
بعد الاضطرابات التي شابت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي، والاختلالات الناجمة عن قيام ثورات مضادة بدول الربيع العربي، وجدت إيران الفرصة سانحة وهرولت لسد الفراغ في المنطقة، استفز ذلك دول الخليج وجعلها تشعر بحالة من الخطر على أمنها القومي، حينها توجب على تلك الدول الإسراع في نزع فتيل الخلافات البينية، ليتسنى لها الانتقال إلى السيطرة على مسار الأحداث في محيطها الإقليمي والتحكم في مجريات الأحداث، وهو ما حصل بالفعل، ولعل ما يفسر زيارة عبد اللطيف الزياني الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي يوم 25 فبراير2015، ومعه سفراء الدول الست مجتمعة، التي التقى خلالها الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، بعد انتقال الأخير إلى العاصمة الاقتصادية عدن، عقب محاصرته من قِبل الحوثيين.
الأهداف المصرية
لا يحتمل النظام المصري المثقل بالديون والتحديات الاقتصادية فضلًا عن الاضطرابات الأمنية والسياسية، مزيدًا من الأعداء، خاصة مع دولة تمتلك وسائل التأثير، ماليًا وإعلاميًا كشبكة الجزيرة الإعلامية والتي ينظر إليها النظام المصري، كعامل مؤثر في تأجيج الشارع المصري، وبالتالي يمكن القول بأن مصر استجابت على الفور للمصالحة بغية تحقيق أهداف إعلامية وسياسية واقتصادية.
إعلاميًا؛ من خلال المصالحة يهدف النظام المصري إلى إلجام قناة الجزيرة ومنعها من تغطية المظاهرات ورصد الانتهاكات في الداخل المصري.
سياسيًا؛ يسعى النظام المصري لإضعاف تحالف دعم الشرعية المناوئ لحكم العسكر “الانقلابي” بتحييد دور قطر الداعم لتحالف.
اقتصاديًا؛ يحاول النظام المصري استرجاع الوديعة القطرية المقدرة بـ 3 مليار دولار لإنقاذ النظام المصري المتهالك، وضمان حضور قطر في المؤتمر الاقتصادي المزمع انعقاده في شرم الشيخ.
المحصلة؛ أن الإعلام المصري ومنذ بداية الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، يحاول تقديم صورة للشعب مفادها أن نظام السيسي نظام قوي، يمكن الاعتماد عليه في مواجهة أي تحديات أمنية كانت أو سياسية أو حتى اقتصادية، هذه الصورة الخيالية كلفت النظام ثمن الترويج لها وترجمتها إلى واقع فعلي، حيث حاول اتخاذ إجراءات وقرارات تبدو أكبر بكثير من إمكانياته، مثل ضربات عسكرية في الأراضي الليبية، وطلب تفويض لتدخل عسكري فيها، وكذلك قدرته في مقارعة دول تفوقه اقتصاديًا، وتتمتع باستقرار سياسي، كتركيا وقطر الذي يصنفهم النظام على أنهم ألد الأعداء له.
الأهداف القطرية
لعبت دولة قطر أدوارًا محورية ومرت بمرتكزات هامة وحساسة على المستوى الإقليمي والدولي، تم على إثرها تتبع ورصد تحركاتها من قِبل القوى الإقليمية الأخرى، أهمها دولة إسرائيل التي تقود حملة دولية ضد قطر واتهامها بتمويل الإرهاب، كما نشر مركز “بيغن للدراسات الإستراتيجية” والذي يوصف بالعقل المدبر للقرار الإسرائيلي، وكما توعد قادة إسرائيليون في أكثر من مناسبة بملاحقة دولة قطر دوليًا.
ثمة أهداف وراء ترحيب قطر لدعوة الملك عبد الله بالمصالحة مع النظام المصري:
حاولت قطر تجنب العزلة الخليجية، التي تقترب منها كلما وقفت ضد نظام الانقلاب المصري المدعوم خليجيًا.
الحفاظ على كينونة مجلس التعاون الخليجي، الذي تعتقد أنه لم يتبق في المنطقة العربية مكون أقوى منه للوقوف ضد التهديدات الخارجية وحماية المصالح المشتركة.
تسعى قطر للعودة لطور البداية كدولة متميزة في حل النزاعات، والتأكيد للعالم أنها تجيد هذا الدور تمامًا، وأنه يمكن إسناد قضايا هامة في المنطقة إليها.
ثانيًا: تحديات مشركة
بالرغم من ترحيب الطرفين بمبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز، ورغم أن بعض الإجراءات قد دخلت حيز التنفيذ، مثل خفوت حدة التراشق الإعلامية حينها، وتقديم تنازلات سريعة من الجانبين، لإثبات حسن النوايا، ورغم إصدار مصر قرار يفضي بإقالة مدير المخابرات اللواء محمد فريد التهامي والذي يُعد أحد أهم رجال السيسي، وقد عُرف بكراهيته الشديدة لحركة حماس والإسلاميين بشكل عام، ولعل ترحيب حماس بالمصالحة واعتبارها دعمًا للقضية الفلسطينية يؤكد ذلك، وقد تناولت ذلك الصحف الإسرائيلية بشكل لافت.
قطر من جانبها قامت بإغلاق قناة الجزيرة مصر بشكل مؤقت حسب بيان إدارة القناة، كما قامت قناة الجزيرة الإخبارية بإحداث تغييرات بسيطة في سياستها التحريرية، حيث يعتقد أن قناة الجزيرة تمثل معيار المصالحة، ولكنها سرعان ما عادت إلى نهجها الأول بعد وفاة الملك عبد الله الراعي الأول للمصالحة، كما هو الحال لدى الإعلام المصري الذي يفتقر إلى المهنية بشكل عام.
المصالحة تواجه تحديات شائكة، قد تجعل من الصعوبة بمكان التكهن بنجاح المصالحة من فشلها، فالتعاون الأمني بين مصر وإسرائيل يشكل أحد العوائق، ويبقى السؤال المحوري، هل لدى النظام المصري القدرة على التخلي عن علاقته بـ “إسرائيل”.
كما هو الحال مع قطر وعلاقتها بتركيا، التي لم تعترف بسلطة الانقلاب المصري حتى الآن، وتعتبرها سلطة غير شرعية، وتستضيف قيادات من تحالف دعم الشرعية المناهضة للانقلاب المصري، بالإضافة إلى بث قنوات فضائية تابعة للتحالف من الأراضي التركية.
انشغال القيادة الجديدة في المملكة السعودية بملفات أكثر خطورة، قد يؤجل التوجه في المضي قدمًا في تنفيذ المصالحة المجمدة.
وفي الأخير يمكن الاستنتاج بأن ما يقف في طريق المصالحة هو اختلاف المشاريع المتعارضة لكلٍّ من الطرفين، إلا أن المخاطر والاضطرابات التي تعصف بالمنطقة بشكل عام، قد تدفع الطرفين للتعاون والتقارب للحفاظ على المصالح المشتركة والأمن في المنطقة.
ثالثًا: سيناريوهات مستقبلية
إذا ما أخضعنا السيناريوهات للمصالحة، فيمكن القول إنها ذهبت أدراج الرياح، ولكن السيناريوهات هنا تتكلم عن مستقبل العلاقات المصرية القطرية بشكل عام:
سيناريو التنفيذ النسبي: بالرغم من المستجدات الخطيرة إلا أن الخيارات تبدو محدودة أمام جميع الأطراف، فمن المتوقع أن تدفع المملكة نحو تهدئة الأوضاع، والشروع في مفاوضات سياسية بين الدولتين وعودة العلاقات إلى حدها الطبيعي، عندها يمكن للسعودية وقطر تبني حوارات بين الفرقاء السياسيين في الداخل المصري، يتم على إثرها إشراك جميع الأطراف في الحكم، وإطلاق السجناء السياسيين، وهذا قد ينعكس على العلاقة بين النظام المصري وحركة حماس، وقد يصل الأمر إلى تطبيع العلاقات مع تركيا.
سيناريو تجميد المصالحة: وهو أن تحافظ المملكة على علاقتها بالنظام المصري بصورة متوازنة، وتخفف السعودية الضغط على قطر بخصوص تطبيع علاقاتها مع النظام المصري، وأن تشهد العلاقات السعودية القطرية تحسنًا ملحوظًا، ويؤسس البلدان قنوات اتصال فعّالة، يتم من خلالها بناء تحالفات إقليمية جديدة، وقد تسعى قطر لتقارب وجهات النظر بين السعودية وتركيا، ومن المتوقع أيضًا عدم مشاركة الإمارات ومصر في هذا التحالف، عندها تتعرض دولة الإمارات والنظام المصري لضغوطات خليجية، إلا إذا عاد الحكم مرة أخرى لتيار متعب بن عبد الله وخالد التويجري في المملكة، وفي حال تركت مصر والإمارات فقد تفتحا قنوات اتصال مع إيران نكاية بدول الخليج الأخرى وتركيا.
في حال استشعر الجميع حجم المخاطر التي تحيط بالمنطقة من بوادر حروب أهلية شاملة وتدخلات دولية غير معهودة، فإن السيناريو الأول هو الأقرب للتحقق إن توفر شرط قبول الأطراف المصرية بالحوار برعاية خليجية، وبضمانات دولية، وإلا فإن السيناريو الثاني هو ما سنشهده، أما فيما يخص التقارب السعودي التركي فيبدو أنه في طريقه للتحقق وقد يمثل تسليح المعارضة السورية “المعتدلة” نقطة البداية.
المصدر: مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث