وُضِع الدستور الموجود في تركيا حاليًا عام 1982 إثر الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان إيفرين عام 1980؛ والذي توفي قبل بضعة أيام عن عمر يناهز الـ 98 عامًا، وقد نصّب إيفرين نفسه في تلك الفترة رئيسًا للبلاد واضعًا صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية واسعة لمنصب رئاسة الجمهورية كي يُحكم قبضته على النظام السياسي في البلاد.
وينص دستور عام 1982 وفق المادة 8 على أن السلطة التنفيذية تُمارَس وتنفذ من قِبل رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء (من ضمنه رئيس مجلس الوزراء)، وبرغم الصلاحيات الواسعة التي منحها هذا الدستور لموقع رئاسة الجمهورية وفق المادة 104 (الفقرات: أ، ب،ج)، فقد بقي النظام السياسي برلمانيًا، حيث يقوم الشعب باختيار ممثليه الذين يقومون بدورهم باختيار رئيس للجمهورية في وقت يعرض فيه رئيس الحكومة حكومته على البرلمان لنيل الثقة، ويكون دور رئيس الجمهورية في النظام البرلماني رمزيًا ولا يستخدم بعض الصلاحيات المنصوص عليها إلا في الحالات القصوى والاستثنائية والبعض الآخر في حدوده الدنيا، وقد جرت عادة الرؤساء اللاحقين على اتباع هذه القاعدة.
في العام 2007، أُدخلت بعض التعديلات على بعض مواد الدستور من بينها تعديلات تنص على انتخاب رئيس الجمهورية من قِبل الشعب مباشرة لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، لقد كان هدف أردوغان تحويل النظام السياسي إلى نظام رئاسي لكنه لم يستطع تحقيق ذلك نظرًا لمصاعب عدة واجهته، فبقي الأمر معلقًا في الوسط.
بعد انتخاب أردوغان رئيسًا لتركيا باقتراع شعبي مباشر في أغسطس 2014 وتأكيده على أنه لن يكتفي بدور رمزي وبأنه سيكون رئيسًا نشطًا، ومع رئاسة أردوغان للحكومة عدة مرات، أصبح لدينا نظام سياسي غير واضح المعالم، فلا هو برلماني صرف (لأن الرئيس يتمتع بصلاحيات واسعة ولأنه منتخب من الشعب مباشرة)، ولا هو في الوقت نفسه نظام رئاسي صريح (لأنه لايزال لدينا رئيس حكومة ومجلس وزراء ينال الثقة من البرلمان).
عمليًا، أصبح النظام السياسي قريبًا من النظام نصف الرئاسي أو شبه الرئاسي دون أن يكون كذلك مئة بالمئة، ودون أن ينص الدستور على ذلك صراحة، هذه الحالة من الجمع بين نظام برلماني وبين رئيس منتخب من قِبل الشعب مباشرة بصلاحيات واسعة ومفعّلة، يخلق وضعًا شاذًا لا يمكن للنظام السياسي معه أن يعمل بشكل صحيح لأنه يخلق حالة من عدم التوازن بين السلطات ومن التضارب في الصلاحيات أيضًا.
تمّ تجاوز هذه المعضلة مؤقتًا نظرًا لأن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من نفس الخط السياسي، ولأن رئيس الوزراء لا يصطدم مع رئيس الجمهورية، فإن الأمور لاتزال تسير على ما يرام، لكن هذه المعادلة غير مستقرة ودقيقة ولا يمكن أن تصمد لفترات طويلة، وهي تقوض وفق كثيرين من عملية الفصل بين السلطات وتعمل على تآكل دولة المؤسسات والقانون.
وقد شكّل هذا المعطى دافعًا إضافيًا لحزب العدالة والتنمية للإسراع في تعديل النظام السياسي إلى نظام رئاسي، لكنّ تحقيق هذا الهدف يتطلب منه إمّا الحصول في الانتخابات البرلمانية المقبلة في 7 يونيو 2015 على أكثر من ثلثي أصوات البرلمان أي 367 مقعدًا من أصل 550 ليعدله بشكل أوتوماتيكي دون الحاجة إلى رأي أو مساعدة أي أحد، وإما الحصول على 333 من أصل 550 تخوّله طرح التعديل الدستوري على الاستفتاء العام.
المفارقة هنا أن جميع الأحزاب تقريبًا في تركيا تريد دستورًا جديدًا للبلاد، لكن غالبيتها يرفض تحويل النظام إلى نظام رئاسي فاعل باستثناء حزب العدالة، وعلى فرض أن حزب العدالة فشل في الحصول على أي من هذين الخيارين المذكورين لتحويل النظام إلى نظام رئاسي، فإن النظام سيبقى على وضعه الحالي الهجين وهي صيغة ربما أسوأ من غيرها لأن النظام الهجين ( غير برلماني وغير رئاسي) سيترسّخ حينها وسيكون مصدرًا لحالة عدم الاستقرار في البلاد.
وفي الوقت الذي تلعب فيه أحزاب المعارضة على وتر معارضة تحول النظام السياسي في البلاد إلى نظام رئاسي من أجل كسب المزيد من الأصوات كما يفعل “حزب الشعوب الديمقراطية” الكردي الذي يقول صادقًا إن حصوله على 10% من أصوات الناخبين سيعرقل مشروع حزب العدالة والتنمية بالتحول إلى نظام رئاسي، يلعب الأخير الورقة بشكل معكوس، إذ يحض أنصاره على التصويت من أجل تعديل الدستور والتحول إلى نظام رئاسي أكثر فعالية واستقرارًا وإنتاجًا.
وبين هذا وذلك، سيكون صوت الناخب التركي هو الفصل في الموضوع، علمًا أن استطلاعات الرأي الحالية التي أُجريت مؤخرًا لم تحسم الأمر حتى الآن، فمازالت هناك استطلاعات تشير إلى إمكانية أن يحصد الحزب الكردي قرابة الـ 10% من أصوات الناخبين (وإن كان كثيرون يعتقدون أنه أمر صعب جدًا)، فيما تشير أخرى إلى أنه سيفشل.