لن تجد في التاريخ سؤالًا مؤرقًا وأكثر إلحاحًا على المؤرخ من سؤال نشوء الحضارات وانهيارها، كيف يحدث وما الذي يؤدي إليه؟ والأهم منه سؤال طرحه جارد دايموند في حديثه عن انهيار المجتمعات وهو: لماذا لا تتدارك المجتمعات انهيارها ولا تلحظه؟ والذي يبدو جوابًا مقنعًا على سؤال كهذا هو أن الانهيار ربما كان سريعًا جدًا بحيث لا يمكن تداركه، أو بطيئًا جدًا بحيث لا يُلحظ.
لكن هذا الجواب يغفل الإجابة عن سؤال أهم، وهو ما الذي يحدد أن مجتمعًا ما قد انهار وتداعى؟ وما الذي إذا خلا منه المجتمع اعتبر مجتمعًا منهارًا؟
لم يكن سؤال كهذا ليؤرق ابن خلدون وهو الذي رأى روعة غرناطة، وملك بني مرين بفاس، وشهد عظم أنحاء مصر الكنانة أيام المماليك، لولا تنبهه لمعالم الانهيار الخفية، ولولا علمه بأن الغفلة عن هذا الانهيار هي ما يسود في مجتمعات الخراب، والسبب في الغفلة هو عدم إدراك معالمها أولًا، ولأن الانهيار في العادة يحصل في أزمان متطاولة بحيث لا يمكن معها ملاحظة التداعي.
يقدم فيلم MAD MAX الأخير صورة لهذا السؤال، في عصر متخيل ما بعد المجتمع، محاولة لوصف الانهيار والخراب، على أن هذه المحاولة مغرقة في الخيال، حيث تتحدث عن مآلات ربما تكون بعيدة عن التصور بالنظر إلى الأحوال الحاضرة، لكنها لا شك صورة يمكن أن تنبه إلى حالة الإنسان في عصر ما بعد الحضارة، حيث يصبح المجتمع أكثر بساطة، وتصبح حاجاته مختزلة في الضروري فقط، وتتقلص دوافعه ومحركاته إلى دافع واحد فقط هو البقاء على قيد الحياة، يمثل “ماكس” هنا الصورة الطبيعية لإنسان ما بعد الحضارة، إنسان غاضب مُستفَز، حذر في كل تصرفاته، مدفوع بغريزة البقاء ولا شيء سواها.
على أن الفيلم يقدم صورة أخرى أكثر خطورة؛ هي صورة المجتمع المغلق الذي يكتفي من الحضارة بشكلها فقط بعد أن انهار مضمونها وتلاشى، فهو مجتمع صوري فيه ملك وحاشية وجند وشعب، وهي صورة ليست بعيدة عن شكل الدولة ما بعد الاستعمار، الخطورة في شكل هذا المجتمع أنه شكل مختزل، قد نفيت عنه تعقيدات المجتمع المتحضر ليقتصر في بنيته على تملكه أسباب الجوع والخوف، فمشهد صنبور الماء الذي يفتحه الملك ليستسقي منه شعبه المنهك وحديقته الصناعية هما عنوان تحكمه بأسباب الحياة، وخزان الوقود الضخم الذي يحيط به فتيان الحرب من خواص فتيانه هو عنوان تحكمه بأسباب القوة، ومن خلف ذلك يمثل تحكمه بحليب الأمهات وزوجاته الخمس الساكنات وسط حدائقه استيلاءه على مادة المجتمع الأولى، وهي الأسرة.
وعلى نمط الأجزاء الأخرى لهذا الفيلم، وبحسب تصور جورج ميللر، فصورة الصراع صورة بسيطة طبيعية، مشهد مطاردة متصل يكون الطريد فيه ساعيًا للهرب من هذا المجتمع المغلق نحو أرض خصبة يزرع فيها نواة مجتمع جديد أكثر تحررًا، يتمثل هذا بخطة فيريوسا التي اصطحبت معها الزوجات الخمس وحقيبة من البذور إلى أرض الخلاص، وإن كان لنا أن نقيم أين تكمن عبقرية وخيال ميللر فهو في مشهد المطاردة الممتد هذا الذي يجتمع فيه حلف ثلاثي، يمثل في مجمله القوى الرئيسية الحاكمة في أرض الخراب، وهي للمتأمل رموز للدين وسطوة الطائفة متمثلة في “جو” المخلَّد وفتيانه الانتحاريين، وقوة السلاح المتمثلة بحاكم مزرعة الذخيرة، والثروة متمثلة بحاكم مدينة الغاز.
على أن الفكرة التي يحاول الفيلم التشديد عليها هي بحث فيريوسا المستمر عن أرض الخلاص، التي انتزعت منها عنوة لتعيش في مجتمع الخراب، لتصبح الصورة مطاردة مزدوجة، تكون فيها فيريوسا هاربة من أرض الخراب، وجارية وراء أرض الخلاص، لكن الذي يخلص إليه الفيلم أنه لا وجود للفردوس الأرضي الذي تبحث عنه فيريوسا، فالفردوس أضحى في عصر الخراب مجاهل مستنقعية مميتة، والسعي وراء مجتمع أفضل يمثل مغامرة يائسة، هنا تسود رؤية ماكس للواقع، وينتصر في النهاية منطقه المحكوم بغريزة البقاء، فليس السعي اليائس هذا إلا موتًا محققًا، والأجدر بالساعين للنجاة في عصر الخراب توجيه ما بقي لهم من طاقة في محاولة أكثر واقعية وقربًا، والذي تقرره غريزة ماكس وتوافق عليه فيريوسا هو المواجهة لا الهرب، وبهذا يتحول مسار الموكب الهارب إلى جهة مطارديه في تحول رمزي مشهدي بديع.
لا شك انه لن تتحقق بسهولة صورة جورج ميللر الكاريكاتورية لعصر الخراب كما تصورها، لكنه لا يسع المتأمل أن يغفل أن معالم العصر في خيال ميللر منتزعة بذكاء من معالم عصرنا، الفرق أن ميللر وفيلمه البديع هذا كشفا لنا عن هذه المعالم كشفًا سافرًا مركزًا، لنبحث نحن عنها مستترة، ولنعود إلى سؤال الغفلة عن هذه المعالم، لنجدها حاضرة لأدنى متأمل في صورة مجتمعات انهارت متتابعة بسرعة، لتتحول إلى شكل بسيط من الصراع على البقاء والمطاردة المستمرة.
والشأن فيها قريب من قول ماكس: “أنا الذي يفر من الأحياء والأموات، يلاحقني اللصوص كما تلاحقني أرواح القتلى، أنا هنا في أرض الخراب، تدفعني غريزة واحدة، البقاء”.