أي أرض محتلة تستلهم الجزء الأكبر من مقاومتها وصمودها من خلال استذكار تاريخها الحافل بالتضحية والفداء. فنسمع دائما عن تلك الرموز التي قدمت نفسها في سبيل تحرير الأرض والعرض من مستعمريها، وهي بذلك تخبرك أن التاريخ يلعب دورا رئيسيا في رفع همم من بعدهم..هذا تاريخينا فأرونا من أنفسكم خيرا كما أريناكم خيرا.
هذا هو دور التاريخ. فالتاريخ أداة ، ذاكرة حية ..تبقى لتمُد الواقع بالحماس والقوة الروحية كلما فتر أو أحس بالانكسار.
لكن ماذا عن أدوار التاريخ الأخرى؟ تلك التي يُصبح فيها التاريخ مجرد قصص وحكايات يُراد منها إثبات موقف في لحظة تاريخية عفى عليها الزمن.
تخيلوا معي طالباً تخرج من المرحلة الثانوية بمعدل عالي ، وقد رفع من شأنه وشأن عائلته ومدرسته ، وشهادته تُزيّن الحائط منذ تلك اللحظة التي أحس فيها أنه ابن زمانه الذي لن يتكرر، وإذا به في المرحلة الجامعية يتخرج بمعدل مقبول، هل تراه سيعلق شهادته الجامعية بجانب الشهادة الأولى التي تحمل فخره التاريخي؟
أم هل تراه يقنع أهله أنه تفوق قبل سنين قليلة، وبذلك فإن التفوق التاريخي يخوّله لأن يبقى دوما متفوقا حتى لو تخرج بدرجة مقبول!
نحن الفلسطينيون نعشق الأرقام ونحب القصص والحكايات فهي تشعرنا بلذة ، تجعلنا نشعر براحة أمام هذا الواقع المرير، تجعلنا نعيش ذكريات باسم الحاضر ، ونتمنى دوما أن يذكّرنا شخص بتلك القصص والحكايات، لتسمع من حولك …(يا الله وين هديك الأيام)!
أول رصاصة ، أول حجر، أول عملية خطف ..أول..إلخ
عبارات رنانة ، تستشعر عند سماعها بأنك تقف أمام تحدي سنوي متجدد ينادي أصحابها دوما بالفوز بالمركز الأول، لكنّ الصدمة تلازمك عندما تعرف أن تاريخ ذلك الأول كان في سبيعينيات القرن الماضي، وأن صورة الأبيض والأسود للعملية تقابلها أحدث صورة لطائرة من دون طيار يتبجح عدوك بأنها تصطاد هدفها بمجرد التعرف على بصمة الصوت للهدف المنشود!
إننا أمام عملية تزييف لا مثيل لها، فإذا كان دور التاريخ استنهاض همم الحاضر ، فكيف لو انعكست العملية ليكون دور التاريخ هو أن يجعل حاضرك ومستقبلك ليس سوا ذكريات لا تدرك منه سوا تواريخ وأسماء عمليات.
تلك الأسماء والعمليات التي رسمت خطا من الجهد والتعب والإصرار والتحدي يُراد لنا اليوم أن نحفظها دون أن ندرك أنها كانت تعبر عن روح و مفاهيم أكثر منها تواريخ وأرقام.
إذا أردت أن تستغفل شعبا وتقتل روح الأجيال الجديدة فاجعل خلافها يتمحور حول: (من أول من فعل… كذا؟)
عندها ستحارب تلك الأجيال من أجل إثبات ماضيها بدلا من حاضرها، ولا فضاضة لدى عدوك من أن تعلق صور الشهداء، بل على العكس …علّقها وأحسن اختيار البرواز لها، فقد تحول الشهيد من تعبير للقضية وعمقها الأصيل المرتبط بالأرض والعرض إلى اسم ورقم ولفحه يتدافع المحبون للتصور معها للذكرى.
لا تجعل الذكرى تخون الشهيد، فإن كنت مستشهدا بأحد ، فسر على دربه وإلا فإن استشهادك التاريخي به لا يشوّه فقط حاضرك، بل يشوّه تاريخه الذي تحب.
إن التحرر من المستعمر بقدر ما يتطلب تاريخا يتطلب حاضرا جديدا،ليراكم تلك الصورة التاريخية ويحفر فيها ليجعلها أكثر إشراقا ورسوخا، فانتصارات المستقبل تُنبؤ أننا أبناء اليوم المختلف عن الأمس في تطوراته وتعقيده.
ارسم لحظة حاضرك بانتصاراتك لا بانتصارات السابقين، فغدا ستخرج أجيالا جديدة لتبحث عن شيء تستلهم منه حاضرها، عندها ستكتشف الحقيقية ، فإما أن تأخذ تلك الأجيال من ماضيك لحاضرها ما يفيدها، أو أنك ستكون مرحلة تاريخية لا إنجاز لك فيها سوا التغني بأمجاد السابقين.