ردود فعل عفوية وطبيعية من الشباب الفلسطيني اليائس من حياة الذل والمهانة ومن الاستعباد من قِبل المحتل الإسرائيلي الذي لم يدخر جهدًا مدعومًا بالقوى الدولية في تنفيذ مشاريعه الاستيطانية في المناطق العربية بالإضافة إلى انتهاكاته المتكررة في حق المسجد الأقصى.
فبعد أن وصل الظلم المسلط على الفلسطينيين الأحرار إلى الذروة قرر بعضهم رد الفعل عن طريق تنفيذ تحركات احتجاجية في عدد من المدن الفلسطينية تنديدًا بالعدوان المتكرر على المقدسات الإسلامية، ثم سرعان ما انقلب الأمر إلى حوادث طعن ودهس للمستوطنين الإسرائيليين داخل الأراضي المحتلة، عندها لم يعد الحديث عن اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة مجرد تخمين أو تحليل أو تحذير بل أصبح واقعًا يفرض نفسه خاصة بعد التغطية الإعلامية الكبيرة لتلك الأحداث.
في تلك الفترة انشغلنا بمتابعة الأحداث وقراءة المقالات التي تحدثت عن اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة أطلقوا عليها انتفاضة السكاكين والتي ستعود بفضلها فلسطين إلى مالكيها الأصليين وستنتزع الحقوق المغتصبة بقوة عزيمة الشباب، حتى أن كبير المعلقين بصحيفة “يديعوت أحرونوت” ناحوم برنيع وصف في مقال له بتاريخ 4 من أكتوبر الماضي الأوضاع بالضفة بأنها انتفاضة، مؤكدًا أن “من المهم أن نسميها باسمها، إنها انتفاضة، الانتفاضة الثالثة”، معتبرًا أن عدم تسميتها بهذا الاسم سيتيح للنظام السياسي والعسكري الإهمال والهروب من المسؤولية، محملًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسؤولية ما سماه “اليأس وغياب الأمل”.
لكن ورغم أن كبار الكتاب والباحثين والخبراء العرب والإسرائيليين في تلك الفترة تحدثوا عن قرب اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة استنادًا على ما حصل من أحداث دامية داخل المستوطنات والمظاهرات العارمة في المدن الفلسطينية إلا أن آخرين رأوا أن تلك الأحداث ستكون سحابة عابرة بسبب فقدان الإرادة السياسية من قِبل السلطة الفلسطينية التي يقودها محمود عباس والتي كانت تخاف من تعزز قوة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في حال حصول تصعيد عسكري، ومن الكوارث التي ستجلبها على الفلسطينيين”.
في الحقيقة لم يكن الحديث عن انتفاضة فلسطينية ثالثة في تلك الفترة سوى عاطفة زائدة أو قراءة متسرعة للتطورات على الساحة من قِبل هؤلاء المتابعين للأحداث المتسارعة في الأراضي الفلسطينية لأن حكومة عباس التي تعد وتخلف الميعاد لن تسمح باندلاع أي انتفاضة ثالثة بل ستكون في طليعة الرافضين والقامعين لها في حال نشوبها، فقد أشارت صحيفة “هآرتس”، في 6 من شهر أكتوبر الماضي إلى أن ضباطًا رفيعي المستوى في الجيش الإسرائيلي، ونظراء لهم في أجهزة الأمن الفلسطينية، ينوون البحث في التهدئة في الضفة والقدس والإجراءات الكفيلة بإنهاء التوتر، ووفق الصحيفة، فإن ضباطًا من قيادة المنطقة الوسطى في الجيش يؤكدون أن السلطة تحاول بالفعل “كبح جماح الفلسطينيين وكبح العنف الصادر عنهم”، لكنهم في المقابل يأملون من إسرائيل أن تهدئ المستوطنين وتلجم أفعالهم.
كما تحدثت القناة الإسرائيلية الثانية في تلك الفترة أن نتنياهو، بعد تقدير خاص للأوضاع في كل المناطق، قرر التوجه إلى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، مع رسالة سياسية لتخفيف حدة التوتر في الميدان، في موازاة رسالة مقابلة أيضًا إلى غزة، وتحديدًا كما أشار الإعلام العبري إلى حركة حماس، عبر طرف ثالث، ومفادها أن إسرائيل غير معنية بتصعيد أمني مع القطاع.
بسبب الخيانة المشروعة من قِبل السلطة الفلسطينية في رام الله ومن قِبل حركة حماس تم احتواء الأحداث المتسارعة بعد أن هب العرب والعجم هبة رجل واحد لأجل إيقاف تلك الاحتجاجات العفوية التي اندلعت بسبب الظلم والعنصرية وانتهاك الحريات الأساسية من قِبل سلطة الاحتلال، وكادت قاب قوسين أو أدنى أن تزرع الخوف المتواصل في صفوف المحتل حتى أن صحيفة إسرائيل اليوم أفادت في أول الأحداث بأنّ الشرطة تلقت في بعض الأيام الأولى لانتفاضة السكاكين أكثر من 25 ألف اتصال هاتفي من إسرائيليين يبلغون عن شخص مشبوه أو حقيبة مشبوهة؛ وهو ما دفع الكاتب بن كسبيت للقول في صحيفة معاريف الإسرائيلية في تلك الفترة بأن “اللهيب يزداد اشتعالًا، وعلينا أن نصبّ الماء البارد عليه فورًا، وبدلًا من الكذب والاختباء وراء هذا وذاك، يجب على نتنياهو أن يقول الحقيقة، وأن يتخذ القرارات الصحيحة، ربحنا كراهية الفلسطينين بصدق، ليس لديهم أي سبب ليحبونا، ولأننا لن نحبهم أيضًا، فعلينا أن نختار الاستمرار بالعيش معهم مع استمرار الاحتكاك بهم، أو الانفصال عنهم”.
في الأخير تبقى السلطة الكرتونية الفلسطينية الحالية في واد ويبقي الشعب الفلسطيني المضطهد في واد آخر بسبب قياداتهم السياسية التي لم تفلح إلا في المهادنة والكذب على شعبها وعلى رأسها الرئيس الحالي محمود عباس الذي لم يكن يومًا مثل الرئيس السابق ياسر عرفات “أبو عمار” الذي أراد من انتفاضة الأقصى عام 2000 أن تحسن شروط التفاوض، لكن خليفته عباس وظف القوة الأمنية لقهر الانتفاضة بعد أن كذب على الفلسطينيين في خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 سبتمبر الماضي، وقال إنه لم يعد ملزمًا بالاتفاقيات التي وقعها مع إسرائيل ولكن لم يكن ذلك الخطاب إلا قنبلة صوتية سرعان ما بان كذبها مع عودته إلى فلسطين.
صحيح أن بعض الشباب الفلسطيني بقي يقاوم الظلم الإسرائيلي في مناطق وأوقات متفرقة لكن لم ينجح هؤلاء في تغيير الواقع الفعلي للقضية الفلسطينية التي ستظل حبيسة رفوف مكتب كبير المفاوضين الفلسطينيين الذي نال قسطًا كبيرًا من الراحة بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس.