(1)
إستراتيجية ترويض الروابط والنخب عند عثمان رضي الله عنه:
على قدرٍ ما تعجبك قبضة عمر وبأسه في حفظ استقرار الجماعة، وشدته في ألا تتباعد نخبها حفاظًا على وحدتها، على قدر ما تعجبك أيضًا سماحة عثمان واحتوائه لهذه النخب والروابط اثنى عشر عامًا آخر على الرغم من تفكك عوامل الاستقرار وانحدارها بدرجة أكبر بكثير مما كانت عليه على عهد عمر، فالجهاد التوسعي بلغ هدفه وتباطأت حركته، فما فتح في عهد عثمان لا يتجاوز 15% مما فتح في عهد عمر، وفجوة المال اتسعت بين الناس لاقتران إستراتيجية عثمان الترويضية بسياسة “الباب المفتوح” في الاقتصاد فتوسعت النخبة الاقتصادية الجديدة في البناء وتملك الأرض وكنز الأموال وزاد التضخم لمستوى غير مسبوق، حتى قطع الذهب بالفئوس.
سار أبوذر في الأمصار يحذر الناس ويدعو لنظرية “الاقتطاع” من الأموال التى كان قد هم إليها عمر قبل وفاته، وكثرت تبعًا لذلك الشكاية؛ ففي الكوفة بلغت أوجها فانقطع سعيد بن العاص للعامة حتى اختلفوا عنده على القسمة والتوزيع، ففي بعض المجالس أثنى أحد الفتيان على طلحة بن عبيد الله، فقال سعيد: “إنّ من كان له بساتينه حَري أن يكون جوّادًا، والله لو أن لي مثلها لأعاشكم الله بها عيشًا رغدًا”، فقال فتى آخر: “والله لوددت أن لك ما كان لكسرى على نهر الفرات”، فانتهره أناس حاضرين وقالوا له: أتتمنى له سوادنا وهاج الشر بينهم وبين أهل الفتى فأقسم سعيد ألا يغشى مجالسهم فانقطع هؤلاء النفر إلى بيوتهم ثم أقبلوا يقعون في عثمان، حتى أجمعوا أمرهم وحركوا أول وفد للفتنة بقيادة عامر بن عبد قيس فقال لعثمان: “إن ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أمورًا عظامًا، فاتق الله عز وجل، وتب إليه، وانزع عنها”، والقصة ذات دلالة على حجم الفجوة والتنافر الطبقي الواقع بين الناس.
فضلًا عن ذلك قويت رابطة بني أمية واستأثرت بعواصم الدولة الخمس؛ الحجاز والشام والكوفة والبصرة ومصر، فتحفزت نخب الروابط الأخرى وكان هذا إيذانًا بانشطار حاد بين الروابط تسارعت خطواته حتى أدى للانفجار الاجتماعي وحدثت الفتنة التي انتهت بمقتل عثمان رضي الله عنه.
لقد نجحت إستراتيجية الترويض التي اتبعها عثمان لحين، كما نجحت إستراتيجية التشديد التي اتبعها عمر لحين، وكما انتهت حقبة عمر بوهن شدته وملل قريش منه، انتهت حقبة عثمان أيضًا بوهن ترويضه وتقلب السواد عليه، أما وهن ترويضه فبغلبة رهط أمية عليه وحملهم إياه على شدة لا يجيدها وليست في موضعها، وأما تقلب السواد عليه فخلصته منهم طعنات الثائرين، كما خلصت عمر طعنة أبو لؤلؤة من ملل قريش له، ولكن مآل الأمر بعد عثمان لم يكن كمآله بعد عمر إذ أن عمر كان عقلية مجددة تتحرك مع المتغيرات بسرعة ومرونة، بخلاف عثمان كان عقلية محافظة لا تتحرك مع المتغيرات بالسرعة والمرونة الكافية.
(2)
عبر سعيد عن الانفجار الاجتماعي الذي بدت ملامحه في الكوفة تعبيرًا بليغًا في رسالته لعثمان: “إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وقد غُلب فيها أهل الشرف والسابقة والقِدمة”، وهكذا تنشطر الروابط وتنقسم حتى لا يُرى للجماعة رؤوس فيموج الناس ويضطرب أمرهم، وماذا كان رد عثمان عليه؟ أن يعيد تقسيم الناس على أهل الشرف والسبق فيهم لكنه قد سبق السيف العذل، غير أن التقسيم وحده دون الترشيد الذي سنه عمر كان غير كافٍ لوقف الانشطار المتسارع وإنقاذ المجتمع من التفكك والاضطراب.
ربما لو عاد عثمان أو عليّ لاستراتيجية الترشيد التي سنها عمر لما انحدرنا إلى مبدأ التغلب الذي جلب لنا الملك العضود والحكم الجبري، ولما تناقصت حضارتنا تبعًا لتناقص القيمة الحضارية التي تمتلكها، فدوام الحضارات منوط باستقرار قيمها الحضارية وجاذبيتها وقدرتها على التجدد والانتشار.
لقد جانب عثمان الترشيد حينما لم يشرك معه الروابط الأخرى منذ أول يوم، وعليّ معروف أنه أقرب إلى السواد، ومع ذلك لم يوله عثمان وكان هذا كافيًا لوأد فتنة انطلقت من الكوفة والبصرة ومصر أي من السواد، إنما جاءت لخلع بنى أمية، وظل عثمان مترددًا أيام الثورة في إشراك عليّ فتارةً يُهدّئ به الناس وتارةً يأمره بالخروج خارج المدينة.
حتى مجلس شورى عثمان كان هو نفس مجلس ولاته على خلاف ما كان يفعل عمر في الفصل بين الشورى والتولية، فجمع للمشورة الولاة الخمسة: “عبد الله بن عامر والي البصرة، وسعيد بن العاص والي الكوفة، ومعاوية بن أبي سفيان والي الشام، وعبد الله بن سعد والي مصر، وعمرو بن العاص والي مصر السابق”، فأما الأول فنصحه بأن يشغلهم بالجهاد، وأما الثاني فنصحه بأن يقطع رؤوس القوم أي محركيهم، وأما الثالث فنصحه بأن يردهم إلى الولاة، وأما الرابع فنصحه أن يتألفهم بالمال، وأما الأخير فلم ينصحه وإنما خيره بين المجاوبة أو الاعتزال أو المواجهة.
ولكل إجابة دلالتها على مكنون صدر صاحبها وطريقته في معالجة اضطراب الناس فيما بدر له تحت سلطانه، وأما مروان بن الحكم فظل بجوار عثمان ينتقص من لينه ويحثه على الشدة ويزينها له أنها المخرج، حتى خطب في الناس: “ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطأكم برجله، وضربكم بيده، وقمصكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كنفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي”، فلما سمع ذلك منه الناس حميت الثورة عليه، فهم للتراجع عن مشورة ولاته إلى مشورة علي وطلحة والزبير، ولكن الأمور كانت قد انفلتت تحت وطأة الجماهير المُغْفلة.
(3)
إن أكثر ما يصيب الروابط حين الفتنة هو انتقاص رؤوسها وحملهم على أمور ليست من قبيل المصلحة وحسن التدبير، وهذا ما حدث على مدار خمس سنوات استمرت فيها “الفتنة”، فقد غُلب عثمان على الرأي من بني أمية حتى قُتل، وكذا غُلب عليّ وطلحة والزبير من رهوطهم، وهذا ما قرره عليّ لطلحة والزبير منذ أول يوم طالباه فيه بدم عثمان فقال: “يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون ولكني كيف أصنع بقوم يملكونا ولا نملكهم”.
أول ما غُلب عليّ غلب على العجلة في تولى الخلافة دون إشراك رؤوس الروابط في الشورى، فحولته من أول المدافعين عن عثمان أيام الثورة إلى المُطَالَب بدمه والمتهم به، وكانت هذه نصيحة ابن عباس له قائلًا: “أطعني وادخل دارك، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب، ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم، ليحملنك الناس دم عثمان غدًا”.
كان هذا رأي عليّ أيضًا حين أتاه الناس قائلًا لهم: “لا تعجلوا، فإن عمر كان رجلًا مباركًا، وقد أوصى بها شورى”، وظل يهرب منهم حتى غلبوه على ذلك، ثم أبعدوه عن إستراتيجية الترشيد جملةً، فرفض تقاسم الأمر مع الروابط الأخرى فرفض تولية طلحة والزبير على الكوفة والبصرة، ورفض تولية معاوية الشام رغم استتباب أمرها، فتحركت الروابط للصراع مدفوعة بنوازعها الداخلية ومتعللةً ومستترة بدم عثمان، وبلغ النزاع ذروته بالقتال فكانت الجمل مع طلحة والزبير، ثم صفين مع معاوية.
هذا المقال هو الجزء الثالث من خمسة مقالات بعنوان: نحو فهم جديد للخلاف بين الصحابة – دراسة لتفكيك الحكم الإسلامي والثورة الإسلامية، يمكنكم قراءة الجزء الأول هنا – الجزء الثاني من هنا
في المقال القادم بإذن الله نتحدث عن الفتنة وتحليل أحداثها.