ترجمة وتحرير نون بوست
ما هي النتيجة التي وصلنا إليها ما بين كرم الضيافة الحار للصيف الألماني والاستقبال البارد للشتاء الإسكندنافي؟ أوروبا تغلق حدودها الداخلية، وتعزز حراسة حدودها الخارجية، والحكومات تبحث عن طرق لدفع فاتورة استقبال ودمج جميع الوافدين الجدد، الذين عبروا الصحاري والبحار أملًا في العثور على ملاذ آمن في أوروبا.
وزير المالية الألماني طرح فكرة فرض ضريبة على مستوى الاتحاد الأوروبي على البنزين، النواب الدنماركيون يناقشون مشروع قانون يسمح بمصادرة الممتلكات الثمينة لطالبي اللجوء للمساعدة في دفع نفقات معيشتهم، وهو الأمر الذي طبقته سويسرا على أرض الواقع مسبقًا.
ولكن بجميع الأحوال، لا بد من إيجاد المال اللازم، ليس فقط لأن أوروبا قارة غنية وتتمتع بقيم والتزامات عليها أن ترقى لتحقيقها، بل لأن القانون الدولي ومبادئ الاتحاد الأوروبي تفرض على البلدان الأوروبية تنفيذ تلك الالتزامات؛ فأي شخص يستطيع الوصول إلى الحدود الوطنية لأي دولة أوروبية له الحق في طلب اللجوء، ويجب على السلطات المعنية أن تزن الأسس الموضوعية لصحة طلبه المزعوم.
يعود تاريخ وضع التعريف القانوني للاجئ ومعايير منح اللجوء إلى أكثر من نصف قرن من الزمان، وعلى الرغم من أن البعض يزعمون بأن هذه التعاريف تعكس القيم العالمية، ولذلك ينبغي علينا التمسك بها حتى نهاية الزمان، إلا أن مفهوم تأمين الملاذات الآمنة قديم في تاريخه؛ لذا فمن المعقول حتمًا أن نطرح بعض التساؤلات حول مدى نجاحه وانطباقه على الحالات التي يعالجها.
على مدى الأشهر الستة الماضية، ومع تقاسمنا نشوة الأشخاص الذين تم إنقاذهم من زوارق الموت الراسية قبالة شواطئ اليونان، وفي خضم محاولاتنا – غير الكافية – لمواساة أقارب الموتى غرقًا، ووسط اندهاشنا لجَلَد البشر الذين يشقون طريقهم عبر أوروبا متحدين جميع الصعوبات، بدت أوجه تشابه الحاضر مع الماضي جلية وواضحة؛ فموجة اللجوء الحالية، كما أُشيع، تعد أكبر حركة نزوح منذ عام 1945، ومشاهد الناس اليائسين الذين تم منعهم من إكمال رحتلهم المحفوفة بالمخاطر من قِبل الشرطة في معسكرات محاطة بالأسلاك الشائكة، ومشاهد المئات الذين أُجبروا على ارتياد قطارات ميممة شطرها خارج أرض القارة العجوز، فضلًا عن محنة العائلات التي باتت ليلاتها العجاف في العراء، ومشاهد الشبان الأبطال الذين قادوا كراسي اللاجئين المعاقين عبر القارات، جميع ذلك دق ناقوس الذكرى في أذهاننا عن أحلك فصول التاريخ الأوروبي في القرن الـ20.
في تلك الفترة، أسفرت محنة ملايين المشردين في نهاية الحرب العالمية الثانية عن اشتداد الحاجة لإيجاد نظام ثابت لإعادة التوطين، مما حفز المحادثات التي أسفرت عن إبرام اتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951، وشبح تكرار التاريخ الأوروبي لنفسه على ما يبدو، كان الحافز الذي أقنع أنغيلا ميركل بأن على ألمانيا إظهار وجهها المرحب والحنون.
لكن رغم جميع التشابهات الحالية التي تردد صدى الماضى، تبدو الاختلافات أكبر، وهذه الاختلافات تحفزنا بعمق لإعادة النظر بالأحكام الحالية لاتفاقيات اللجوء على أقل تقدير.
من حيث المبدأ، يبدو بأن صفة اللاجئ القانونية التي نص عليها اتفاق جنيف تنطبق على حال اللاجئين اليوم كما كان الوضع عليه عندما تمت صياغة الاتفاقية لأول مرة، وكما كان الحال عليه في عام 1967 عندما تم توسيع نطاق البروتوكول لتشمل أحكامه الصعيد العالمي؛ فبموجب اتفاقية جنيف يتم تعريف اللاجئ بأنه “شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي”.
أُضيفت إلى هذه الأحكام القواعد التي نص عليها الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك اتفاقية دبلن لعام 2013، والتي توجب على كل شخص يصل إلى الاتحاد الأوروبي أن يتقدم بطلب اللجوء إلى أول بلد أوروبي آمن وصل إليه، ولكن العبء الذي وضعته هذه الاتفاقية على دول مثل إيطاليا واليونان، التي تتمتع بحدود بحرية طويلة يصعب حراستها، كان واضحًا حتى قبل اشتداد أزمة اللجوء في الصيف الماضي، حيث أدت أحكام هذه الاتفاقية إلى تشجيع تعامي هذه الدول عن قيام الوافدين الجدد إلى أوروبا بمواصلة رحلتهم إلى البلدان الأوروبية الغنية الأخرى ليتقدموا بطلب اللجوء في هذه البلدان الأخيرة.
ومن هذا المنطلق، وإذا كان تعريف اللاجئ لا يزال صالحًا منذ أن تم وضعه ليحكم الحالات الراهنة، إلا أن السياق الدولي منذ وضع أنظمة اللجوء تغيّر إلى درجة أضحى معه هذا النظام برمته معرضًا لخطر الانهيار، والمُثل العليا التي جاءت بها اتفاقية جنيف واتفاقيات الاتحاد الأوروبي أضحت، بكل بساطة، لا تتواءم مع واقع اليوم.
سابقًا، كانت المرات التي يتم خلالها منح حق اللجوء، لأفراد ما كان يُعرف بأوروبا الغربية، قليلة ومتباعدة، حيث كانت معايير اللاجئ تنطبق على الشخصيات المعارضة المضطهدة، القادة المخلوعين، والمثقفين المعارضين، وعلى أرض الواقع، لم تنطبق معايير اللجوء إلا على فئة ضيقة من الأشخاص، ولهذا كان اللجوء يبدو أشبه بامتياز ممنوح للأفراد، أكثر من كونه حقًا دوليًا يُسبغ على مجموعات كاملة من الأشخاص.
أما اليوم، فقد أضحى السفر أسهل للغاية مما كان عليه في منتصف القرن الماضي، والمعلومات حول قانون اللجوء ومستويات المعيشة، أو حتى مستويات الرفاهية في الدول الأوربية، أصبحت متدوالة ومنتشرة على نطاق أوسع، وسواء شئنا ذلك أم أبينا، تحولت صنعة الإتجار بالأشخاص إلى صناعة مربحة، مدعومة بالهواتف المحمولة والمال المحمول.
من العدل أن نعترف في هذا المقام بأن الفرار من مناطق الحرب، كسوريا مثلًا، لا يزال أمرًا صعبًا ومرهقًا، ولكن بمجرد وصولك إلى إحدى دول الجوار، كلبنان أو تركيا أو الأردن، فإن المرحلة القادمة والتي تليها تبدو أسهل، طالما كنت تمتلك المال اللازم لدفع ثمن رحلتك إلى الرفاهية؛ فجميعنا يعرف بأنه وقبل حلول فصل الخريف الماضي، إذا تمكن الفار من الوصول إلى اليونان أو إيطاليا سيستطيع السفر دون عوائق تقريبًا إلى أي بلد آخر في منطقة الشنغن.
فضلًا عن ذلك، يشير محاميو حقوق الإنسان بأن معايير اللجوء، كما يجري العمل عليها اليوم، يمكن تفسيرها من الناحية النظرية لتنطبق على مجموعات كاملة، عرقية أو دينية أو غيرها، بما في ذلك أي شخص تقريبًا تعد بلاده في حالة حرب، وما تتدواله الحكومات للتفريق بين الأشخاص الذين يحتاجون حقًا للملاذ الآمن وأولئك الذي يسعون لمجرد الحصول على حياة أفضل، أي بالمختصر التمييز بين “المهاجرين” و”اللاجئين”، يبدو تفريقًا يصعب تطبيقه على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال، هل جميع السوريين مؤهلين للحصول على حق اللجوء لمجرد أن أجزاء من بلادهم، قد لا يعيشون ضمنها، تخوض حربًا أهلية طاحنة؟ وفي حال طرحنا مثالًا آخر عن شاب نيجيري ترك قريته للبحث عن عمل في أوروبا ولكنه شهد حرمانًا ومعاناة لا توصفان في الطريق، يبقى التساؤل، هل تؤهله تجاربه التي خاضها في طريقه إلى أوروبا لتغيير توصيفه لدى وصوله من مهاجر إلى لاجئ؟ لا، قد يبدو الجواب الأوضح على هذا السؤال، ولكن بعض المحامين يقولون بأن حجته قوية بموجب قوانين اللجوء.
يتهم الناشطون الاتحاد الأوروبي بالتشويش، عن غير قصد، على تعاريف اللجوء من خلال فرض أحكام ومعايير يصعب أن تنطبق على الأشخاص لدخول أوروبا بشكل قانوني، ويقترح الناشطون بأنه ما لم تعمد “القلعة الأوروبية” لفتح المزيد من القنوات القانونية لغير المواطنين للوصول إلى أوروبا، سيبقى البديل الوحيد أمام الأشخاص الذين يسعون الوصول إلى القارة العجوز هو تجربة حظهم للوصول إلى هناك بصورة غير قانونية.
الحجح السابقة تبقى قابلة للنقاش والنقض، ولكن الأمر الذي لا يمكن نقضه أو مناقشته هو أن حجم الهجرة من البلدان التي مزقتها الحروب أو التي تعاني من أزمات مالية، الرغبة المتزايدة بالوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي، تعريف اتفاقية جنيف للشخص “اللاجئ”، يولدون جميعًا متطالبات تتجاوز مقدرة الاتحاد الأوروبي على الوفاء بها، والحلول المطروحة بتشديد معايير التعاريف، كفرض تفسير أكثر صرامة على حالات الاضطهاد، على سبيل المثال، تحسين تنفيذ شرط التقدم بطلب اللجوء في أول بلد وصول آمن، أو التشدد بتطبيق الإجراءات التبادلية، كمنع دخول الأشخاص الذين لم يبصموا في بلدان الوصول إلى الاتحاد الأوروبي أو الترحيل السريع لأصحاب السوابق الجنائية، جميع ذلك لن يفي بالغرض لإيجاد حلول للوضع الحالي الآيل للانهيار لمنظومة اللجوء.
الحل المتطلب هو إبرام اتفاقية جنيف جديدة للاجئين، اتفاقية تعمل على الحد من أهلية بعض المجموعات للتمتع بصفة اللجوء، أو تحد من حق بعض الأشخاص الذين يفرون من بلدانهم الأصلية بطلب للجوء، أو تحدد طول الفترة الزمنية التي يُسمح للاجئين فيها بالبقاء ببلدان اللجوء، ويمكن أيضًا أن يتضمن الاتفاق محاولة إيجاد مناطق آمنة للمدنيين في مناطق الحرب؛ فتاريخيًا وقف قانون “مسؤولية الحماية” الذي أقرته الأمم المتحدة في وجه تطبيق ذلك، ولكن هذا القانون فشل أيضًا على مستوى التنفيذ، وهذا يعطينا دافعًا آخر لإعادة النظر في جميع النصوص التي تحكم منظومة اللجوء.
المصدر: الغارديان