إننا، إذ نقرأ ما كتبنا جميعا، في 2011 و 2012، نألمُ ونغضبُ لا محالة، ولا غرابة. ولكن الغرابة، هي أننا لا نشعر باليأس. نعم طالت الطريق، لكن بقيت وجهتها ثابتة، وبقيت الرحلة حتما محتوماً لا مفر منه ولا بديل له.
ككل الثورات الكبرى التي شهدها التاريخ الحديث، يمكن وصف ما جرى عام 2011 بأنه كان صراعاً بين فكرتين، وشكلين نقيضين للتنظيم السياسي ؛ فالدول العربية؛ التي فرضها الاستعمار، والتي تشكل هياكل مركزية هرمية تقوم على الإكراه والطاعة، ويقودها فرد، وكالعجوز المتصابية تتبرج بالأعلام، الأناشيد، الحدود، الأسلاك الشائكة، والأختام والرتب، وغيرها من شخاليل الحلي “الوطنية”، واجهت تحديًا من الحركات شبابية، شبكات أفقية غير مركزية، لا قادة لها، بل تقودها فكرة أو قناعة أو سردية، فيتحرك الناس فيها بما يكوّنونه من آراء لا بما يتلقونه من أوامر. وللحظة مجيدة في عام 2011، حلت السردية محل الهيكل، وحلت القناعة محل الطاعة، والاعتقاد محل الإكراه، والارتجال الجماعي من الأطراف، محل التخطيط المستبد من المركز، وانتصر المتطوعون المقتنعون على المجندين المجبَرين المأمورين الطائعين. فقد استطاعت شبكات المتظاهرين الضخمة اللامركزية والتي تتبع أفكارها لا قادتها، أن تطغى على السلسلة الهرمية المركزية من الجنود ورجال الشرطة والبيروقراطيين الذين يتبعون الأوامر.
في عام 2011، كانت هذه الفكرة أو السردية التي تحرك الناس، واضحة: كانت ضد الدولة، وضد لشرطة، وضد الاستعمار، وضد الصهيونية، وضد الرأسمالية، وكانت في الوقت عينه مع الوحدة الإقليمية، في شكليها العربي أو الإسلامي، ومع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد كان ممكناً حل الخلافات بشأن هذه السردية بسهولة، بحيث تتحول الأغلبية بالتدريج إلى إجماع أما يشبه الإجماع، بسبب غياب التراتبية السلطوية، فلا إكراه ولا إجبار ولا طاعة لغالب على مغلوب.
ولكن هذه السردية أو الفكرة، تعرضت للخيانة من قِبل النخبة السياسية المصرية، من قِبل الإسلاميين ثم من قِبَل العلمانيين، حيث أبرم الطرفان تسوية غير مكتوبة مؤلفة من شقين مع النظام القديم؛ فشقه الأول محلي ويقضي بمشاركة السلطة مع الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في مصر، الجيش المصري أمريكي السلاح والتدريب والتمويل. والشق الثاني الإقليمي، ويقضي بالإبقاء على التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، واستمرار السلام مع إسرائيل، وبقاء الود الحميم مع المملكة العربية السعودية، والعداء مع إيران، وسُمح باستخدام اللغة الطائفية للحفاظ على هذه السياسة، بل تم تشجيعها. ومن كانوا يرفضون هذا الاتفاق من النخبة السياسية المصرية أثناء وجودهم في صفوف المعارضة، لم يلبثوا أن وافقوا عليه بمجرد وصولهم إلى السلطة.
أدى ذلك إلى ضياع السردية أو الفكرة التي أجمع عليها الناس فكثرَّهم الإجماع، وقوى حشودَهم وتجلوا في ميدان التحرير، وحل محلها خطاب يفرق الناس ولا يجمعهم، قائم على صراع الهويات، يضع الإسلاميين مقابل العلمانيين في مصر، والسنة مقابل الشيعة في الإقليم. فأدى ذلك إلى الحفاظ على مصلحتي الولايات المتحدة الكبريين: إسرائيل والنفط بلا مساس، بينما تحولت الثورات الكبرى التي عمّت العالم العربي منذ عام 2011 إلى سلسلة من الحروب الأهلية، تتفاوت في كارثيتها.
لعب الجيش المصري على الطرفين، الإسلامي والعلماني، وغدر بكليهما حتى عاد منفرداً للحكم، وبطش منتقماً. وقد كانت المذبحة التي ارتكبها ذلك الجيش في 14 أغسطس من عام 2013 هي الأكبر في تاريخ القاهرة منذ الغزو الفرنسي عام 1798، وقصف الغزاة للأزهر والغورية في العام التالي. لقد أدركت الأنظمة العربية، كأنها مصاص الدماء الخيالي الذي لا يحي ولا يموت، بأنها لن تستطيع مواجهة هذه الأعداد من الناس الذي لا قادة لهم، فقررت أن تقتل الأطفال لتحول تلك الحشود الكبيرة العزلاء إلى خلايا صغيرة مسلحة ثم تصيح “إرهابيون!”. ولكن، وبطبيعة الحال، لم تفلح هذه السياسة إلا في خلق حشود كبيرة من الخلايا الصغيرة المسلحة، والتي لا قِبل للدولة، الحية الميتة مصاصة الدم بها. إن هذه الدول العربية ذات الحدود الاستعمارية ألقت اقليم كله في الهاوية، فهو بين حروب أهلية شبت عن طوقها، وأخرى ما تزال في طور التكوين. إننا، أيها السادة، نشهد الآن انهيار النظام السياسي كله في جنوب البحر الأبيض المتوسط، وفي بعض البلدان، نشهد انهيار النظام الاجتماعي كذلك.
رغم جميع ما تقدم، ما زلت مُصرا أن لا مجال لليأس، نعم لقد تحولت الثورات إلى العنف، ولكن التطور لديمغرافي الذي أنتج هذه الأرقام غير المسبوقة من الشباب العربي، والتقدم التكنولوجي الذي أتاح لهم قدرة غير مسبوقة على التواصل فيما بينهم، أحالا هؤلاء الشباب إلى كتلة هائلة لا يمكن احتواؤها. نعم، إن الدولة الكلاسيكية، ذات الحدود والأختام والبيروقراطيات، تنهار، وعلى المجتمعات أن تتعلم كيف تتدبر شؤونها في غياب الدول، وأن تحول الشبكات القائمة على القناعة والتطوع إلى نظم حكم. وقد يبدو هذا صعبا اليوم، ولكن المجتمعات، بأعدادها هذه، وبهذه القدرات على التواصل في بين أفرادها، مجهزة اليوم للقيام بتلك المهمة أكثر من أي وقت مضى.
هذا المقال هو الجزء الرابع من مقال مطول نشرته صحيفة الغارديان بعنوان: “لقد كنت مخطئًا”، الكتّاب العرب يراجعون مواقفهم بعد 5 سنوات من الربيع العربي، يتحدث الموضوع عن مراجعات بعض الكتاب للربيع العربي بعد مرور 5 سنوات، وهم: علاء عبد الفتاح، روبن ياسين كساب، أهداف سويف، مريد البرغوثي، ليلى العلمي، رجا شحادة، خالد مطاوعة، تميم البرغوثي، نوري ڤانة، وجمانة حداد، وسيعمل نون بوست على ترجمة ونشر مراجعات الكتّاب تباعًا.
يمكنكم قراءة الجزء الأول من المقال، بعنوان “لم يبق غير الكلام عن موت الكلام” للكاتب المصري علاء عبد الفتاح من هنا، الجزء الثاني بعنوان “سوريا بعد 5 سنوات من الثورة: التغيير قادم ولكن باتجاهات متناقضة” من هنا، الجزء الثالث بعنوان “مريد البرغوثي: لقد كنت مخطئًا للغاية حول الربيع العربي” من هنا.