ترجمة وتحرير نون بوست
أصبح واضحا للنقاد، منذ الأسابيع الأولى لترامب في البيت الأبيض، أن الشعار الذي كان يردده أثناء الحملة الانتخابية، المتمثل في كونه “سيحيي أمجاد الولايات المتحدة”، يعكس محاولته إعادة المجتمع الأمريكي إلى فترة الخمسينات. في المقابل، ما لا يمكن أن يفقهه عامة الناس، أن استحضار سياسات واستراتيجيات تلك الحقبة التاريخية، سينطبق أيضا على الترسانة النووية.
وفي الأسبوع المنصرم، حثت لجنة الشريط الأزرق التابعة لوزارة الدفاع، إدارة ترامب على تعزيز ترسانة الولايات المتحدة، وتطوير قدراتها على خوض “حرب نووية محدودة”، وذلك حسب التقرير الذي نشرته صحيفة “رول كول”.
ووفقا لهذا التقرير، “فإن مجلس علوم الدفاع… قد شجع الرئيس الأمريكي على النظر في مسألة تحديث ترسانة الأسلحة، وإجراء جملة من التعديلات على الأنظمة الدفاعية وخطة التسلح، وذلك لإنتاج عدد أكبر من الأسلحة، المصممة خصيصا للاستخدامات النووية المحدودة”.
في الواقع، تبدو استراتيجية الاستخدام النووي المحدود بسيطة لكنها مخادعة، فكل ما يستحقه تطبيق هذه الاستراتيجية هو افتعال صراع ما، للتدخل وتوظيف الأسلحة النووية بحجة محاولة إنهائه.
وعلى ضوء هذه الاستراتيجية، فإن استخدام أسلحة ذات قدرة نووية محدودة ضد إحدى قوات الأعداء التقليديين للولايات المتحدة، سيعكس مدى جدية المساعي الأمريكية، وأن واشنطن من الجنون بمكان أن تطلق حربا نووية شاملة. وبالتالي، فإن هذه الاستراتيجية ستجعل العدو يتراجع مهابة الخوض في حرب لا تحمد عقباها، بدل المخاطرة في الرد بالمثل، والمشاركة في حرب نووية، ومواصلة الأعمال العدوانية المعهودة.
كانت العديد من المفاهيم الاستراتيجية المقترحة للتعامل مع الاتحاد السوفيتي، إما غير مسؤولة، أو غير متوافقة تماما مع قدرات الولايات المتحدة الحالية، لذلك تم التخلص منها على الفور
من جهة أخرى، إذا خطر ببال متابعي هذا الشأن أن “الحرب النووية المحدودة” تبدو عبارة ملطفة، فهم حتما على صواب، فكيف يمكن التخفيف من وقع قصف منطقة ما بقنبلة نووية، حتى ولو كانت الأسلحة ذات قدرة نووية محدودة. ومن هذا المنطلق، فإن الدخول في حرب نووية محدودة مع الصين أو روسيا، سينتج عنه لا محالة استخدام هذه الدول لرؤوسها النووية للانتقام.
في واقع الأمر، فإن التخطيط لاستخدام أسلحة ذات قدرة نووية محدودة، لا يعدو أن يكون سوى وهم خطير. فبالعودة إلى التاريخ الأمريكي، وضحت إدارة نيكسون عدم جدوى هذا المفهوم، من خلال إدراج مخططها المتعلق بالضربات النووية المحدودة ضد الاتحاد السوفيتي، تحت مسمى “نظرية الرجل المجنون”.
وفي هذا الصدد، أشارت صحيفة رول كول في تقريرها، إلى أن “هذه التوصية ذات صبغة تطويرية لا ثورية”، حيث أن استراتيجية الحرب النووية المحدودة لا تستند إلى مفهوم محدث جديد، بل هي في الواقع محض امتداد لنظرية سابقة ومتأصلة في التاريخ السياسي الأمريكي.
والجدير بالذكر أنه، وبعد قصف الولايات المتحدة لهيروشيما وناغازاكي في سنة 1945، عن طريق استخدام القنبلة النووية لأول مرة، فُتح “صندوق باندورا” النووي، لتدخل بذلك الدول في سباق نحو إنتاج وتطوير رصيدها من الأسلحة. وقد تم التركيز خلال عملية التطوير على بناء منشآت عسكرية أكثر مقاومة للظروف القاسية، وابتكار أسلحة نووية أكثر قوة واستراتيجية.
ومن هذا المنطلق، فإن الأسلحة النووية الفتاكة التي تعمل القوى العظمى على تطويرها، والتي قد تقضي على الحضارة الإنسانية وجميع أشكال الحياة على كوكب الأرض في غضون دقائق، قد ولدت مفهوم التدمير المتبادل. علاوة على ذلك، فقد خلقت هذه الأسلحة حالة من فقدان الاستقرار الأمني، وعدم اليقين من نجاعة أنظمة الردع النووي القائمة بين مختلف القوى العالمية، في وقتنا الحالي.
خلافا لذلك، لم تكن الأسلحة النووية، خلال المراحل الاولى من الحرب الباردة، مصممة لأهداف الردع الاستراتيجية، وإنما كانت مخصصة للحروب واسعة النطاق. وخير مثال على هذه الأسلحة؛ الدبابة الأمريكية “إم 4 شيرمان”، والرشاش الروسي “أيه كيه-47″، فضلا عن أن الأسلحة النووية، خلال فترة الخمسينات، كانت مصممة لاستهداف العدو مباشرة.
من غير المرجح أن تحتل الأسلحة النووية محدودة التأثير الأهمية ذاتها على المستوى الاستراتيجي في خطة الحرب الأمريكية، كما كان في السابق
وبالإضافة إلى ما ذكر آنفا، دخلت حيز الخدمة مجموعة واسعة من الأسلحة، مثل صواريخ “جو جو” غير الموجهة، والألغام الأرضية، والقذائف المدفعية، وقاذفة الصواريخ “البازوكا”. ومن المثير للاهتمام أنه وحتى في المهام التي كان من الممكن فيها الاكتفاء بالأسلحة التقليدية، كان يتم تجربة واختبار هذه الأسلحة على أرض الميدان، لمعرفة قدرتها والضرر الذي يمكن أن تلحقه بالعدو لضمان أفضلية التصعيد خلال الحرب النووية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأسلحة قد تم الاستغناء عنها تدريجيا إلى أن تلاشت نهائيا خلال تسعينات القرن الماضي. في المقابل، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بحوالي 180 قنبلة نووية تكتيكية في أوروبا، لتُستعمل فيما بعد من قبل حلف شمال الأطلسي إذا ما شنت روسيا حروبا مفتوحة. ولحسن الحظ، لم يتم استخدام هذه الأسلحة مطلقا إلى الآن، لكننا نعلم علم اليقين من خلال الحروب المتعاقبة التي شنتها مختلف الإدارات الأمريكية، أن مفهوم الحرب النووية المحدودة ليس سوى أضغاث أحلام.
خلال مناورات كارت بلانش في سنة 1955، تم إطلاق أكثر من 300 سلاح نووي تكتيكي، لاستهداف القوات السوفيتية على الأراضي الألمانية، بهدف وقف تقدمها. وفي أعقاب هذه العملية، قتل ما لا يقل عن 1.7 مليون ألماني، وجرح قرابة 3.5 مليون شخص، ناهيك عن ضحايا الإشعاعات المنبعثة في المناطق المستهدفة. وفيما بعد، تم تسريب نتائج هذه العملية العسكرية للصحافة، وقد ترتب عن ذلك احتجاجات واسعة النطاق، واحتقان شعبي في ألمانيا الغربية، التي أعربت عن تنديدها باستراتيجية التوظيف النووي الأمريكية.
عموما، من غير المرجح أن تحتل الأسلحة النووية محدودة التأثير الأهمية ذاتها على المستوى الاستراتيجي في خطة الحرب الأمريكية، كما كان في السابق، ولكن حتى استخدام الأسلحة ذات القدرة النووية المحدودة يمكن أن يتسبب في خسائر لا يمكن تصورها، فضلا عن الضرر الإشعاعي الدائم.
ومن ناحية أخرى، أشار تقرير “رول كول” حرفيا إلى أن “توسيع مخزون الولايات المتحدة من الرؤوس الحربية ذات القدرة النووية المحدودة… يمكن أن يؤدي إلى استجابة الخصوم لمثل هذا النوع من الاستفزاز، الذي من شأنه أن يزيد من خطر اندلاع حرب نووية… وبالتالي، سيحتاج الجيش الأمريكي إلى تقديم جملة من الخيارات للرئيس، المتعلقة أساسا باستخدام هذه الأسلحة. وقد تكون هذه الخيارات مغرية… لأن الرئيس قد يعتقد أنه بالإمكان استخدام هذه الأسلحة دون التسبب في اندلاع حرب نووية عالمية”.
إن التخطيط لاستخدام أسلحة ذات قدرة نووية محدودة، لا يعدو أن يكون سوى وهم خطير
في الحقيقة، إن هذا الاعتقاد هو ضرب من الخيال، إذ أن المشكلة الحقيقية وراء هذا الاقتراح تكمن في أن أي استخدام للسلاح النووي، سواء كان محدودا أو مطلقا، سيؤدي حتما إلى نشوب صراع مجهول العواقب.
في سنة 1983، شنت إدارة الرئيس ريغان مناورات لاختبار “نظرية الرجل المجنون”، وتحليل جدوى الخطط الحربية النووية الأمريكية، ووضعها تحت المجهر. وقد أطلق على هذه العملية الاسم الرمزي “النبي الفخور”، وقام حلف الناتو في إطار هذا الاختبار بإطلاق ضربات نووية محدودة ضد الأهداف السوفيتية، ردا على الاستفزاز التقليدي لقواته. في المقابل، وبدلا من التراجع، ضاعفت القوات السوفيتية من حدة الهجمات، وشنت هجمة نووية مرتدة على الولايات المتحدة، ما دفع القوات الأمريكية إلى الرد بالمثل.
انتهت المناورات العسكرية.
عندما انتهت العملية، وخمد رماد مليون جثة بشرية بعد القصف النووي، كان حلف الناتو قد اختفى من الوجود. فضلا عن ذلك، مثلت نتائج التقارير صدمة لريغان. لقد كانت ردود الفعل العكسية أسرع مما كان يتوقع.
ووفقا لمستشار وزارة الدفاع في إدارة ريغان، بول راكن، فقد “كانت العديد من المفاهيم الاستراتيجية المقترحة للتعامل مع الاتحاد السوفيتي، إما غير مسؤولة، أو غير متوافقة تماما مع قدرات الولايات المتحدة الحالية، لذلك تم التخلص منها على الفور”.
وبعد انقضاء بضعة أشهر، صرح ريغان في خطابه الشهير أمام الشعب الأمريكي “ليس من الممكن تحقيق النصر في الحرب النووية ولا يجب أن نخوض حربا من هذا القبيل أبدا”.
على العموم، وحتى إن كنت تعتقد أن الأسلحة النووية التكتيكية يمكن أن تقدم ميزة استراتيجية خلال أي حرب، فإن الرؤوس المتمركزة في أوروبا البالغ عددها 180، باستطاعتها أن تمنح الولايات المتحدة التميز المرجو. خلافا لذلك، يمكن أيضا لهذه الهجمات أن تنفذ من قبل قوات الولايات المتحدة التقليدية، باستعمال معدات عسكرية قوية، مثل “إيه جي إم-158” من فئة صواريخ كروز، دون التعرض لخطر التصعيد النووي الشامل.
شجع مجلس علوم الدفاع الرئيس الأمريكي على النظر في مسألة تحديث ترسانة الأسلحة، وإجراء جملة من التعديلات على الأنظمة الدفاعية وخطة التسلح، وذلك لإنتاج عدد أكبر من الأسلحة، المصممة خصيصا للاستخدامات النووية المحدودة
وحسب ما أدلى به السيناتور ديان فينشتاين، فإن “الأسلحة النووية تضطلع بدور واحد فقط، ألا وهو الردع. ولا يمكن أبدا احتواء نتائج استخدامها، وبالتالي، لا وجود لما يسمى بالحرب النووية المحدودة، وأما بالنسبة للمجلس الاستشاري في البنتاغون، فينبغي عليه عدم اقتراح مثل هذه الاستراتيجية المثيرة للجدل بتاتا”.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قد مارست هذه اللعبة من قبل، لكنها لم تبل بلاء حسنا. لذلك، نحن لسنا بحاجة إلى ترسانة الخمسينات النووية في سنة 2017، لأن العودة بالزمن إلى الوراء لن تجدي نفعا، ولن نكسب أي شيء إذا عدنا إلى رؤية العالم اليوم باللونين الأبيض والأسود. إذن، دعونا نترك الأسلحة النووية “القابلة للاستخدام” في صناديق قمامة التاريخ أيضا.
المصدر: ناشيونال إنترست