تعمل السلطات المغربية جاهدة على حفظ أمن واستقرار البلاد سياسيًا واجتماعيًا، في ظل تنامي الحراك الشعبي في الدول المجاورة خلال الفترة الأخيرة، خوفًا من انتقال الانتفاضات إليها. خوف يزداد يومًا بعد آخر خاصة مع توافر الأرضية المواتية لمثل هذه التحركات الشعبية، فهل يكون الحوار الاجتماعي والزيادة في الأجور كفيلاً بحفظ استقرار المملكة؟
زيادة الأجور
قبل أيام قليلة، أعلنت الحكومة المغربية قرب التوصل إلى اتفاق مع المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية والاتحاد العام لمقاولات المغرب (ممثل أرباب العمل في القطاع الخاص) بخصوص الحوار الاجتماعي في البلاد.
جاء ذلك على لسان الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى الخلفي، حيث قال في لقاء صحافي عقب اجتماع المجلس الحكومي الخميس الماضي: “أعلن رئيس الحكومة في الاجتماع قرب صدور أخبار مفرحة عن الحوار الاجتماعي”.
وأضاف الخلفي أن تفاصيل العرض الذي قدمته الحكومة للنقابات “سيعلنه رئيس الحكومة بعد الاتفاق النهائي عليه بين الأطراف المعنية به”، وتابع “هناك اتفاق مبدئي على أساس أن مضمون هذا الاتفاق سيتم تدقيقه من مختلف الأطراف من أجل الوصول إلى توافق ونعلن نتائج هذا الحوار الاجتماعي”، مشددًا على أن العرض الذي قدمته الحكومة للنقابات “طموح”.
وأفاد الخلفي بأن رئيس الحكومة سعد الدين العثماني أكد في كلمته بالمجلس الحكومي أن التوافق بين الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين “مسألة جد مهمة للدفع بمسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا”.
تضمن اقتراح الحكومة الجديد، زيادة عامة لجميع الموظفين العموميين قدرها 500 درهم (50 دولارًا) للسلالم ما دون العاشر والرتبة الخامسة، و400 درهم (40 دولارًا) ابتداءً من السلم العاشر والرتبة السادسة، في إطار مفاوضات الحوار الاجتماعي، على أن يتم صرف الزيادة على ثلاث دفعات: الأولى 200 درهم (20 دولارًا) بداية مايو المقبل، والثانية مطلع يناير 2020، والثالثة في يناير 2021.
وضمن مقترحات الحكومة أيضًا، وفق نفس المصدر، زيادة 10% على دفعتين بالنسبة إلى الحد الأدنى للأجر في القطاع الصناعي والخدماتي (SMIG) والأجر الأدنى الفلاحي (SMAG) بالنسبة لأجراء القطاع الخاص، إضافة إلى زيادة التعويضات العائلية بـ100 درهم (10 دولارات) لكل طفل من الأبناء الثلاث الأوائل في أسرة الموظف (تستفيد حاليًّا الأسر من مئتي درهم شهريًا عن كل ابن).
وحسب الحد الأدنى الحاليّ للأجر في الصناعة والتجارة والخدمات، يتلقى الأجير نحو 299 دولارًا في الشهر، إذا عمل الساعات التي يحددها قانون العمل، ويعتبر مستوى الحد الأدنى في القطاع الخاص دون الحد الأدنى في القطاعات الحكومية، حيث سبق لحكومة عبد الإله بنكيران أن رفعته إلى ما يقارب 325 دولارًا في الشهر.
انفراج نسبي في الحوار الاجتماعي
هذا العرض الحكومي قبلته أغلب النقابات العمالية على غرار نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب (تابعة لحزب العدالة والتنمية) والاتحاد العام للشغالين بالمغرب (نقابة حزب الاستقلال) والكونفدرالية الديمقراطية للشغل (تابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) والاتحاد المغربي للشغل (اتحاد عمالي مستقل).
تبتغي السلطات المغربية من هذه الإجراءات استباق الأحداث وشراء السلم الاجتماعي في البلاد
ينتظر أن يتم المصادقة على هذا الاتفاق في الأيام القليلة القادمة التي تسبق اليوم العالمي للعمال الذي يصادف أول مايو المقبل، ما يعني ذلك انتهاء مرحلة البلوكاج التي طبعت الحوار الاجتماعي في المغرب منذ عهد رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران.
ويعود آخر اتفاق اجتماعي مع النقابات في المغرب إلى 26 من أبريل/نيسان 2011، في عهد حكومة عباس الفاسي، أي قبل ثماني سنوات، وتضمن زيادة بـ600 درهم في أجور موظفي الإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية.
توافق اجتماعي ظرفي
هذا التوافق الذي حصل بين النقابات العمالية والحكومة، وتسعى من خلاله الحكومة لشراء السلم الاجتماعي، يعتبره الخبير والمحلل السياسي المغربي رشيد لزرق “توافقًا ظرفيًا”، فيقول لزرق في هذا الشأن لـ “نون بوست”: “حتى لو تم الاتفاق على الزيادة في أجور موظفي الدولة، التي تبقى زيادات زهيدة جدًا لا تتناسب مع غلاء الأسعار والمعيشة، فإن الأمر لا يعدو أن يكون ظرفيًا ليس أكثر”.
ويؤكد رشيد لزرق أن النقابات تحاول تصوير هذه الزيادات التي تحققت على أنه إنجاز لم يكن بالإمكان تحقيق أفضل منه، بالنظر إلى ما تعانيه الدولة من مشاكل العجز وتراجع نسبة النمو وانكماش الاقتصاد. في المقابل تحاول الحكومة الترويج لتوافق وتقدمه على كونه إنجازًا اجتماعيًا، والحال أن المركزيات النقابية كانت في موقف ضعف وخضوع لإرادة الحكومة ورؤيتها، لا سيما أن مفاوضات قطاعية كثيرة توقفت مع الوزارات المعنية وتم ترحيلها إلى المفاوضات الاجتماعية العامة.
ويرى محدثنا أن الأغلبية الحكومية وصراعاتها تجعل الحديث عن السلم الاجتماعي حديثًا أجوف، من دون وضع مخطط واضح للولوج للتنمية، ويضيف “الأغلبية الحكومية في وادٍ والحكومة في وادٍ آخر، وهناك تمترس سياسي وانعدام للثقة بين الأطراف المشكلة للحكومة”.
وأوضح لزرق أن الصراعات داخل الأحزاب التي تشكل الحكومة انعكست سلبًا على العمل الحكومي، من ذلك ما يحصل داخل أروقة حزب العدالة والتنمية، وهو ما يفقد رئاسة الحكومة والحكومة قيمتها الدستورية ويجعلها فاقدة للمشروعية السياسية التي تخول لها التحكم في الحركات الاحتجاجية.
“هذا الأمر يجعل الحكومة لا تستطيع أن تؤثر في الحراك الاجتماعي، وعاجزة عن احتواء الشارع والسيطرة عليه، في وقت يفرض السياق السياسي أقصى درجات الحس الوطني، لتحقيق سلم اجتماعي، من خلال حكومة ذات قوة سياسية تجعل المصالح الوطنية فوق المصلحة الحزبية الضيقة”، وفق قوله.
انهيار المقدرة الشرائية في المغرب
بدوره، يؤكد الأستاذ والباحث بمركز الدكتوراه للتخطيط الجهوي والتنمية الترابية، عبد الوهاب السحيمي لـ “نون بوست”، صعوبة أن تضمن الزيادات في الأجور وحدها “استقرار أي بلد في ظل وضع داخلي يتسم بغياب الديمقراطية الحقة ووجود انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والتضييق الممنهج على الصحافيين عبر فبركة ملفات واقتيادهم للمحاكم”.
ويؤكد السحيمي أن الاتفاق الجديد الذي تسعى الحكومة لتوقيعه “لا يهدف إلى الرقي بالوضع الاجتماعي للموظفين وإنما لتجنب أي مد شعبي خاصة في ظل الوضع الذي تعرفه دول الجوار، من ذلك جارتنا الشرقية الجزائر، فآخر زيادة كانت سنة 2011 مع احتجاجات الربيع الديمقراطي الذي عرفته دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط”.
يقتضي تحقيق التنمية وتكريس الديمقراطية، وفق رشيد لزرق “توافق الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين بشأن مسائل عدة، وذلك لتأمين للاستقرار الأمني والاقتصادي، وتحقيق الرفاه الاجتماعي في المملكة، بما يساهم في تقوية الجبهة الداخلية، فضلاً عن ضمان العدالة الاجتماعية وتقوية الحس الديمقراطي لدى مواطن مؤمن بالحقوق والواجبات، يدرك قيمة العمل والإيمان بالمؤسسات”.
احتقان اجتماعي كبير
تبتغي السلطات المغربية من هذه الإجراءات استباق الأحداث وشراء السلم الاجتماعي في البلاد، حيث تخشى الرباط ترجمة هذا الاحتقان على أرض الواقع، فتعود الاحتجاجات إلى الشوارع، خاصة في ظل تواصل الحراك الشعبي في الجزائر والسودان وارتقاء وعي المواطنين الجمعي وإعلان رغبتهم في القطيعة المطلقة مع مشاكل الفساد والبطالة والتهميش التي تعانيها فئات شعبية عريضة.
لا تتحمل الحكومة مسؤولية هذا الاحتقان الاجتماعي فقط، فللمعارضة نصيب أيضًا
بداية الاحتقان الاجتماعي في المغرب، جاءت مع حادثة مقتل الشاب محسن فكري في مدينة الحسيمة، التي خلفت وراءها احتجاجات عارمة، تداعياتها ما زالت متواصلة إلى الآن، ثم جاء الخبز الأسود مع مدينة جرادة المنجمية، وبعدها مدينة زاكورة في الجنوب ومعاناتهم مع العطش وصولاً إلى احتجاجات الأساتذة المتعاقدين، وقبلها حملة المقاطعة الشعبية لمنتجات استهلاكية أساسية، فضلاً عن العديد من المحطات الأخرى التي لا تقل أهمية عن هذه.
تكشف هذه التحركات الاحتجاجية المتتالية في مختلف مناطق المملكة المغربية، الإحساس بالتهميش لدى سكان يعيشون وضعًا “مزريًا” وفق وصف البعض منهم، وضع لم تستطع السلطات المغربية الحاكمة بعد تغييره نحو الأفضل نتيجة أسباب عدة.
ويعاني المغرب من تباين اجتماعي ومناطقي كبير، على خلفية انتشار الفقر الشديد في العديد من المناطق أبرزها المناطق المعزولة في الهوامش والجبال، وأيضًا انتشار البطالة بنسب مرتفعة بين الشباب، خاصة الحاملين لشهادات جامعية عليا، فضلاً عن تردي الوضع الصحي في المملكة وتراجع جودة التعليم.
مسؤولية الحكومة والمعارضة
يعود هذا الاختناق الاجتماعي إلى السياسة العمومية للحكومة التي تصب كل اهتمامها لتحقيق التوازنات الماكرواقتصادية، دون الالتفات إلى التوازنات الاجتماعية، فالحكومة وفق رشيد لزرق بلا برنامج اقتصادي ولا حس اجتماعي، فقد اتخذت من توصيات البنك الدولي خريطة طريق، تصاغ بمنطق اتباع دون إبداع، عبر مقاربة انفرادية في التدبير وإسقاط السياسات الحكومية.
لا تتحمل الحكومة وحدها مسؤولية هذا الاحتقان الاجتماعي، فللمعارضة نصيب أيضًا، ذلك أن “الانشقاق والتنافر أصبح السمة البارزة بين مكوناتها، وهو ما جعل مقترحاتها غير مسموعة، كما عطلت الآليات الرقابية التي كان من الممكن أن تقوي مكانتها”، وفق رشيد لزرق.
احتجاجات منتظرة
يرى عبد الوهاب السحيمي أن الوضع في المغرب “جد خطير والبلد مهدد بانفجار شعبي في أي لحظة، فهناك معتقلون سياسيون وصحفيون في السجون، بالإضافة إلى التراجعات التي تطال المكتسبات الاجتماعية لمختلف شرائح الشعب المغربي، والارتفاعات الصاروخية التي تعرفها الأسعار خاصة مع حذف الدولة لصندوق المقاصة الذي كان يحمي إلى حد ما القدرة الشرائية للمواطنين”.
“فحتى الزيادات التي تقترحها الحكومة اليوم في أجور الموظفين، لا تعدو أن تكون إلا لتعويض الاقتطاعات التي طالت أجور الموظفين مع تنزيل خطة التقاعد، فمنذ 2016 وأجرة الموظف المغربي في تناقص مستمر بعد فرض رئيس الحكومة السابقة عبد الإله بنكيران، خطة التقاعد التي كان من عناصرها الزيادة في الاقتطاع من أجور الموظفين”.
بدأت الاحتجاجات في الحسيمة
يؤكد محدثنا وجود “أرضية خصبة في المغرب لقيام انتفاضات شعبية واسعة ضد التهميش والعزلة في عدة مناطق، فهناك احتقان كبير سواء على المستوى المجالي وهو ما تم التعبير عنه سابقًا باحتجاجات عارمة دامت لشهور في عدة مناطق (الريف وجرادة ووطاط الحاج وزاكورة…)، أو على المستوى القطاعي، فهناك احتقان كبير في عدة قطاعات حكومية ضد السياسات اللاشعبية المتبعة.
ويشير عبد الوهاب السحيمي إلى “الاحتقان غير المسبوق في قطاع التعليم، فالموسم الدراسي مهدد بسنة بيضاء بعد إضراب عشرات آلاف نساء ورجال التعليم لمدة تزيد على شهرين، فضلاً عن الاحتقان الموجود في قطاع الصحة مع الإضرابات المتوالية للممرضين والأطباء”.
ما يزيد من حدة الاحتقان وتعميق الأزمة، وفق السحيمي، “غياب الحوار الجدي والمسؤول مع ممثلي الحركات الاحتجاجية، فعوض لجوء الحكومة إلى الحوار لإنهاء أي أزمة، تفضل لغة القمع والاعتقالات عبر فبركة الملفات، وهو ما حصل في حراك الريف وجرادة وطاط الحاج، وبالتالي فإن احتمال حدوث انتفاضات شعبية في المغرب أمر وارد جدًا، وهناك اليوم بوادر لهذه الانتفاضات عبر الاحتجاجات اليومية في مجموعة من المواقع المغربية”.