بعد سنوات من العيش تحت ظلال الاستبداد المُظلم، نالت تونس بثورتها “الياسمينية” تجربة ديمقراطية تمايزت بها عن الدول الأخرى التي اتبعت ذات النهج الثوري ضد أنظمة الاستبداد، وانطلاقًا من كونها تجربة “تحول ديمقراطي” عامة، بذلت أحزابها السياسية التي اختارها الشعب في أول انتخابات بعد الثورة، واجتمعت تحت قبة “المجلس الوطني التأسيسي”، جهودًا حثيثة في سبيل تسطير دستور يحمل في ثناياه نماذج ديمقراطية على جميع الأصعدة، ومنها ديمقراطية الإدارات المحلية التي تُلامس في الباب السابع للدستور.
وتُشير الإدارات المحلية إلى نوع من أساليب الإدارة الذي يقوم على هيئات محلية “إقليمية أو قروية صغيرة” تُنتخب من مواطني منطقة معينة عبر صناديق الاقتراع، من أجل تقديم الخدمات والاحتياجات المحلية الإدارية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية، وغيرها، لهم، وعادة ما تتسم الإدارات المحلية بمحدودية المنطقة الجغرافية وعدد السكان المقيمين داخل حدودها.
وانطلاقًا من التقارب الجغرافي والسياسي والثقافي بين تركيا وتونس، يحاول المقال الإجابة عن تساؤل مفاده: هل تنجح تونس في السير على نموذج الإدارات المحلية التركية؟ وللإجابة عن هذا التساؤل، يجدر بنا تسليط الضوء على تفاصيل نظام الإدارات المحلية في تركيا.
تتمتع الإدارات المحلية في تركيا باستقلالية عالية جدًا في القرارات والخطط عن السلطة المركزية، وتتسم هذه الإدارات “بالاستقلال الديمقراطي الذاتي” الذي تكتسبه من الإرادة الشعبية التي تعكس رغبتها عبر صناديق الاقتراع، وتتميز هذه الإدارات أيضًا “بشخصية اعتبارية قانونية” تُكسبها حقوق وواجبات يُحددها ويضمنها الدستور.
لا يمكن نفي وجود نوع من الرقابة المركزية على الإدارات المحلية، بل توجد رقابة مركزية تُسمى “سلطة الوصاية” التي تكفل للحكومة التركية التحرك ضد هذه الإدارات، في حال أقدمت على مخالفات دستورية
وقد سعى المُشرع التركي إلى إكساب الإدارات المحلية استقلالية ملموسة عن المركز، كي تتجنب سلبيات الحُكم المركزي التي تكمن في البيروقراطية المُميتة وتُضعف الاختيار الدُيمقراطي للشعب بما يعزز احتكار السلطة المركزية للقرار المدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والخدماتي الذي قد يجافي طموح المواطنين، بمعنى أنه يؤسس لصمام أمان ضد هيمنة الحكم المركزي أحادي التوجه، ويميل للمحاباة المناطقية حسب رأس السلطة.
ولكن في هذا الإطار، لا يمكن نفي وجود نوع من الرقابة المركزية على الإدارات المحلية، بل يوجد رقابة مركزية تُسمى “سلطة الوصاية” التي تكفل للحكومة التركية التحرك ضد هذه الإدارات، حال أقدمت على مخالفات دستورية.
أنواع الإدارات المحلية في تركيا
لا تقتصر الإدارات المحلية في تركيا على البلديات فقط، بل هناك 3 أنواع للإدارات المحلية:
1ـ الإدارة الخاصة للمدينة: بحسب قانون الإدارة المحلية التركي رقم 5302، فإنها إدارة تُدار من مجالس تُنتخب من مواطني المدينة، لتحديد احتياجات المدينة واتخاذ القرارات اللازمة لسدها، وتتمتع هذه الإدارات باستقلالية مالية وإدارية تمكّنها من اتخاذ القرارات اللازمة بعيدًا عن توجيهات السلطة المركزية.
ولرفع مستوى استقلالية هذه الإدارات سُمح لها بتأسيس موارد ذاتية وحُصنت بمواد دستورية، وكما أًسلف ذكره، للسلطة المركزية رقابة وصاية على هذه الإدارات، حيث يعمل مجلس المدينة وهيئة اتخاذ القرار النهائي في المجلس بالتنسيق مع الوالي التابع بشكل مباشر لوزارة الداخلية.
2ـ البلديات: عند النظر إلى قانون البلديات التركي رقم 5393، نجد أن تعريف البلديات يشابه إلى حدٍ كبير تعريف إدارات المدن الخاصة، ولكن تختلف عن الإدارة الخاصة للمدينة، باستقلالية أكبر عن الوالي، والتخصص في تقديم الخدمات المدنية والبيئية والاجتماعية للمنطقة التي تفعل فيها، بخلاف الإدارة الخاصة التي تفعل في مجالات تتعلق بالوضع الأمني والإداري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي العام للوحدة الإدارية الواسعة التي يُطلق عليها اسم “المدينة”.
كانت ذريعة السلطات التونسية السابقة في رفض لامركزية الحكم المحلي تقوم على أن الدولة من الصعب أن تحتمل أكثر من مركز إداري
3ـ إدارة القرية: أصغر وحدة إدارية مستقلة في تركيا، والقرية هي منطقة صغيرة يتراوح عدد سكانها ما بين 150 إلى 5000 شخص، تضارع إدارة القرية الإدارة الخاصة للمدينة فيما يتعلق بالخدمات التي تقدمها، ولكن تقتصر هذه الخدمات على منطقة صغيرة داخل المدينة، وتتألف إدارة القرية من جمعية القرية التي ترصد احتياجات القرية، وهيئة شيوخ القرية التي تُساعد المختار في مناقشة احتياجات القرية وآليات تلبيتها، والمختار الذي يلعب دور حلقة الوصل بين القرية والإدارة الخاصة للمدينة، ويذيع قرارات الحكومة الصحية والأمنية على أهالي القرية، ويستقبل الوفود الحكومية ويُسهل مهامها، ويصادق على الأوراق الرسمية لأهالي القرية، وغيرها.
وفي تونس، شكل التوجه المركزي للحكم القائم على تغليب المركزية أو اللامحورية على حساب اللامركزية؛ مما أدى لإضعاف حوكمة إدارة الحكم المحلي فيها منذ استقلالها حتى إقرار دستور 2014، بحسب بابه السابع، مبادئ الحكم المحلي التي تؤسس لديمقراطية محلية.
وكانت ذريعة السلطات التونسية السابقة في رفض لامركزية الحكم المحلي تقوم على أن الدولة من الصعب أن تحتمل أكثر من مركز إداري نظرًا لأهمية القرار الإداري والسياسي الذي إن تعددت الجهات التي تصدره، يمكن أن يهدد وحدة الدولة ويزيد من أعبائها المادية ويضعف قدراتها الرقابية والتنسيقية بينها وبين الأقاليم؛ الأمر الذي أدى إلى حصر النظام الإداري المحلي على نفس النخبة السياسية التابعة أو “المبايعة” للنظام السياسي الذي نشر بأسلوبه الإداري المذكور التهميش والإقصاء والاستبداد حتى على الصعيد المحلي المناطقي.
وفي الحقيقة، هذه الذريعة مجافية للواقع والحقيقة، ويمكن استشفاف ذلك من التجربة التركية بشكلٍ يسير؛ فقد منح المشرع التركي منذ تأسيس الجمهورية التركية، المواطنين حرية اختيار الإدارة المحلية بعيدًا عن شكل الإدارة الهرمية المُطلقة التي يحتكر فيها المركز السلطات على جميع المستويات، وقد نجحت الإدارات المحلية التركية في تسطير نموذج ديمقراطي ناجح.
التقارب الجغرافي والسياسي والثقافي والاجتماعي التونسي التركي: يلعب التقارب الجغرافي دورًا ملموسًا في تشكُل روابط ثقافية واجتماعية متينة وتشابهٍ سياسي نسبي يجعل تناقل النماذج العملية أكثر سلاسة
إن التجربتين التركية والتونسية في نظام الحكم الإداري والبلدي متشابهتان إلى حدٍ كبير من حيث تاريخ التأسيس، بل تسبق التجربة التونسية التجربة التركية بعشر سنوات، إذ تأسست أول بلدية عام 1858، أما الدولة العثمانية فشهدت أول بلدية عام 1868.
لكن فيما تطوّر الحكم الإداري البلدي وكسب الاستقلالية بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، انتكست التجربة التونسية بفعل الحكم السلطوي، وتُساهم التجربة التاريخية التونسية في خدمة سلطات الحاضر لإعادة إحيائها بسلاسة، كونها تشكل تجربة واقعية خاصة بها حصرًا، ومع إضافة بعض جوانب التجربة التركية التي اتسمت بالاستمرارية والنجاح، يمكن تحقيق تجربة تونسية محلية ناجحة.
ولعل ما يجعل التجربة التركية جيدة للتجربة التونسية لحذو حذوها على صعيد الإدارات المحلية:
ـ التقارب الجغرافي والسياسي والثقافي والاجتماعي التونسي التركي: يؤدي التقارب الجغرافي دورًا ملموسًا في تشكُل روابط ثقافية واجتماعية متينة وتشابهٍ سياسي نسبي يجعل تناقل النماذج العملية أكثر سلاسة، إذ إن تشرب هذه النماذج يصبح يسيرًا على مستوى الدولة والأفراد.
ـ الاهتمام التركي بنقل تجربتها لتونس: بعد فشل ثورات “الربيع العربي” في أكثر من منطقة، ظلت التجربة التونسية هي التجربة الوحيدة الناجحة في عملية “التحول الديمقراطي”.
وانطلاقًا من تبني تركيا سياسة “الدعم المفتوح” لبلاد ثورات الربيع العربي”، وخسارة علاقاتها مع عددٍ من الدول، فإنها باتت بحاجة إلى الاستمرار على ذات النهج، لنقل تجربتها لتونس على جميع المستويات ومعاونة تونس في تطبيق هذه التجربة، حتى تكون نموذجًا مشجعًا لمواطني المنطقة، في التوجه نحو المطالبة دومًا بالتغيير الذي إن أصبح ديمقراطيًا يخدم تركيا أكثر في نسج علاقات أمنية واقتصادية وسياسية قوية مع الدول المجاورة لها.
بالاطلاع على التجربة التونسية فيما يتعلق بالإدارة المحلية، نجد أنها جيدة نظريًا، لكنها بحاجة إلى مساندة عملية
فالحكم الديمقراطي يُنتج أنظمةَ مشابهة لنظام الحكم في تركيا؛ من حيث الفكر والطموح والرؤية، وقد عكست تركيا عبر دعوة النخبة التونسية، دومًا، إلى المؤتمرات وورش العمل وتقديم الدعم اللوجستي والمالي والاستثماري والتعليمي لتونس، وتوأمة أكثر من إدارة محلية تونسية مع إدارات محلية تركية، وغيرها، حجم رغبتها في إيصال التجربة التونسية إلى الهدف المنشود.
ـ الضمان الدستوري التونسي الأوسع للإدارات المحلية مقارنة بتركيا: تتميز تونس بتجربة فريدة دفعت دول كبيرة عدة للسعي إلى التقرب إليها، ونقل تجاربها بالشكل الذي يُنتج نظامًا محاكيًا لها، قدر الإمكان، سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا، وساهمت رغبة الأحزاب السياسية التونسية التي تسلمت مقاليد الحكم بعد ثورة “الياسمين” إلى إعداد دستور مقتبس مضمونه من تجارب عدة، حتى يصبح خليطًا نموذجًا من حيث الشكل والمضمون.
وقد انعكس ذلك، على سبيل المثال، في الباب السابع الخاص بالإدارات المحلية، إذ تفوق على عددٍ من الدول ذات التجربة منذ زمنٍ بعيد، ومنها تركيا، فبينما سمح الدستور التركي لوزارة الداخلية بإجراء تحقيقات داخل الإدارات المحلية في حال كان هناك مخالفات دستورية، حصن الدستور التونسي الإدارات المحلية من المحاسبة أو نظام الوصاية خلال دورتها الانتخابية.
كما أن أسس الإدارة المحلية التونسية شملها الدستور، على العكس من أسس الإدارة المحلية التركية التي عُرفت بالقانون، ولا ريب في أن الدستور أقوى وأرفع قيمة من القوانين.
في الختام، بالاطلاع على التجربة التونسية فيما يتعلق بالإدارة المحلية، نجد أنها جيدة نظريًا، لكنها بحاجة إلى مساندة عملية، ويبدو أن تبادل التجارب العملية ليس بين تونس وتركيا فقط، بل عدة دول، قد يُوصل تونس إلى تجربة ناجحة في الإدارات المحلية، ويبدو أن الأساس النظري يؤهل تونس للسير على نموذج الإدارة المحلية التركية التي تعد الأقرب لها، من ناحية التقارب الجغرافي والسياسي والثقافي والاجتماعي.