كلما ضُيّق الكادر أكثر لإعلان صفقة القرن التي يسميها ترامب وحلفاؤه “خطة السلام” المتوقع عرضها في الأسابيع القليلة المقلبة، كثر الحديث عن الضغوط المكثفة لإدارة ترامب على الأردن مقابل تخليه عن حقوق فلسطين، مصالح أم مواءمات مفروضة من الداخل والخارج ولا بديل عنها؟ حكايات عبثية أم انعكاس واقعي لما كان يجرى خلف الكواليس؟ العالم بأكمله يحاول استبيان الحقيقة.
لماذا الأردن الآن؟
لأنه ركن أساسي في أي مفاوضات مستقبلية عن القضية، باعتباره البلد الحاضن لأكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين، وانغماسه التاريخي في مسؤولية حماية الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية على السواء، بجانب تعقد آليات الحوار بل وانقطاعه تمامًا بين سلطة محمود عباس أبو مازن وترامب، بعد إصرار أمريكا على نقل سفارتها للقدس المحتلة.
مع اقتراب ساعة الصفر لعرض التصور الأمريكي للصفقة، تظهر أكثر ملامح عملية الابتزاز المنصوبة للمملكة الهاشمية التي تبوح ببعض أسرارها عشرات التقارير الإخبارية التي تخرج بشكل يومي سواء داخل المنطقة العربية أم خارجها، وجميعها يسير في فلك التنبؤ بما يمكن حدوثه قبل إلقاء ترامب حقيبة متفجراته بوجه التاريخ، لينسفه كاملاً أو بعضه، المهم أن البناء على الأرض المحروقة يجب أن يسير وفق الهوى الأمريكي الذي لا يرى في فلسطين حقوقًا إلا لجانب واحد فقط “إسرائيل”.
كان العرب قديمًا لديهم موقف قاطع وموحد تجاه القضية الفلسطيينة، الآن صارت المواقف العربية مبعثرة، ولكن أكثرها قدرة على التأثير يتخندق مع الإدارة الأمريكية والإسرائيلية، وكلاهما باتا على ثقة أنه لا توجد عقبة كبرى في المنطقة أمام تمرير صفقة القرن إلا المملكة الحامية للمقدسات الإسلامية التي تتمسك بإقامة دولة ذات سيادة للفلسطينيين عاصتها القدس الشرقية، على حدود الرابع من يونيو 1967.
تشير القصاصات الإخبارية المنتشرة داخل “إسرائيل”، وفي وسائل إعلام بلدان النفوذ العالمي المهتمة بالقضية، أن الضغوط مكثفة من أمريكا لإقناع العرب بإعلان بلدة أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلاً من القدس الشرقية
وهو العرض الذي بات مرفوضًا الآن، لذا يكثف صهر ترامب ومستشاره لشؤون الشرق الأوسط بجانب جيسون جرينبلات مبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط، الضغوط على عمان، في محاولة لوضع النقاط على الحروف قبل إلزام الجميع بالحل الأمريكي.
تشير القصاصات الإخبارية المنتشرة داخل “إسرائيل”، وفي وسائل إعلام بلدان النفوذ العالمي المهتمة بالقضية، أن الضغوط مكثفة من أمريكا لإقناع العرب بإعلان بلدة أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلاً من القدس الشرقية، على أن لا تمر الصفقة دول مقابل؛ فـ”إسرائيل” هي الأخرى ستنسحب من 5 قرى وأحياء عربية شرق القدس وشمالها، وبذلك تتحول المدينة القديمة إلى السيطرة الإسرائيلية، بما يضرب بُعدها التاريخي بل وينهي تمامًا رمزية القضية الفلسطينية.
ولم تنس أمريكا تجريد الدولة الفلسطينية المزعومة في صفقتها من أي أسانيد للقوة، بما يقف حائلاً ضد تحولها لكرة لهب قد تنفجر في وجه “إسرائيل” بوقت لاحق، عندما تقوى شوكتها وتكون لها قوة المنازعة والمنافسة التسليحية، لذا رفضت أمريكا وفق الخطة الموضوعة إنشاء جيش لفلسطين، على أن تبقى دولة منزوعة السلاح ليس لها أي حق في اقتناء أسلحة ثقيلة، يمكنها تهديد الجارة والصديقة “إسرائيل”.
كيف يجرى تركيع الملك عبد الله؟
تعلم الإدارة الأمريكية جيدًا الحالة التي أصبح عليها الاقتصاد الأردني، بل والموقف السياسي الذي تراه مهتزًا للملك عبد الله بما قد يطيح به في أي وقت تتعالى فيه صيحات الاحتجاج الذي ستؤيده أمريكا وبكل قوة حال رفض الأردن الخضوع لرغباتها في تسوية القضية الفلسطينية على النحو الذي تريد، وبمزيج من الابتزاز والتلويح بأزمات الداخل، ينصب ترامب شراكه لهدم حائط الأردن الذي يقف سدًا قويًا ضد تحقيق رغباته.
عملية الابتزاز الأمريكية وحتى العربية مقابل المساعدات لم تعد سرًا، بل أفصح عنها الملك عبد الله نفسه خلال خطابه في الجامعة الأردنية، قبل نحو 4 أشهر
تراهن إدارة ترامب على حجم الأزمات المتصاعدة بالمملكة وبوادر الاحتقان السياسي بسبب التغيير البطئ والاستجابة البيرواقراطية لمطالب القوى السياسية والثقافية نحو الإصلاح السياسي في البلاد، بجانب الغليان الشعبي الذي انفجر إثر تزايد الفواتير الاقتصادية الصعبة التي حملتها الحكومة السابقة للشعب لإنقاذ الأردن من كارثة، بما أجبر المواطنين على النزول للشوارع في احتجاجات كبرى، لم تهدأ إلا بالتراجع عن الإجراءات الضرائبية الجديدة، وبل تحمل تكلفتها سياسيًا باستقالة أو إقالة الحكومة.
وهي الأحداث المتصاعدة التي جعلت محور السعودية والإمارات يستشعر الخطر من تدخل إقليمي وشيك في الأحداث، بما قد يضع البلد الكبير بعيدًا عن بوصلتيهما، فكانت المبادرة بتقديم حزمة مساعدات لعمان بمشاركة الكويت، وتم بالفعل ضخ مساعدات بقيمة 2.5 مليار دولار في اقتصاد المملكة المتداعي.
عملية الابتزاز الأمريكية وحتى العربية مقابل المساعدات لم تعد سرًا، بل أفصح عنها الملك عبد الله نفسه خلال خطابه في الجامعة الأردنية، قبل نحو 4 أشهر، وقبل اندلاع الاحتجاجات على الأسعار والأزمات الاقتصلادية، وقال نصًا: “نتعرض لابتزاز، فالرسائل جميعها مفادها امشوا معنا في موضوع القدس ونحن نخفف عنكم”.
لقاء جلالة الملك مع طلبة كلية الأمير الحسين بن عبد الله الثاني للدراسات الدولية
لم تقف التسريبات الأردنية عند الضغوط التي يتعرض لها الملك وحدة، بل يبدو أن هناك شبه منهجية في عملية الإفراج عما يحدث داخل الكواليس بغرض إبصار المجتمع الأردني والعرب بما يجرى، تحسبًا لما يمكن حدوثه إذا زادت الضغوط واضطر الملك للإذعان لها، رغم ثبات الموقف الأردني من القدس حتى الآن الذي لا يرضى بديلاً عن الحقوق التاريخية للفلسطينيين والإيمان بحقهم في تقرير مصيرهم.
التنمر الأردني ضد محاولات تركيعه، كان محل جدل بين العديد من أساتذة العلوم السياسية، حتى بين هؤلاء الذي ينهاضون الصفقة ويهاجمونها باستمرار، وعلى رأسهم أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور حسن نافعة المعارض البارز لحكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يرى أن الملك عبد الله لن يكون بإمكانه مناطحة الإدارة الأمريكية مباشرة، ودلل على ذلك بالمحادثات التي يجريها مع آخرين في الإدارة الأمريكية بعيدًا عن ترامب، مستبعدًا أن تأتي هذه المحاولات بأي نتيجة تذكر.
أوراق عمان في مواجهة صراعات الخليج
يمتلك الأردن أوراقًا كثيرة للاستمرار في سياسته الموالية للموقف الفلسطيني، يمكن ملاحظة ذلك في سياسة العصا والجزرة التي يتبعها ترامب مع المملكة الهاشمية من خلال تشديد الضغوط ثم تبريدها سريعًا على الأردن؛ فالرجل المعروف عنه اللجوء للعجرفة ومحاولات فرض إرادته كما هي عادة سياسة أمريكا الخارجية منذ توليه السلطة، ينتبه جيدًا ويتعامل بحكمة مع جملة التقارير الموضوعة على مكتبه وتشير إلى صعوبة خنق الأردن في ظل حالة الاستقطاب الدائرة بالمنطقة بين الفرقاء الخليجيين.
كان إبعاد الأردن كليًا عن دوامات الربيع العربي التي ظلت تشكل كابوسًا كبيرًا للأنظمة الخليجية، أحد أهم أسباب التدخل السريع للملك سلمان لإخماد ثورة الشارع الأردني
وكما هو الحال في أمريكا، يعي أيضًا الأردن جيدًا حجمه ووزنه السياسي في المنطقة، بالنسبة لجميع الأطراف الخليجية المتصارعة رغم رفضه اللعب على ذلك لتحصيل مزيد من المكاسب؛ فالمملكة فرس رهان بقيادتها التاريخية في ظل محاولة كل طرف ضم حلفاء من خارج الدائرة الخليجية الصغيرة بما يضمن تشكيل تحالفات على نطاق أوسع، تكون ضامن “على بياض” لسياسات هذا أو ذاك، وهي الطريقة التي لم تعد تعتمد الأقطاب الخليجية غيرها بديلاً، فإما معنا بكل جوارحك أو علينا.
كان إبعاد الأردن كليًا عن دوامات الربيع العربي التي ظلت تشكل كابوسًا كبيرًا للأنظمة الخليجية، أحد أهم أسباب التدخل السريع للملك سلمان لإخماد ثورة الشارع الأردني، بجانب مساندة السعودية في مواقفها ضد قطر وإيران، وهي المنافع التي عددتها وسائل الإعلام السعودية، وطالبت الأردن دون مواربة برد الجميل وعدم اللجوء للسياسة القديمة التي تفضل مسك العصا من المنتصف، ويحبذها دائمًا الملك عبد الله، وطالبت بلادها بكل حسم، بالتعامل وفق أجندة المصالح التي يتبعها الغرب في تسوية رغباته.
الساعة الأخيرة.. الأردن.. دعم بأي ثمن؟
في عرف الإعلام السعودي تبرعات الغرب محسوبة ومراقبة من مؤسسات الدولة كافة، بما يجعل الحصول على المنح الاقتصادية “ربا سياسي” مرهونًا بالموافقة المسبقة على فواتيرها التي تتمثل في التنازل أو تأييد مواقف سياسية تتبناها أمريكا في المنطقة، ولن يضر الأردن اتباع ذلك طواعية دون إجبار مع خزائن الخليج المفتوحة على مصراعيها مقابل اشتراطات سياسية وضغوط أقل.