جاء التقرير السري المسرب والمقدم لمجلس الأمن الدولي بشأن تورط نظام بشار الأسد في استخدام أسلحة كيماوية ضد السوريين، ومن قبله التقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية والذي اتهم الرئيس السوداني عمر البشير بخرق القرارات الأممية واستخدام مواد كيماوية خلال مواجهاته مع بعض القبائل بدارفور غرب السودان، ليضع العديد من التساؤلات، أبرزها يدور حول الصمت الدولي على هذه الجرائم التي صُنفت بأنها (جرائم حرب ضد الإنسانية).
ثلاثمئة ألف ضحية في دارفور، وما يزيد عن مليوني قتيل وجريح في سوريا، كانت أبرز ملامح المحصلة النهائية لهذه الحرب القذرة التي شنها نظاما البشير والأسد طيلة السنوات الماضية، وبات الدفاع عن الكرسي والتشبث به غاية تدرك بكل السبل، حتى ولو على أشلاء الشعوب، فهل قدر للعرب إن لم يموتوا بأيدي أعدائهم ومستعمريهم أن يموتوا بأسلحة أنظمتهم الكيماوية والبيولوجية؟
دارفور.. رائحة الموت الملوث
تعد أزمة دارفور من أكثر الصراعات التي فرضت نفسها على الأجندة الدولية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، لما احتوت عليه من استخدام لكافة أنواع الأسلحة المحرمة دوليًا، فضلاً عما خلفته من كوارث بشرية ومادية وبيئية، ألقت بظلالها القاتمة على حياة الملايين من السودانيين.
البداية تعود إلى فبراير 2003 حين نشب نزاع مسلح في الإقليم الذي يقع غربي السودان، ويمثل خمس مساحته الجغرافية، جرّاء خلفيات قبلية عرقية عنصرية وليست دينية كما صور البعض، خاصة وأن إقليم دارفور يتميز بتنوع الأعراق والقبائل وتباين التوجهات والمعتقدات الفكرية والسياسية.
لم يكن النزاع المسلح الذي نشب في 2003 هو الأول من نوعه بين قبائل الإقليم، ففي 1989 شبّ صراع دامٍ بين الفور والعرب أسفر عن سقوط المئات من القتلى، إلى أن استجابت القبيلتان للمصالحة، وفي 1998 نشب صراع آخر بين العرب والمساليت غرب دارفور، استمر ثلاث سنوات قبل أن ينتهي باتفاقية سلام بين الطرفين أوصت ببقاء المساليت في تشاد تجنبًا لأي مشاكسات بين الطرفين.
الصراع في دارفور ينقسم إلى محورين رئيسيين، الأول: الطرف المكون من الحكومة السودانية وقوات من ميليشيات الجنجاويد المؤلفة من بعض بطون القبائل العربية مثل البقارة والرزيقات، الثاني: الطرف المكون من بعض الجماعات المتمردة، أهمها حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة الذين تنحدر أصولهم على الأغلب من القبائل غير العربية في دارفور مثل الفور والزغاوة والمساليت.
واستمر النزاع والصراع في الإقليم بين الطرفين منذ 2003 وحتى وقت قريب، خلف وراءه ما يقرب من ثلاثمئة ألف قتيل، وما يزيد عن مليوني ونصف المليون نازح خارج البلاد، فضلاً عن عشرات الآلاف من المشردين داخل السودان دون مأوى أو عائل لهم.
في 2008 تحدث المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو، عما أسماه تورط البشير في “جرائم إبادة جماعية” في حق مجموعات الفور والمساليت والزغاوة، لأسباب إثنية.
أوكامبو في وثيقته المقدمة للمحكمة أشار فيها إلى أن هناك العديد من الأدلة التي تبرهن على أن الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير قد ارتكب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب في دارفور، فبعد مرور ثلاث سنوات على طلب مجلس الأمن بالتحقيق في دارفور، واستنادًا إلى الأدلة الدامغة يرى المدعي العام أن هناك مبررات معقولة للاعتقاد بأن الرئيس السوداني يتحمل المسؤولية الجنائية فيما يخص التهم الموجهة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
وجاء في نص الوثيقة التي قدمت في لاهاي في 14يوليو 2008: فقد قال أحد الشهود “عندما نراهم، نفر جريًا، فينجو بعضنا، ويقبض على البعض الآخر، فيقاد ويغتصب، يغتصب جماعيًا، فقد يغتصب حوالي عشرين رجلاً امرأة واحدة وهذا أمر عادي بالنسبة لنا نحن هنا في دارفور، إنه أمر يحدث باستمرار، لقد شهدت أنا أيضًا عمليات اغتصاب، ليس مهمًا من يراهم وهم يغتصبون إحدى النساء، فهم يغتصبون الفتيات بحضور أمهاتهن وآبائهن”.
الهجمات التي شنتها قوات البشير خلال الفترة المحددة أسفرت عن مقتل مابين 200 إلى 250 شخصا نتيجة تعرضهم لمواد كيماوية ملوثة، وأن غالبية الضحايا من الأطفال
ويقول المدعي العام: لأزيد من خمس سنوات، شرد الملايين من المدنيين من أراضيهم التي شغلوها لقرون، ودمرت جميع وسائل عيشهم، واغتصبت أراضيهم وسكنها مستوطنون جدد، “في المخيمات، يجبر البشير على قتل الرجال واغتصاب النساء، إنه يريد إلغاء تاريخ شعوب الفور، والمساليت والزغاوة”، ثم يسترسل قائلاً: “فأنا لا أحتمل غض الطرف، لدي أدلة”.
وفي تقرير لمنظمة العفو الدولية الشهر الماضي اتهمت فيه حكومة البشير باستخدام أسلحة كيماوية في هجومها ضد بعض القبائل في دارفور، حيث جاء في التقرير أن القوات السودانية شنت نحو 30 هجومًا بين يناير وسبتمبر الماضيين ضد بلدات في منطقة جبل مارة بدارفور في إطار حملة عسكرية أوسع نطاقًا ضد المتمردين.
المنظمة الدولية أشارت أن الهجمات التي شنتها قوات البشير خلال الفترة المحددة أسفرت عن مقتل ما بين 200 إلى 250 شخصًا نتيجة تعرضهم لمواد كيماوية ملوثة، وأن غالبية الضحايا من الأطفال، بالرغم من توقيع الخرطوم على معاهدة منع الأسلحة الكيماوية في 1999، حسبما أشارت المنظمة التي أوردت صورًا لأطفال أصيبوا في الهجمات وصورًا بالأقمار الاصطناعية لقرى دمرت ومدنيين فروا من منازلهم إضافة إلى مقابلات مع خبراء أسلحة كيميائية.
سوريا.. 139 هجومًا بالكيماوي
وبالانتقال إلى الوضع السوري فالمشهد العام أكثر تعقيدًا من نظيره السوداني، خاصة وأن سوريا باتت ساحة لتصفية حسابات القوى الدولية، فالولايات المتحدة وتركيا والسعودية وبعض دول أوروبا من جانب، وروسيا وإيران من جانب آخر، والشعب السوري وحده من يدفع فاتورة هذه الحرب بالوكالة.
ففي إحصاء أخير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، بلغت حصيلة الضحايا المدنيين على يد النظام السوري 1.8ملايين قتيل، بمعدل سنوي 45000 قتيل، أربعون ألف منهم من الأطفال والنساء، بينما بلغ عدد الذين توفوا تحت التعذيب 12500 من ضمن 124596 حالة اعتقال تعسفي.
وحسب الشبكة أيضًا فهناك 6.9 ملايين نازح داخل سوريا، و6.5 ملايين لاجئ توزعوا في دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن والعراق، والدول الإقليمية مثل مصر ودول الخليج العربي، بالإضافة لأعداد كبيرة من السوريين الذين وصلوا أوروبا في موجات لجوء متلاحقة.
بينما المرصد السوري لحقوق الإنسان، أشار إلى أن عدد القتلى والمصابين في سوريا منذ انطلاقة ثورتهم في مارس 2011، بلغ مليوني قتيل وجريح، وبحسب بيانه فقد تم توثيق مقتل 210060 شخصًا، منذ انطلاقة الثورة، 100973 من المدنيين، بينهم 10664 طفلاً، و6783 أنثى فوق سن الثامنة عشرة.
بلغت حصيلة الضحايا المدنيين على يد النظام السوري 1.8 ملايين قتيل، بمعدل سنوي 45000 قتيل، أربعون ألف منهم من الأطفال والنساء، بينما بلغ عدد الذين توفوا تحت التعذيب 12500 من ضمن 124596 حالة اعتقال تعسفي
وفي تقرير سري قُدم لمجلس الأمن الدولي تم الكشف عنه مؤخرًا حمّل قوات النظام السوري مسؤولية ما يتعرض له السوريون من حرب إبادة، متهمًا الجيش النظامي للأسد باستخدام أسلحة كيماوية في ضرباته ضد بعض المواقع في حلب، كما حدث في منطقتي قميناس وسرمين في 16مارس 2015، ومن قبلها الهجوم بغاز الكلور على منطقة تلمنس في 21 أبريل 2014.
وقد سبق هذا التقرير الذي استمر 13 شهرًا والمقدم للأمم المتحدة ومنظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية، ثلاثة تقارير أخرى، وجهت اللوم للحكومة السورية في هجوم بالغاز وبعض المواد الكيماوية الأخرى على أكثر من منطقة بمدينة حلب في محاولة لإجبار المعارضة فيها على الاستسلام، لا سيما وأن الاستيلاء على حلب يعني الكثير بالنسبة لبشار الأسد ونظامه.
التقرير أشار إلى أن القوات الحكومية السورية استخدمت طائرات هليكوبتر أقلعت من قاعدتين يتمركز فيهما السربان 253 و255 التابعان للواء الثالث والستين لطائرات الهليكوبتر، لإسقاط براميل متفجرة، أطلقت بعد ذلك غاز الكلور، مضيفًا أنه قد تم رصد السرب 618 مع طائرات هليكوبتر تابعة لسلاح البحرية في إحدى القاعدتين.
وبالرغم من عدم التأكد من أسماء الأفراد الذين كانوا في مركز القيادة، والتحكم في أسراب طائرات الهليكوبتر في ذلك الوقت، إلا أنه لا بد من محاسبة الذين كانت لهم السيطرة الفعلية في الوحدات العسكرية، حسبما أشار التقرير.
أما منظمة “هيومان رايتس ووتش” في تقريرها لعام 2016، أشارت إلى استخدام قوات الأسد مواد كيماوية في هجماتها ضد إدلب، وقال التقرير في ديباجته: رغم انضمامها إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية عام 2014، استخدمت الحكومة السورية موادًا كيميائية سامة في عدة هجمات بالبراميل المتفجرة في محافظة إدلب في مارس وأبريل ومايو، لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من تحديد طبيعة المواد الكيميائية السامة المستخدمة بشكل قاطع، إلا أن عمال الإنقاذ والأطباء أبلغوا عن وجود رائحة الكلور المميزة، ما يشير إلى احتمال استخدامه، في أغسطس الماضي.
بلغ عدد خروقات النظام السوري لقرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في 2013 بشأن تجريم استخدام الأسلحة الكيماوية، 139 خرقًا، بينها 69 خرقًا للقرار رقم 2209 الصادر في 2015.
بينما وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بعض جرائم نظام الأسد بشأن استخدام مواد كيماوية في هجماته ضد المدنيين السوريين، وهو ما أوردته في بيانها الصادر الأول من أكتوبر الحالي، والذي جاء فيه: قرابة الساعة 19:30 ألقت طائرة مروحية حكومية برميلين متفجرين محملين بأسطوانات تحوي غازًا سامًا على الأراضي الزراعية شمال مدينة كفر زيتا في محافظة حماة، ساهم في تأكيد الحادثة ارتفاع حصيلة المصابين التي بلغت العشرين شخصًا، حيث ظهرت عليهم أعراض اختناق وصعوبة في التنفس.
الشبكة أكدت أنها قد تواصلت مع عدد من أهالي الحي ومع عناصر من الدفاع المدني وناشطين إعلاميين محليين، ممن شهدوا حادثة القصف وأفادوا بالأعراض التي بدَت على المصابين من سُعال حادٍ وصعوبة في التنفس وحرقة في العين وإقياء، وهو ما أكدته الصور والفيديوهات التي وردت للشبكة، كما أظهرت صورًا أخرى لمخلفات القصف والأسطوانات المحملة بالغاز التي وُجدت في مكان الحادثة.
وبهذا الهجوم وحسبما تشير الشبكة يصبح عدد خروقات النظام السوري لقرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في 2013 بشأن تجريم استخدام الأسلحة الكيماوية، 139 خرقًا، بينها 69 خرقًا للقرار رقم 2209 الصادر في 2015.
واختتمت الشبكة بيانها بـ: “هذا الهجوم يُثبت للمرة المليون لكلِّ صاحب عقل أن النظام السوري لا يكترثُ بمجلس الأمن الدولي ولا بلجنة التحقيق الدولية، ولا بلجنة نزع الأسلحة الكيميائية، ولا بالقانون الدولي الإنساني، ولا بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا بخطِّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأحمر، ولا بالتعهدات الروسية الضامنة لعدم تكرار استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، وقد تحوَّل منذ عام 2011 إلى نظام إجرامي يستخدم إمكانيات وأموال الدولة كافة لقتل وتدمير الشعب والدولة السورية، بهدف البقاء في سلطة الحكم مهما كلَّف الأمر، كما يُثبتُ أن التَّعهد الروسي بعدم استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية لا قيمة له، وأنَّ لروسيا حدودًا معينة في تدخلها بالنظام السوري”.
المجتمع الدولي في مقاعد المشاهدين
كعادته مع القضايا ذات التوجه العربي، آثر المجتمع الدولي الجلوس في مقاعد المشاهدين المتابعين للمشهد العام هنا وهناك، دون أن يحرك ساكنًا، اللهم إلا بعض بيانات الشجب والإدانة والقلق التي لا ترتقي لبشاعة تلك الجرائم التي تجاوزت في كثير منها جرائم الحرب، ومع ذلك استقر لدى أذهان القوى الدولية أن بقاء الوضع على ما هو عليه هو الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمة بعدما تنهي الأنظمة على شعوبها.
ومع استمرار الحرب في سوريا بزعم محاربة الإرهاب والتي دخلت عامها الخامس، والتغاضي الدولي عن جرائم الأسد ونظامه، في ظل صراع الأفاعي بين روسيا والولايات المتحدة، يدفع الملايين من السوريين وحدهم فاتورة هذا الصراع، وسط تخاذل دولي ارتضى لنفسه أن يكون النظام الأكثر انتهاكًا لحقوق الإنسان في بلاده أحد المشاركين في الحرب ضد الإرهاب، كما أن كلا النظامين يعولان على روسيا الحليفة القوية للأسد والبشير في عرقلة أي قرار يدين أي من النظامين داخل مجلس الأمن الدولي.
وفي المقابل يقبع الملايين من السودانيين في نفس الخندق، فالحرب في دارفور والتي بدأت منذ ما يقرب من 13عامًا خلفت وراءها آلاف القتلى وملايين المشردين، يبدو أنها سقطت من حسابات المجتمع الدولي، الذي لم ير استفادة محققة من التدخل لحلحلة هذه الأزمة في الوقت القريب.
كلا النظامين يعولان على روسيا الحليفة القوية للأسد والبشير في عرقلة أي قرار يدين أي من النظامين داخل مجلس الأمن الدولي
وبكل وضوح يمكن القول أن التدخل الدولي المكثف في سوريا لم يوقف نظام الأسد عن استخدام الأسلحة الكيميائية وغيرها من الأسلحة الفتاكة في قتل الشعب السوري، كذلك في السودان، ولا يبدو المجتمع الدولي في الحالتين حريصًا على حماية الشعوب، فقبول تعاون أنظمة مجرمة، مثل نظامي السودان وسوريا في الحرب على الإرهاب يمد عمر معاناة الشعوب، وبالتالي فإن السلاح الكيميائي في السودان أو سوريا، إن تم نزعه، أو لم يتم، لا يكاد يشكل ذلك فرقًا كبيرًا في وضع نهاية للمجازر والقتل المستمر تحت أيدي بشار الأسد وعمر البشير، فإن لم ينتفض المجتمع الدولي لنصرة أبناء العرب فقد يكون هذا أمرًا مقبولاً، لكن كيف بالعرب أنفسهم وهم يقدمون كل يوم الذرائع والمبررات لاستمرار هذه المجازر الوحشية التي يرتكبها القادة العرب ضد شعوبهم إما بصمت متخاذل أو مواقف متأرجحة لا ترقى لمستوى الكارثة.