دولة أوروبية جديدة تضاف إلى قائمة الدول التي يتحفظ المغرب على ممارساتها تجاه المملكة وطبيعة علاقته معها، فبعد ألمانيا جاء الدور على إسبانيا والسبب كالعادة ملف الصحراء الغربية – القضية الأولى للمغاربة والمحدد الأبرز لسياستها الخارجية – إذ تعرف العلاقات بين البلدين مؤخرًا توترًا كبيرًا رأينا بعض تداعياته في جيب سبتة مؤخرًا وتدفق المهاجرين غير النظاميين إلى الجانب الإسباني دون أن يتدخل المغاربة.
أرقام تاريخية
في آخر فصول التوتر الحاصل بين البلدين، أعلنت وزارة الخارجية الإسبانية استدعاء السفيرة المغربية كريمة بنيعيش في مدريد للإعراب لها عن استياء مدريد ورفضها الدخول الكثيف لمهاجرين مغاربة إلى سبتة، الجيب الإسباني على ساحل المغرب.
رد المغرب لم يتأخر كثيرًا، فقد قرر استدعاء سفيرته في إسبانيا للتشاور بعد الاستياء الذي عبرت عنه مدريد، وفق ما أفادت وزارة الخارجية المغربية، وقالت المتحدثة باسم الخارجية المغربية إنه تم استدعاء السفيرة للتشاور وهي عائدة فورًا إلى المغرب.
هذا التوتر يأتي في وقت تشهد فيه العلاقات بين البلدين أزمةً كبيرةً، نتيجة استقبال إسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، للعلاج إثر تدهور وضعه الصحي جراء إصابته بفيروس كورونا، وسبق أن أطلقت الرباط، تحذيرًا لمدريد من عواقب ما اعتبرته مناورةً وعملًا خطيرًا، جراء عدم إخطارها بوصول غالي لإسبانيا وتبريرها لاستقباله بـ”اعتبارات إنسانية”.
وكانت الخارجية المغربية، قد اعتبرت قرار السلطات الإسبانية بعدم إخطار نظرائها المغاربة بوصول زعيم مليشيا البوليساريو ليس مجرد إغفال، بل عمل مع سبق الإصرار وخيار طوعي وقرار سيادي من إسبانيا، وهو أمر يقره المغرب تمامًا، معتبرة أن ذلك العمل سيرسم كل العواقب.
وقالت الخارجية المغربية: “منذ أن استقبلت إسبانيا على أراضيها زعيم مليشيات البوليساريو المتهم بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، زاد المسؤولون الإسبان من عدد التصريحات التي تحاول تبرير هذا العمل الخطير والمخالف لروح الشراكة التي تجمع البلدين”.
قرر المغرب استغلال الورقة الأبرز لديه للضغط على الإسبان، وهي ورقة الهجرة غير النظامية
هذا التوتر في العلاقات بين البلدين ليس وليد اليوم، فرغم التعاون الأمني والاستخباراتي والمعاملات التجارية القوية بين الطرفين (إسبانيا الشريك التجاري الأول للمغرب منذ عام 2012)، فإن العلاقات السياسية بينهما لم ترتق للمأمول.
وتوجد الكثير من الملفات العالقة بين الطرفين، منها ملف الهجرة ورواسب تاريخية تعود لفترة الاستعمار وكذلك وضع مدينتي سبتة ومليلية، فبالنسبة للمغاربة تعد إسبانيا دولةً محتلةً لجزء من ترابهم، كما توجد مطالب تاريخية بضرورة اعتذار إسبانيا عن استخدام أسلحة كيماوية خلال حرب الريف.
وصول آلاف المهاجرين من #المغرب إلى #إسبانيا ?♀️ في يوم واحد فقط..#سبتة pic.twitter.com/o5AGW60LOS
— DW عربية (@dw_arabic) May 18, 2021
لكن حاليًّا، تعتبر قضية الصحراء الغربية أبرز الملفات الساخنة بين الطرفين، وهو الملف الذي أثر كثيرًا على العلاقات بينهما، فالمغرب لا يروق له النظرة الإسبانية للنزاع القائم في الصحراء، إذ دائمًا ما عبر الإسبان عن دعمهم لجبهة البوليساريو بطرق ملتوية.
ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، وعقب إصدار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، للإعلان الرئاسي الذي اعترفت واشنطن بمقتضاه بسيادة المغرب على الصحراء، أظهرت مدريد انحيازها للبوليساريو، فقد اعتبرت إسبانيا على لسان وزارة خارجيتها أن القرار الأمريكي لا يخدم نزاع الصحراء، بل يزيده تعقيدًا، لأنه يقوم على ما وصفته “القطبية الأحادية”.
نتيجة لذلك، تأجلت القمة الإسبانية المغربية، التي كان مقرر عقدها في 17 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأُجِلَت لأكثر من مرة إلى موعد لم يحدد حتى اليوم، وغالبًا ما يتم استدعاء السفراء في البلدين كدليل على توتر العلاقات بينهما.
سلاح الهجرة غير النظامية
أمام هذا التوتر، قرر المغرب استغلال الورقة الأبرز لديه للضغط على الإسبان، وهي ورقة الهجرة غير النظامية، إذ رفعت الحكومة المغربية، في اليومين الأخيرين، يدها بالكامل عن مراقبة الحدود كرد فعل لاستقبال إسبانيا زعيم البوليساريو على أراضيها، وهو ما مكن من دخول آلاف المهاجرين إلى سبتة بشكل غير مسبوق.
أمس الثلاثاء، وصل نحو ستة آلاف مهاجر على الأقل إلى جيب سبتة الخاضع للسيادة الإسبانية قادمين من المغرب، وهو عدد قياسي بالنسبة لعدد المهاجرين القادمين في يوم واحد حسب ما ذكر مسؤولون محليون في المدينة الواقعة على الساحل المتوسطي المغربي.
وصل هؤلاء إلى سبتة عن طريق البحر، إما سباحة وإما مشيًا على الأقدام في فترة الجزر، متجاوزين الحواجز الحدودية، وذكرت تقارير إخبارية أن غالبية المهاجرين من الشباب، لكن المجاميع التي اجتازت الحدود ضمت أيضًا أعدادًا من الأطفال والأسر.
✅ كان على إسبانيا أن تختار بين المغرب وإبراهيم غالي ، فاختارت إبراهيم غالي ، الآن المغرب لم يعد مضطرًا إلى التعاون مع إسبانيا ، لذى سيكون هناك قوارب ومهاجرون بالآلآف كل يوم ، لم أر أبدًا حكومة غبية مثل حكومة إسبانيا الحالية ، هكذا علق أحد المحللين الإسبان
— Ali Terrass (@1Terrass) May 18, 2021
توجهت أصابع الاتهام إلى الرباط بالتراخي عن وقف تدفق المهاجرين القادمين عمومًا من إفريقيا جنوب الصحراء، ويرى الإسبان أن المغرب تعمد ترك هؤلاء المهاجرين ليجتازوا الحدود وهو ما يسمح لهم بطلب اللجوء في إسبانيا.
وغالبًا ما تهدد الرباط برفع يدها عن وقف تدفق المهاجرين غير النظاميين نحو السواحل الإسبانية، فقد سبق أن تساءل مسؤولون في الدولة عن جدوى مواصلة تخصيص عدد كبير من رجال الشرطة لحماية الحدود ومنع المهاجرين من الدخول لإسبانيا وتوفير مواطن الشغل للمهاجرين الإفريقيين المستقرين في المغرب في الوقت الذي لم تلتزم فيه إسبانيا بمبدأ حسن الجوار.
السلطات المغربية التي كانت معروفة بتصديها بحزم للمهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا، يبدو أنها غيرت سياستها، فهي تريد القول إن إسبانيا لا تريد مهاجرين ونحن من نستطيع منع ذلك، ويُفهم من ذلك أن تسعى للضغط على مدريد.
المغرب أقوى من السابق
يرفض المغرب لعب دور الدركي للحدود الأوروبية وغض الطرف عن المهاجرين غير النظاميين وقواربهم التي تعبر مضيق جبل طارق إلى إسبانيا، دون أن يقدر الأوروبيون مجهوداته، لذلك هو منزعج وقد عبر عن ذلك صراحة.
وها هو يحاول اليوم يفاوض ويضغط باللعب على مجموعة من الأوراق بينها ورقة الهجرة إلى إسبانيا، إذ تجاوز مرحلة التلميذ النجيب الذي يحسن الإصغاء للإملاءات الأوروبية وأصبح يتعامل بمنطق الند بالند.
يقول الباحث والمحلل السياسي المغربي عمر مروك: “مغرب اليوم ليس مغرب الأمس وبالتالي على إسبانيا أن تدرس خطواتها وتحالفاتها وتوضح موقفها من أعداء الوحدة الترابية للمملكة لكون هذه الأخيرة لن تتساهل مع سياسة اللعب على الحبلين”.
يضيف مروك في حديثه لنون بوست، “المغرب اليوم يعتبر رقمًا صعبًا في التنسيق الأمني والاستخباراتي وشريك اقتصادي أساسي بل ويعتبر بوابة إفريقيا، لذلك بات ينتهج في سياسته الخارجية منطق الند بالند لحماية مصالحه وعلى كامل مجاله الجغرافي برًا وبحرًا”.
يحاول المغرب اليوم أن يفاوض ويضغط باللعب على مجموعة من الأوراق بينها ورقة الهجرة إلى إسبانيا
يتابع محدثنا “يعتبر مغرب اليوم ورشا مفتوحا على مستوى البنيات التحتية واللوجيستية من موانئ وطرق وتنويع الشركاء الاقتصاديين سواء على المستوى الإفريقي أم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، كما شرع في هيكلة اقتصاده الداخلي من خلال محاربة الاقتصاد غير المهيكل وسد منافذ التهريب المعيشي الذي خنق اقتصاد الثغرين المحتلين وإحراج إسبانيا اقتصاديًا وسياسيًا”.
يضاف إلى تنويع الشركاء الاقتصاديين، وفق مروك “الوزن الدبلوماسي والأمني وتنويع التحالفات الذي بات يلعبه المغرب على الساحة الدولية شرقًا وغربًا، ناهيك بالقوة العسكرية وتنويع مصادر التسلح وقوى الضغط، التي انتهت بتأكيد أمريكا لمغربية الصحراء وتسارع فتح القنصليات والتمثيليات بالصحراء المغربية”.
ويؤكد الباحث والمحلل السياسي المغربي أن السياسة الخارجية لبلاده أصبحت أفضل من السابق، إذ باتت الرباط واثقة من إمكاناتها وقدرتها على الفعل والتفاعل بندية وذكاء بعيدًا عن رعونة المواقف والتسرع، بل من خلال خطوات ثابتة ومحسوبة تراعي الواقع الجيوسياسي المتسارع” وفق قوله.
بدوره يرى الأستاذ في الجامعة المغربية رشيد لزرق أن على إسبانيا إصلاح الخطأ الذي ارتكبته، إذ ينبغي أن تصدر المعاملة بالمثل، وتحرص على محاكمة المتهم في جرائم ضد الإنسانية وتنهج الوضوح في تعاطيها مع المغرب”.
المئات من المهاجرين الشباب من #المغرب يجتمعون عند مدخل الطريق المؤدية إلى المعبر الحدودي بانتظار فرصة مناسبة للعبور إلى مدينة #سبتة في #إسبانيا pic.twitter.com/qAbyuRv6e2
— فوربس الشرق الأوسط (@ForbesME) May 19, 2021
يؤكد لزرق في حديث مع نون بوست أن إسبانيا تعيش أسوأ أزمة دبلوماسية مع المغرب في تاريخها الديمقراطي، ويضيف “من الأمور المتعارف عليها في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، أنها تقوم على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، من أجل إحقاق التوازن بين أطراف العلاقات القانونية الدولية، باعتبار الهدف منها هو إقامة علاقة بين الحقوق والالتزامات”.
وفق رشيد لزرق فقد تعامل المغرب مع إسبانيا في إطار المرونة في مواجهة التزامات وامتيازات بالحرص على وحدة ترابها، الشيء الذي لم تتعاط معه إسبانيا بنفس المنحى، لذلك للدولة المغربية الحق في اتخاذ الإجراءات التي تراها ضد من ينال من سيادتها أو يتجاوز مبدأ المعاملة بالمثل بل وحتى تتخذ سلوكًا تصعيديًا، تجاه ذلك الطرف الدولي.
في ظل الظروف الراهنة وعدم التوصل إلى حل يرضي البلدين، يبدو أن الشد والجذب بين المغرب وإسبانيا سيستمر، ولن تعود الرباط قريبًا إلى سياستها السابقة في التصدي بحزم للمهاجرين ومنع وصولهم إلى السواحل الأوروبية.