
يفرض القلق الممزوج بالترقب نفسه على الشارع العربي، شيئًا فشيئًا، منذ التساقط المتسارع، لعواصم الولايات الأفغانية، في أيدي حركة طالبان، وصولًا إلى قمته بعد السيطرة على العاصمة كابول ودخول القصر الجمهوري، الأحد 15 من أغسطس/آب 2021، خوفًا مما يمكن أن يحمله هذا الانتصار الطالباني من تهديد للأنظمة والحكومات العربية.
وكان المصريون في مقدمة الشعوب التي أولت اهتمامًا كبيرًا بتلك التطورات التي سحبت البساط من تحت أقدام الملفات الحساسة التي تهدد مستقبل الملايين من الشعب المصري وعلى رأسها قضية سد النهضة التي غابت عن الأضواء خلال الأيام الماضية بفضل المتابعة المكثفة إعلاميًا لمستجدات المشهد الأفغاني والحضور الشعبي غير المسبوق على منصات التواصل الاجتماعي.
ورغم بعد مصر عن الدائرة الساخنة لتلك التطورات بحكم المسافات الجغرافية الشاسعة بين البلدين، والفتور السياسي في العلاقات بينهما، مقارنة بدول الجوار الأفغاني مثلًا، فإن الشارع المصري تعامل مع تلك الأجواء كأنها شأن داخلي، كل يغني على ليلاه، مفسرًا ما حدث وفق أيديولوجياته الخاصة وأهوائه السياسية التي ربما تكون بعيدة نسبيًا عن حقيقة الوضع ميدانيًا في الداخل الأفغاني.
تجاوزت القراءات المتعددة للانتصار الطالباني والاستسلام غير المتوقع للجيش النظامي وانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، حاجز التباين في جهات النظر إلى السجال السياسي والإعلامي بين شرائح المجتمع المصري المختلفة، التي وصلت في بعض الأحيان إلى حد التشكيك في وطنية البعض، الأمر الذي يدعو للتساؤل عن هذا الاهتمام المبالغ فيه من المصريين بشؤون دولة أخرى.
انقسام مجتمعي
انقسم الشارع المصري حيال ما حدث في أفغانستان إلى ثلاثة أقسام، الأول: الفريق المؤيد لما حدث، الداعم للانتصار الطالباني على الجيش النظامي واستعادة الحكم مرة أخرى بعد 20 عامًا، وهذا الفريق ينقسم إلى قسمين، أحدهما يمثله الإسلاميون والمتعاطفون معهم على وجه الخصوص ممن يتعاملون مع المشهد على أنه انتصار للحركة الإسلامية التي تتخذ من الشريعة منهاجًا لها.
أما الآخر فيمثله اليساريون والمعارضون للوجود الأمريكي في أفغانستان، وهؤلاء يندرج فرحهم من هذا السقوط المدوي للولايات الأفغانية في قبضة الحركة الإسلامية في إطار النكاية والفرح في النموذج الأمريكي الذي يرون فيه خصمهم الأبرز أيديولوجيًا في المنطقة.
أما القسم الثاني فهو الفريق المضاد للأول تمامًا، الذي يرفض سيطرة طالبان على الحكم، معتبرًا أن ذلك ردة للخلف وعودة للأصولية في البلاد، ومن المحتمل أن تمتد إلى بلدان المنطقة برمتها، ويستند أنصار هذا الرأي في موقفهم إلى العداء الأيديولوجي لأي تيار ينتمي للإسلام أو يتعلق بأحد تلابيبه، ومعظم هذا الفريق من التيار الليبرالي العلماني والقبطي بجانب ما يطلق عليهم "الدولجية" أي المنتمين لدولة الجنرالات.
شهد الإعلام المصري حالة من التخبط حيال التعاطي مع المستجدات الأفغانية خلال الأسبوع الماضي، متأرجحًا بين التشكيك في قدرة طالبان على الانتصار من جانب والترهيب من التداعيات المترتبة على صعودها قمة الهرم السياسي في السلطة من جانب آخر
ويعزف هذا الفريق على أنغام الكتائب واللجان الإلكترونية التابعة للنظام بشأن أن أمريكا لم تُهزم في تلك الحرب، ومن ثم لا يمكن وصف سيطرة طالبان انتصارًا، بل إن واشنطن هي من زرعت الحركة من باب مناكفة التحالف الروسي الصين من جانب، وضرب النفوذ الشيعي الإيراني من جانب آخر.
فيما قبع القسم الثالث في خندق تجاهل ما حدث، كونه شأنًا داخليًا لا علاقة للمصريين به، مع استبعاد أي تأثير محتمل على الداخل المصري جراء ما يحدث في تلك الدولة البعيدة عن الحدود المصرية كما يذهب أنصار هذا الفريق المنادي بضرورة الانشغال بقضايا الوطن الداخلية وتكريس الاهتمام الأكبر بها.
تخبط إعلامي
شهد الإعلام المصري حالة من التخبط حيال التعاطي مع المستجدات الأفغانية خلال الأسبوع الماضي، متأرجحًا بين التشكيك في قدرة طالبان على الانتصار من جانب والترهيب من التداعيات المترتبة على صعودها قمة الهرم السياسي في السلطة من جانب آخر.
لجأت الكثير من وسائل الإعلام المصرية، لا سيما المحسوبة على النظام، منذ إعلان انسحاب القوات الأجنبية من الدولة الآسيوية إلى العزف على وتر المؤامرة الأمريكية المحبوكة لإجهاض التحالف الصيني الروسي الإيراني من خلال زرع الحركة عبر اتفاق ضمني معها لتنفيذ الأجندة الأمريكية في تلك المنطقة.
بالتوازي مع ذلك خرجت العديد من التقارير الإعلامية، التليفزيونية والصحفية، لشيطنة طالبان وتشويه صورتها، عبر استدعاء التاريخ وعلاقاتها بتنظيم القاعدة قديمًا، مع التركيز على المواقف السابقة للحركة فيما يتعلق بحقوق المرأة تحديدًا، كونها المسألة الأكثر حساسية للمجتمع المصري الذي تسيطر النساء على نصف تعداده السكاني.
لكن مع السيطرة الطالبانية على المشهد، وتعامل المجتمع الدولي مع تلك التطورات من منظور الارتضاء بالأمر الواقع، تغيرت النبرة تدريجيًا، وإن كان يسيطر عليها نزعة الخوف والترقب، فيما أخذت بعض الوسائل اتجاهًا متطرفًا في تقييم ما حدث والإصرار على تشويه الحركة.
ومن أكثر المشاهد التي تعكس حجم التخبط في إدارة الإعلام المصري لهذا الملف، إجراء الإعلامي المصري، أحمد موسى، المقرب من نظام عبد الفتاح السيسي، مداخلة هاتفية مع الناطق باسم المكتب السياسي لحركة "طالبان"، محمد نعيم، خلال برنامجه "على مسؤوليتي" على فضائية "صدى البلد".
بين المتخوفين من نقل العدوى والمتفائلين بالأمل المفقود يبقى الملايين من المصريين يتابعون المشهد من مقاعد المتفرجين في انتظار لقمة عيش تسد الرمق أو علبة دواء تداوي العلة أو سكن يواري عوراتهم
المداخلة تضمنت تطمينات من ممثل الحركة بأنها لن تسمح باستغلال أراضيها للقيام بأعمال ضد دول أخرى، بجانب نيتها فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الدول العربية، فضلًا عن التأكيد على السماح للمرأة بالعمل والتعلم والتجارة والملكية حسب الشريعة الإسلامية.
تأتي تلك المكالمة بعد هجوم شنه موسى على الحركة بأقل من 24 ساعة، ففي 15 من أغسطس/آب الحاليّ، حذر الإعلامي المقرب من النظام من انتصار طالبان وإعلانها إمارة أفغانستان الإسلامية التي توقعها خلال ساعات، مشددًا على أن الخطر القادم من أفغانستان - في إشارة للحركة - يهدد العالم مرة أخرى، كما حدث عام 2001، مؤكدًا أن كابول ستكون ملاذًا آمنًا لكل التنظيمات الإرهابية.
هذا التناقض في التعاطي والازدواجية في التعامل مع تلك المستجدات أثارت غضب الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بما فيها الكتائب الإلكترونية التابعة للنظام، التي شنت هجومًا على موسى وموقفه، حيث علق حساب سارة فهمي إحدى البارزات في الكتائب الإلكترونية للنظام، قائلة: "أحمد موسى من كام شهر: قناة الجزيرة منبر للإرهابيين.. أحمد موسى اليوم: يتيح الفرصة لمتحدث طالبان الإرهابية بعمل مداخلة لتحسين صورته.. مفيش بربع جنيه اتساق مع النفس".
الإعلامي المصري السيساوي أحمد موسى ، في حالة نشوة عارمة وسعادة غامرة ، أمس الاثنين ، وهو يتصل بالدكتور محمد نعيم، المتحدث الرسمي باسم المكتب السياسي لحركة طالبان ، ويستمع إليه بأدب جم !!#أفغانستان pic.twitter.com/irB5JvxNxM
— جمال سلطان (@GamalSultan1) August 17, 2021
تخوفات نقل العدوى
لا يمكن قراءة ردة فعل الشارع المصري مع تطورات المشهد الأفغاني بمعزل عن السياق العام الداخلي في المحروسة، فبعيدًا عن مواقف المتشفين في الولايات المتحدة أو القابعين في خندق التجاهل والانشغال بالقضايا الداخلية فقط، تبقى الشريحة الأكبر من المتفاعلين أسيرة الربط بين طالبان والجماعات الإسلامية في مصر وعلى رأسها الإخوان المسلمين.
التيار الأكبر من الرافضين لطالبان ربطوا بين الحركة والجماعة في مصر، متوهمين أن أي انتصار لأي فصيل إسلامي ولو على حدود الكرة الأرضية فإن ذلك سيعزز من وضعية الإخوان في مصر رغم المساعي الممارسة لوأدهم من الخريطة السياسية طيلة السنوات الماضية.
يسير هذا الفريق على منهجية محور الثورات المضادة، الرامي إلى وأد أي تجربة مهما كانت وفي أي مكان، خشية نقل العدوى لبلادهم فتكون النتيجة الإطاحة بالأنظمة الحاكمة بها، ومن ثم يرى المعارضون لوصول طالبان للحكم أن هذه الخطوة ربما تحيي الأمل في نفوس ما تبقى من أنصار الإخوان والمتعاطفين معهم في الداخل.
وفي الجهة الأخرى فإن المؤيدين لهذا الانتصار الطالباني - لا سيما من الإسلاميين - يرون في هذه الخطوة مدادًا يمكن أن يحيي بداخلهم شرايين الأمل اليابسة، لا سيما بعد الضربات التي تلقتها التجربة الثورية في مختلف بلدان الربيع العربي، وآخرها تونس، التي كان يراهن عليها البعض في أن تكون الاستثناء الذي يبقي على الأمل حيًا.
أما على المستوى الرسمي فلم يصدر حتى كتابة هذه السطور أي ردة فعل من النظام المصري بشأن تلك التطورات، في انتظار ما ستؤل إليه الأوضاع خلال الأيام القادمة بعدما ينجلي الغبار، وهو موقف جميع الدول تقريبًا، وإن كان من المستبعد صدور أي موقف سلبي مصري تجاه ما حدث، حال استتباب الوضع سياسيًا داخل أفغانستان.
وبين المتخوفين من نقل العدوى والمتفائلين بالأمل المفقود يبقى الملايين من المصريين يتابعون المشهد من مقاعد المتفرجين في انتظار لقمة عيش تسد الرمق أو علبة دواء تداوي العلة أو سكن يأويهم، في ظل حالة التغول السلطوي التي أودت بالملايين إلى آتون الفقر المدقع.