تشير النتائج الأولية للانتخابات العامة التي شهدتها إيطاليا الأحد 25 سبتمبر/أيلول الحاليّ إلى فوز تكتل الأحزاب اليمينية – الذي يضم حزب فراتيلي ديتاليا “إخوة إيطاليا” بزعامة جورجيا ميلوني وحزب “الرابطة” بزعامة ماتيو سالفيني وحزب “فورزا إيطاليا” بزعامة سيلفيو برلسكوني – بنحو 43% من الأصوات، وأنه على بعد أمتار قليلة من الحصول على أغلبية واضحة في البرلمان بشقيه: النواب والشيوخ.
وبلغت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها بعد انهيار الائتلاف الواسع لحكومة ماريو دراجي في نهاية يوليو/تموز الماضي، قرابة 64.07% متراجعة عن آخر انتخابات جرت في 2018 التي بلغت نسبة المشاركة فيها 73.86%، وسط حالة من القلق مما أفرزه المشهد من نتائج سيكون لها تداعياتها على المشهد الإيطالي في الداخل والخارج.
تتناغم تلك النتيجة مع ما أظهرته استطلاعات الرأي التي أجريت قبيل الماراثون الانتخابي وأشارت إلى احتمالية فوز التحالف اليميني المتطرف بنسبة تتراوح بين 41% و45%، وهو ما يكفي لضمان السيطرة على مجلسي البرلمان، ليعود اليمين المتطرف للحكم مرة أخرى بعد غياب عن الساحة لعقود طويلة.
ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد تشهد الساحة الإيطالية تولي شخص ذي أصول فاشية حكم البلاد ممثلًا في زعيمة حزب “إخوة إيطاليا” جورجيا ميلوني التي ارتفعت أسهمها خلال الأشهر الأخيرة لتتصدر بورصة التكهنات في أن تكون الوريث الفاشي المنتظر للحكومة.. فمن تكون رئيس الحكومة المحتملة؟
صعود كبير لليمين المتطرف
تلك الانتخابات هي الأولى التي تجري بموجب التغييرات التي أدخلت على الدستور الإيطالي في أكتوبر/تشرين الأول 2020 وكان من أبرزها تخفيض عدد أعضاء مجلس النواب من 630 إلى 400، وأعضاء مجلس الشيوخ من 315 إلى 200، كذلك تخفيض سن الانتخاب من 25 إلى 18 عامًا.
ويبلغ عدد من لهم حق الاقتراع في هذه الانتخابات 51.14 مليون ناخب، ويتطلب التحالف الفائز بتشكيل الحكومة الحصول على 201 مقعد في مجلس النواب، و101 مقعد في مجلس الشيوخ على الأقل، وهي النسبة التي من المرجح أن يحصل عليها التحالف المحافظ بقيادة “إخوة إيطاليا”.
وحلت كتلة يسار الوسط في المرتبة الثانية بنحو 26-29% من الأصوات، في حين فاز الحزب الديمقراطي بـ17-21%، أما حركة الخمس نجوم فنجحت في الحصول على نحو 13-17% من أصوات الناخبين، فيما حصلت رابطة ماتيو سالفيني، الجزء الأكبر من تيار يمين الوسط على 8 إلى 12% من الأصوات.
بهذه النتيجة تحقق ميلوني وحزبها قفزة كبيرة غير مسبوقة في صعودها السياسي، إذ لم تتجاوز حصتها في الأصوات التي حصلت عليها في آخر انتخابات عامة جرت عام 2018 على أكثر من 4% فقط، مستفيدة من حالة الفوضى والتخبط السياسي التي تحياها البلاد وأدت في النهاية إلى تراجع شعبية تيار اليمين المحافظ ويسار الوسط بصورة كبيرة.
وقد اعترف “الحزب الديمقراطي” الذي يمثل يسار الوسط في إيطاليا، على لسان البرلمانية البارزة في صفوفه، ديبورا سيراتشياني، بفوز “إخوة إيطاليا” بالانتخابات، معلقة على النتائج العامة في تصريحات صحفية لها قائلة: “هذه أمسية حزينة للبلاد”، مضيفة “اليمين له الأغلبية في البرلمان لكن ليس في البلاد”، كما شددت على أن حزبها سيكون أكبر قوة معارضة في البرلمان المقبل.
#ElezioniPolitiche2022
Seguitemi in diretta: https://t.co/wUexOoWSlm #Meloni pic.twitter.com/jEuSsuc8W3— Giorgia Meloni ?? ن (@GiorgiaMeloni) September 26, 2022
من هي جورجيا ميلوني؟
يبدو أن الأجواء الصعبة التي عاشتها جورجيا المولودة في ضواحي روما عام 1977 خلال فترة طفولتها قد أثرت بشكل كبير على شخصيتها في الكبر، إذ تخلى عنها والدها بعد ولادتها مباشرة، حيث سافر إلى جزر الكناري ليترك تربيتها بشكل كامل إلى والدتها ذات الأيديولوجية اليمينية المتطرفة، لتشبع ابنتها تلك العقيدة التي ترعرعت في كنفها.
تلك الأجواء الصعبة والتنمر الذي كانت تتعرض له جورجيا بسبب وزنها الزائد بين أقرانها كان محفزًا قويًا لها للانخراط في العمل السياسي مبكرًا لإثبات ذاتها وتحقيق نجاحات في مجالات عدة، وما إن أكملت عامها الـ18 حتى أصبحت عضوة في الحزب ذي التوجه الفاشي “حزب التحالف الوطني” وكان ذلك عام 1995.
استطاعت في وقت قصير أن ترسخ حضورها السياسي بما لديها من كاريزما قوية نجحت من خلالها في أن تنال ثقة رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني الذي اختارها لحقيبة الشباب عام 2008، لتكون بذلك أصغر وزيرة في تاريخ إيطاليا، إذ تولت الوزارة وعمرها لم يتجاوز 31 عامًا، وظلت بهذا المنصب حتى عام 2011.
طالبت الوزيرة الشابة بالتجديد داخل الحزب لمجاراة التطورات السياسية التي تشهدها البلاد، كما انتقدت بعض السياسات الخاصة برئيس الوزراء، برلسكوني، وهو ما أثار الانتقادات ضدها، ما دفعها للانسحاب من الحزب لتؤسس حركة سياسية جديدة تحت عنوان “إخوة إيطاليا”.
وتعد تلك الحركة التي تحولت إلى حزب سياسي امتدادًا أيديولوجيًا للحركة الفاشية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية من قبل أنصار الديكتاتور بينيتو موسوليني، إذ تستخدم رمزها الشهير “اللهب ثلاثي الألوان” وتبقي على ذات شعاراتها رغم الحديث عن استقلال سياسي عن مبادئ هذا التوجه الملفوظ مجتمعيًا ودوليًا.
تتبنى ميلوني موقفًا متطرفًا من الهجرة واللاجئين، وتطالب بتشديد الإجراءات وغلق الحدود أمام أي موجات هجرة جديدة، كما أنها تتخذ موقفًا متشددًا إزاء المثلية بشكل واضح، فقبل سنوات أثارت الجدل من خلال البحث عن علاقة مثلية في فيلم الرسوم المتحركة للأطفال “فروزن 2” بجانب أنها شاركت في مبادرات للدفاع عن الأسرة ضد منح حقوق للأزواج المثليين عام 2016.
وتدعم مليوني أوكرانيا في حربها مع روسيا كما تؤيد وبشكل كامل سياسة حلف الناتو في هذا الملف، رغم أنها عارضت في 2014 العقوبات ضد موسكو بعد ضم شبه جزيرة القرم، فيما تميل إلى القومية المتطرفة بعض الشيء، ففي مواقف سابقة لها حثت بلادها على التخلي عن اليورو، وهو ما قد يثير حالة من الجدل إذا تقلدت السلطة في إيطاليا خلال الفترة المقبلة.
هذه السيدة تعيد #الفاشية إلى سدة الحكم في #إيطاليا لأول مرة منذ العام 1945 ونهاية موسوليني. جورجيا ميلوني فازت بالانتخابات التشريعية مساء الأحد ما يتيح لحزبها فاشي الجذور حكم البلاد
pic.twitter.com/6MUIRIJLTr— Wejdene Bouabdallah (@tounsiahourra) September 26, 2022
مخاوف وترقب
في خطابها المقتضب عقب النتائج الأولية لفوز تحالفها في الانتخابات، تعهدت ميلوني بأنها ستكون حاكمة لجميع الإيطاليين، وأن الشعب بعث برسالة واضحة لدعم حكومة يمينية بقيادة “إخوة إيطاليا”، قائلة “إذا تم استدعاؤنا لحكم هذا الشعب، فسوف نفعل ذلك من أجل جميع الإيطاليين بهدف توحيد الشعب وتمجيد ما يوحده وليس ما يفرقه، لن نخون ثقتكم”، إلا أن ذلك لم يقلل من المخاوف المثارة بشأن ما تحمله الفترة القادمة في حكم إيطاليا المرجح أن تخضع لحكم فاشي جديد لمدة 4 سنوات قادمة.
لا شك أن انتصار اليمين المتطرف في دولة بحجم إيطاليا، ثالث أكبر قوة اقتصادية في منطقة اليورو، وأحد الأضلاع الرئيسية في جدار الاتحاد الأوروبي، سيحدث زلزالًا مدويًا في القارة العجوز التي تعاني من تبعات صعود هذا التيار منذ عام 2015 وقد تكبدت بسبب ذلك العديد من الخسائر السياسية والاقتصادية.
لا يمكن قراءة هذا الفوز بمعزل عن انتصار اليمين المتطرف في المجر وفوز القومي فيكتور أوربان برئاسة الحكومة، بجانب النجاحات التي حققها تيار الديمقراطيين في السويد قبل أيام، ومن قبله النتائج الجيدة التي حصلت عليها ماريان لوبان في فرنسا رغم خسارتها كرسي الرئاسة، إذ تذهب كل تلك المؤشرات إلى أن أوروبا باتت على موعد مع موجة صعود جديدة للتيار المتطرف في سيناريو أشبه بما حدث في 2015.
المستجدات التي شهدتها الساحة الدولية خلال الأعوام القليلة الماضية، وتعززت مع الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/شباط الماضي، وإحياء حرب الاستقطابات مجددًا، والأزمات الاقتصادية التي يعايشها العالم، كل ذلك عزز من الخطاب الشعبوي وزاد من رصيد التيار القومي المتطرف لدى الشارع السياسي، وهو ما يثير مخاوف أوروبا بأكملها في ظل الانشقاقات التي تعاني منها مؤخرًا بسبب تباين وجهات النظر إزاء المواقف السياسية بشأن بعض الملفات، وهي التربة الخصبة لنمو ونضج الفكر المتطرف الذي بدأ يستعيد بريقه مرة أخرى.
فوز “إخوة إيطاليا” بالانتخابات أحدث حالة من الاطمئنان والراحة للتيار القومي الأوروبي بصفة عامة، إذ بعث رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ونظيره البولندي ماتيوز مورافيسكي برقيتي تهنئة إلى مليوني، فقال أوربان في رسالة: “نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أصدقاء يتشاركون رؤية ونهج مشتركين تجاه أوروبا”، التهنئة ذاتها بعث بها زعيم حزب فوكس VOX الإسباني اليميني المتطرف سانتياغو أباسكال الذي قال إن ميلوني “أظهرت الطريق نحو أوروبا فخورة وحرة”.
وبعيدًا عن العقبات التي من المرجح أن تواجه ميلوني وتيارها المتطرف من تضخم وارتفاع أسعار وأزمات طاقة وخلافه، فإن التحدي الأكبر سيكون في السياسة الخارجية والموقف من الوحدة الأوروبية، فرغم تراجعها عن فكرة الاستقلال عن اليورو فإنها طالبت بـ”مراجعة قواعد ميثاق الاستقرار” داخل الاتحاد وفق أبجدية مختلفة ربما تثير التوتر بين دول القارة.
ويتصدر ملف اللاجئين والهجرة قائمة المخاوف من تولي اليمين المتطرف مقاليد الحكم في إيطاليا، إذ يتغذى “إخوة إيطاليا” وشريكاه “الرابطة” و”فوزرا إيطاليا” على معاداة المهاجرين والانتصار للقومية الإيطالية وتبني السياسات الحمائية المتطرفة، إذ لم تشهد الساحة الإيطالية صعودًا للقومية المتطرفة منذ الحزب “الفاشي الجمهوري” الذي قاده بينيتو موسوليني خلال أربعينيات القرن الماضي، كما تشهده خلال الأسابيع الأخيرة.
وبالنتائج غير الرسمية المعلنة للانتخابات العامة الإيطالية الحاليّة يتلقى الجدار الأوروبي ضربةً موجعةً تضاف إلى الطعنات المتكررة التي تعرض لها مؤخرًا، وسط أجواء تتشابه مع ما حدث قبل 7 سنوات، فيما تتزايد المخاوف من هذا النمو المتصاعد لليمين المتطرف الذي يهدد تماسك الاتحاد الأوروبي ويقوض ثقله وحضوره ويضع سمعته الحقوقية على المحك.