ترجمة وتحرير: نون بوست
مقدمة: اللغة في عصر السياسة الفاشية
في عصر الفاشية المتنامية، تغدو قوة اللغة هشّة ومهدَّدة على نحو متزايد. وكما أشارت توني موريسون، فإن “اللغة ليست مجرد أداة تُمارَس من خلالها السلطة”، بل هي أيضًا تشكّل الوكالة الإنسانية وتعمل كفعل له تبعات.
هذه التبعات تتردد أصداؤها في نسيج وجودنا ذاته، إذ إن الكلمات التي ننطق بها تضع المعنى والحقيقة ومستقبلنا الجمعي على المحك. كل مقطع صوتي، وكل عبارة، وكل جملة تتحول إلى ساحة معركة تتصادم فيها الحقيقة والسلطة، حيث يولّد الصمت التواطؤ، وتقف العدالة معلّقة في الميزان.
وأمام ذلك، نجد أنفسنا في حاجة ماسّة إلى مفردات جديدة، قادرة على تسمية المدّ الفاشي واللغة المُعسكرة التي تجتاح الولايات المتحدة اليوم. إن الأمر ليس مسألة أسلوب أو زخرفة بلاغية؛ بل هو مسألة بقاء، فاللغة المطلوبة لمواجهة هذه الكارثة المتسارعة لن تأتي من الصحافة التقليدية، التي ما زالت أسيرةً للمؤسسات التي ينبغي أن تفضحها.
ولا يمكننا كذلك أن نلوذ بوسائل الإعلام اليمينية المتطرفة، وعلى رأسها “فوكس نيوز”، حيث لا تُدافع الأفكار الفاشية فحسب، بل يُستعرض بها باعتبارها ضربًا من الوطنية. وفي مواجهة هذه الأزمة، يكتسب حدس توني موريسون المستقى من خطابها عند نيلها جائزة نوبل إلحاحًا أكبر، إذ يُوضِح أن لغة الطغاة، التي تجسّدها الخطابات والصور وأنماط الاتصال المميزة لعهد ترامب، إنما هي لغة ميتة.
فبالنسبة إليها: “اللغة الميتة ليست تلك التي كفّ الناس عن التحدّث بها أو كتابتها”، بل هي لغة عنيدة “تكتفي بالإعجاب بشللها الخاص”. إنّها لغة قمعية مشبعة بالسلطة، خاضعة للرقابة ومُراقِبة، قاسية في مهمتها الشرطية ولا إنسانية في جوهرها؛ لا غاية لها سوى الحفاظ على مساحات نرجسيتها المخدّرة، وحصريتها وهيمنتها. “ورغم كونها محتضرة، فإنّها ليست بلا أثر”، إذ إنها تعيق الفكر، وتجمّد الضمير، و”تكبح الإمكانات الإنسانية”. وهي لغة عصيّة على التساؤل، لا تستطيع أن تُشكّل أفكارًا جديدة، أو تروي قصة أخرى، أو تملأ الصمت المُربك.
هذه هي لغة السلطة الرسمية التي غايتها إضفاء الشرعية على الجهل وصونه. وتحت بريقها الزائف وأدائها الفجّ، تكمن لغة “بكماء، افتراسية، عاطفية”؛ تقدّم عروضًا جماعية، وحالة ذهنية من التخبّط الأخلاقي، وهوسًا سيكوباتيًا لأولئك الذين يلتمسون في السلطة المطلقة ملاذًا آمنًا. إنها تصوغ مجتمعًا يقوم على الجشع والفساد والكراهية، غارقًا في فضيحة من الإشباع الأجوف. إنّها لغة مجرّدة من الزخرفة في قسوتها، مدمنة على صناعة هندسة العنف. ويتجلّى ذلك في خطاب ترامب الاحتلالي، وفي عسكرة السياسة الأمريكية، وفي تجنيده جيشًا من المتصيّدين لتحويل الكراهية إلىعرض على وسائل التواصل الاجتماعي، يستعرض التفاخر والقسوة معًا.
ورغم اختلاف النبرة والأثر السياسي، فإنّ خطابات اليمين المتطرّف والتيار الليبرالي السائد تتقاطع في تواطئها؛ فكلاهما يتاجر بالشعارات الجوفاء، ويستهلك الأكاذيب كعملة رائجة، ويعلي الوهم على الفطنة. فالتيار الليبرالي يغلّف آلة القسوة بعبارات التهذيب، فيخفي وحشية نظام ترامب ومنطق الرأسمالية المتوحّشة القائمة على العصابات، بينما يتلذّذ اليمين المتطرّف بتلك الوحشية، عارضًا عنفه كفضيلة وكراهيته كهويّة وطنية.
لقد كانت اللغة يومًا أداةً قويّةً لمواجهة الصمت المفروض والقسوة المؤسسية، لكنها باتت في كثير من الأحيان أداةً في خدمة السلطة، تقوّض العقل، وتطبّع العنف، وتستبدل العدالة بالانتقام. وفي ثقافة ترامب الأوليغارشية السلطوية، تتحوّل اللغة إلى عرضٍ للقوّة، ومسرحٍ للخوف يُصنع ويُبثّ ويُؤدَّى كدرسٍ مدنيٍّ في التلقين الجماعي.
وإذا كانت اللغة وعاءً للوعي، فعلينا أن نصنع وعاءً جديدًا؛ صارمًا، لا يلين، ولا يخشى تمزيق نسيج الأكاذيب الذي يُبقي على الهيمنة والتهميش وبثّ الرعب. لقد أصاب الأديب الراحل نغوجي واثيونغو حين قال إنّ اللغة كانت موضعًا للسيطرة الاستعمارية، تُدخل الناس في «مستعمرات العقل» كما أسماها.
إنّ الرؤى اليوتوبية التي تدعم وعد الديمقراطية الجذرية وتُبقي كابوس السياسة الفاشية بعيدًا، تتعرّض الآن لهجوم في الولايات المتحدة. إذ تُنتَج وتُضخَّم وتُمنَح الشرعية بلغة سامة من الكراهية والإقصاء والعقاب، فتُستهدَف بذلك كل جوانب الاجتماع والقيم الديمقراطية التي تشكّل جوهر سياسة التضامن.
وإلى جانب ذلك، تتعرض المؤسسات التي تنتج الثقافات التكوينية التي تغذّي المخيّلة الاجتماعية والديمقراطية نفسها لهجوم متصاعد. وتتبدّى العلامات واضحة في سياسة التطهير العرقي والاجتماعي التي يغذّيها الفكر القومي الأبيض والتفوق العرقي الأبيض، المتمركزان اليوم في قلب السلطة الأمريكية، ويصحبها خيال الإقصاء وهجوم كاسح على الأخلاق والعقل والمقاومة الجماعية المتجذرة في النضال الديمقراطي.
ومع تمرد المزيد من الناس على هذا المشروع الكابوسي، تتداخل الأيديولوجيا النيوليبرالية وعناصر السياسة الفاشية لاحتواء الغضب المشروع وتشتيته وتضليله، ذلك الغضب المتولّد من المظالم الحقيقية ضد الحكومة والنخب المترفة والمصاعب التي سبّبتها الرأسمالية النيوليبرالية.
إن الأزمة الراهنة للوكالة والتمثيل والقيم واللغة تتطلب تحوّلًا خطابيًا قادرًا على مساءلة الثقافة التكوينية والدعائم الأيديولوجية التي يعيد من خلالها هذا الشكل الهمجي من الرأسمالية النيوليبرالية إنتاج نفسه. إن هذا الاستخدام المشوَّه للغة يغذي بشكل مباشر سياسات التهميش والإقصاء التي تميز نظام ترامب.
إرهاب الدولة وسياسة ترامب في الإقصاء
وبينما يواصل نظام ترامب إحكام قبضته على السلطة، يشهد الخطاب العام تداخلًا مقلقًا بين القانون والنظام والعنف، ليصبح هذا التداخل ركيزة أساسية في سياسته القائمة على الإقصاء والتخلّص من “الفائضين”.
وتتجلّى أفعاله المفرطة في القسوة وتجاهل القانون من اختطاف وترحيل الأبرياء، ووصم المهاجرين بأنهم “حشرات ضارة”، وادّعاء أنهم “يسمّمون دماء” الأمريكيين، وصولًا إلى اقتراح تشريع القتل لمدة اثنتي عشرة ساعة في دلالة واضحة على أنّ مفرداته العنيفة ليست مجرد عبارات عابرة، بل هي مخططات عملية للسياسات المقبلة.
في يد ترامب، تتحوّل اللغة إلى مقدّمة مسلّحة للفظائع، وأداة أساسية في إدارة شؤون الحكم، لتصبح التهديدات والكراهية والقسوة وسائل فعّالة لإحكام السيطرة.
هذا ليس حديثًا عابرًا أو طائشًا، بل هو تعبير وحشي ومدروس عن القوة. إن تهديدات ترامب باعتقال وترحيل منتقدين مثل زهران ممداني تكشف استعداده لتسخير أجهزة الدولة لخدمة التصفية السياسية. أما أهدافه فهي متوقَّعة ومعروفة: المهاجرون، ذوو البشرة السوداء، المعلّمون، الصحافيون، أفراد مجتمع الميم، وكل من يجرؤ على تحدّي رؤيته القائمة على النزعة القومية المسيحية البيضاء والنيوليبرالية وتفوّق العرق الأبيض.
إن لغته لا تكتفي بإثارة الإهانة، بل تحرّض على الإيذاء، وتشرعن القمع، وتفتح الأبواب أمام عنفٍ برعاية الدولة. ويمتدّ هذا النهج ليعزّز عهد الإرهاب داخل الولايات المتحدة، من خلال وصم المحتجّين بالإرهابيين، ونشر الجيش في المدن الأمريكية، والتعامل معها كما لو كانت أراضي محتلة“.
اليوم نعيش في بلدٍ تصاعدت فيه الحرب الطبقية والعنصرية داخليًا وخارجيًا إلى حدود غير مسبوقة، لتكشف وحشية آلة القتل التي تجسّدها الرأسمالية العصابية بأشدّ صورها قسوة.
ولا يخفي ترامب دعمه لحرب الإبادة التي يشنّها كيان يقوده مجرم حرب؛ حيث يُذبَح الأطفال في غزة، فيما يقف ملايين الأمريكيين بمن فيهم الأطفال الفقراء على حافة فقدان الرعاية الصحية، وتُستقطع الميزانيات المخصصة لإطعام الجياع لتُضَخّ في جيوب الأثرياء. وسيدفع الآلاف حياتهم، لا عن طريق الصدفة، بل بتخطيط متعمّد.
حلّ الإرهاب والخوف والعقاب محلّ قيم المساواة والحرية والعدالة، وصار قتل الأطفال أمرًا طبيعيًا بموجب “قانون البلاد”. إن الأنوار تخبو في أمريكا، وما تبقّى سوى ابتسامات غطرسة جاهلة تكسو وجوه فاشيين فاقدين للكفاءة، وأجسادٍ خلت من كل تعاطف وتضامن.
رأسمالية العصابات وموت التعاطف
تُعدّ رأسمالية العصابات القاعدة التي تقوم عليها سياسات ترامب ذات الطابع العنصري والفاشي. وكما أشرت في مواضع أخرى، فقد انزلقت الولايات المتحدة إلى حالة من الذُّهان السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، في ظل هيمنة سياسات نيوليبرالية قاسية ومعادية للديمقراطية منذ سبعينيات القرن الماضي.
وفي قلب هذا التحوّل السلطوي تتجذر حرب منهجية تستهدف العمال والشباب والسود والمهاجرين، وتتسم بقدر متزايد من العنف الجماعي ودولة عقابية في الداخل والخارج على حد سواء. وقد تحوّلت الولايات المتحدة إلى إمبراطورية تهيمن عليها طبقة من المليارديرات عديمي التعاطف والجشعين، الذين فككوا ما تبقى من أسس الديمقراطية، واعتنقوا الأيديولوجيا الفاشية للقومية المسيحية البيضاء والتفوق العرقي الأبيض.
لم يعد الفاشيون يرفعون شعاراتهم تحت العلم الأمريكي فقط، بل أيضًا تحت صليب المسيحية. وانتقلت أمريكا من تمجيد الفردانية المنفلتة كما صوّرتها رواية “أطلس هزّ كتفيه” لآين راند، إلى تمجيد الجشع الذي مثّله غوردون غيكو في فيلم “وول ستريت”، وصولًا إلى الهوس المرضي بالطمع الذي يجسده باتريك بيتمان في “أمريكان سايكو”.
ويتجلى هذا الانحدار نحو الهمجية والهوس بالعنف في خطب جاستن تشونغ، الواعظ اليميني في كنيسة “شور فاونديشن بابتيست” بمدينة إنديانابوليس، الذي دعا خلال إحدى عظاته إلى قتل أفراد مجتمع الميم.
وبرّر تشونغ تصريحاته بالاستناد إلى مبررات دينية، واصفًا أفراد مجتمع الميم بأنهم “إرهابيون محليون”. والأسوأ من ذلك، أنه خلال أمسية وعظية خاصة بالرجال في الكنيسة ذاتها، اقترح مساعده ستيفن فالكو أن يُقدِم أفراد مجتمع الميم على “تفجير أنفسهم من مؤخرة رؤوسهم”، داعيًا المسيحيين إلى “الصلاة من أجل موتهم”.
وبدوره، دعا عضو آخر في الكنيسة، ويد راولي، إلى ممارسة العنف بشكل سافر، مؤكّدًا أن أفراد مجتمع الميم ينبغي أن “يُضربوا ويُداسوا في الوحل قبل أن يُطلق عليهم الرصاص في رؤوسهم”. هكذا، تتغذّى الفاشية في أمريكا من جذور رهاب المثلية السامّة، متدثرة اليوم ليس فقط براية علم الكونفدرالية السامة، بل أيضًا بستار الصليب المسيحي المقدّس.
مرحبًا بكم في أمريكا ترامب، حيث يُنظر إلى التعاطف اليوم باعتباره نقطة ضعف، ويُتّخذ من القاعدة الباردة لحكم السوق معيارًا لقياس كل أشكال العلاقات الاجتماعية.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك تصريحات حليف ترامب الملياردير المتقلّب، إيلون ماسك، الذي يرى في التعاطف قوة ساذجة وضارّة تُقوّض روح التنافسية والفردانية التي يتبنّاها. ففي حديثه مع جو روغن في برنامجه الإذاعي، صرّح ماسك بوضوح قائلاً: “إن نقطة الضعف الجوهرية في الحضارة الغربية هي التعاطف“.
وكما تلاحظ جوليا كاري وونغ في صحيفة “الغارديان”، فإن خطورة الأمر لا تقتصر على تصوير التعاطف كـ”وباء طفيلي”، بل تكمن في دوره الخطير كأداة تتيح نزع الإنسانية عن الآخرين وتقليص “تعريف من يحق له أن يكون جزءًا من الدولة الديمقراطية“. إنها وصفة للهمجية، وصفة تتيح للدول والأفراد على حد سواء غض الطرف عن العنف الإبادي المتواصل في غزة وغيرها من الأماكن.
تسمية الجذور العميقة للدولة البوليسية
وحذّرت روث بن-غيعات من أنّ “أمريكا وُضعت على مسارٍ يؤهّلها لأن تصبح دولة بوليسية”، مشيرةً إلى تمرير مشروع قانون “الوحشية والعدوان”، الذي منح وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك ميزانيةً تتجاوز ميزانيات جيوش البرازيل وإسرائيل وإيطاليا مجتمعةً.
غير أنّ جذور هذا العنف المؤسسي أعمق بكثير؛ إذ وُضِع أساسه في عهد بوش وتشيني، حين أفرزت “الحرب على الإرهاب” معتقل غوانتانامو، وسجن أبو غريب، وبرامج المراقبة الجماعية، وعمليات الترحيل القسري الاستثنائية. وما فعله ترامب أنّه جرّد هذه الممارسات السلطوية من كلّ الأقنعة، ورفعها إلى مرتبة المبادئ الحاكمة.
لم يبدأ تشكّل الدولة البوليسية مع ترامب؛ بل تطوّرت عبره. واليوم نشهد نضوجها المرعب: تطهير عرقي متخفٍّ وراء سياسات الهجرة، وكراهية تحوّلت إلى خطابٍ سياسي مقبول، وتجريم المعارضة، وتهديد حق المواطنة بالميلاد، وعسكرة تفاصيل الحياة اليومية. هذا ليس “سياسة كالمعتاد”؛ بل هو الفاشية متجليةً في واقع حيّ.
تزداد سياسات ترامب الفاشية خطورةً حين ندرك أنّ خطابه القائم على الاستعمار والسيطرة أسهم في تحويل المجتمع الأمريكي إلى ما يصفه نغوجي واثيونغو برعبٍ شديد بأنه “منطقة حرب”. ولم تعُد هذه المنطقة محصورة في الواقع المادي، بل امتدّت إلى الفضاء الرقمي عبر الإنترنت، والبودكاست، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات التعليمية لتغدو أرضًا خصبةً لرموز الفاشية، والقيم الرجعية، والهويات المصنّعة، وإحياء المنطق الاستعماري السام.
في هذا الميدان الرمزي، لا يكتفي خطاب الاستعمار بحجب الحقيقة؛ بل يقوّض التفكير النقدي، ويُسكت الذاكرة التاريخية، وينزع عن الناس القدرة على الفعل الواعي. وما يتبقّى في أعقابه أمّةٌ مثقلةٌ بالمعاناة، محاصَرةٌ بالوحدة، مقيّدةٌ بمخاوف مشتركة، ومُخدَّرة بطقوسٍ مُنهِكة لدولةٍ عقابية.
إنّ تحوّل أمريكا إلى “منطقة حرب” يجد أوضح تجلٍّ له في تصاعد الدولة البوليسية الشاملة التي أطلقها ترامب. ويتبدّى هذا الجهاز السلطويعبر آليات الترهيب برعاية الدولة، وقوة وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك المُسلّحة التي تعمل كثكناتٍ مقنّعة، والتوسّع المتسارع لمراكز الاحتجاز التي ستشبه يومًا بعد آخر شبكة محتملة لمعسكرات العمل القسري. وكما يحذّر فينتان أوتول، فإنّ نشر ترامب للقوات في شوارع لوس أنجلوس لم يكن مجرّد إشارة رمزية؛ بل هو “مناورة تدريبية للجيش، وإعادة توجيه”. في هذا التوجّه الجديد، لم يعُد الجنود مدافعين عن الدستور، بل يُعاد تأهيلهم ليغدوا أدواتٍ للسلطة الاستبدادية، لا تحكمهم المبادئ الديمقراطية، بل الطاعة لإرادةٍ واحدة.
ومع ذلك، ما زلنا نتردّد في تسمية هذا التهديد الفاشي وبُنيته الفكرية والاقتصادية باسمه الحقيقي. وما زلنا نتهرّب من وصف نظام ترامب بما هو عليه فعلًا: دولة فاشية تمارس الإرهاب الداخلي. وما زلنا نغضّ الطرف عن حقيقة أنّ اللامساواة الاقتصادية، والعسكرة العالمية، ومنطق الإبادة الجماعية الذي يحكم الإمبراطورية ليست قضايا هامشية؛ بل هي جوهر المشهد. لماذا يصعب علينا الاعتراف بأنّنا نعيش في زمن الفاشية الأمريكية؟ ولماذا تمرّ جرائم الأقوياء، في الداخل والخارج، من دون مساءلة، بينما يُلقى اللوم على الضحايا أو يُمحون من الذاكرة؟
انهيار المُخيّلة الأخلاقية
إنّ ما نواجهه اليوم ليس مجرّد أزمة سياسية، بل هو انهيار عميق في الضمير والشجاعة المدنية، وانهيار أخلاقي بالغ الدلالة. فالحرب التي يشنّها نظام ترامب في الداخل ليست موجهة ضد المهاجرين أو الفقراء فحسب، بل هي حربٌ ممنهجة على التفكير النقدي، والذاكرة التاريخية، وشجاعة الاختلاف. إنّها حربٌ تستهدف كل مؤسسة تُعلي من شأن العقل النقدي والمعرفة الواعية والثقافة المدنية. وهي حرب إبادةٍ حقيقيةٍ لإمكانية قيام مستقبلٍ عادل، حربٌ لا تكتفي بترسيخ الغباء، بل تروّج له، وتسعى إلى قتل الأخلاق واستئصال أي مفهوم متماسك للديمقراطية.
يقدّم فيكتور كليمبيرر، في مؤلّفه الرائد لغة الرايخ الثالث، درسًا مهمًّا من التاريخ حين يقول: “يعلّم كفاحي، بإصرار شديد وبدقة متناهية حتى أدق التفاصيل، ليس فقط أنّ الجماهير غبية، بل إنّه ينبغي إبقاؤها كذلك، وترويعها حتى لا تفكّر.” ويكشف تحليل كليمبيرر أنّ السياسات النازية لم تنشأ في فراغ، بل تغذّت على ثقافةٍ أصبح فيها اللسان نفسه حقلًا خصبًا للقسوة والسيطرة.
إنّ خطاب ترامب القائم على الخوف والكراهية العنصرية لا ينبثق من العدم، بل يجد صداه لأنه يستحضر تاريخًا طويلًا وعنيفًا، غارقًا في الدماء، تأسّس على الإبادة الجماعية والعبودية والاستعمار والإقصاء. وتستدعي لغته الذاكرة المريرة للحملات الإبادية ضد الشعوب الأصلية، والأمريكيين السود، واليهود، وغيرهم ممن اعتبرتهم الأنظمة الاستبدادية فائضين عن الحاجة. إنّه معجمٌ مُتحلّلٌ أعيد إحياؤه في خدمة الطغيان، لينجب ساسةً تتلطّخ أفواههم بالدماء، يروّجون الحنين المشبع بالأحقاد، ويُخفون وحشيتهم وراء شعارات زائفة للوطنية و”فرض القانون والنظام.
اللغة كأداة حرب وعودة الفاشية الأمريكية
هذا ليس مجرد خطاب قاسٍ، بل هو دعوة إلى التعبئة، فلا توفر كلمات ترامب الحماية للفاشيين فحسب، بل تستدعيهم. إنها تُسكت المعارضين وتُطبع التعذيب وتردد منطق معسكرات الموت ومراكز الاعتقال والسجن الجماعي. وخطابه، المحمّل بالكراهية والأكاذيب، مصمم لتحويل الجيران إلى أعداء، والحياة المدنية إلى ساحة حرب، والسياسة إلى عبادة للموت ومنطقة إقصاء نهائي.
ويُنتزع المهاجرون غير النظاميين، أو أولئك الذين يسعون للحصول على الإقامة الدائمة أو الجنسية، من أسرهم وأطفالهم ويُزجّ بهم في سجون مثل “ألكاتراز التماسيح”، وهو تجسيد فظيع للدولة العقابية. وكما كتبت ميليسا جيرا غرانت في مجلة “ذا نيو ريبابليك”، فإنه “معسكر اعتقال أمريكي… بُني لسجن آلاف الأشخاص الذين جمعتهم وكالة الهجرة والجمارك”، وقد تم تشييده في عرض مرعب لتجاهل استعماري، وأُقيم على أراضي قبيلة الميكوسوكي التقليدية من دون حتى التشاور مع أفرادها.
وهذا هو وجه القسوة الحديثة: اللغة المستخدمة كأداةً لتنظيم مشهد عنف مدروس، يهدف إلى الإذلال والتقسيم والمحو. ولم تعد الثقافة قوة هامشية في السياسة؛ بل أصبحت السلاح الرئيسي في صعود الإرهاب الذي ترعاه الدولة. إن لغة الحرب والتواطؤ تجعل تحول أمريكا إلى دولة سَجنيّة متوحشة أمرًا عاديًا، رمزًا لرعبٍ ترعاه الدولة؛ حيث يتم تعليق الإجراءات القانونية، ويصبح الألم ليس مجرد نتيجة، بل هو الغاية بحد ذاتها.
لقد اندمجت ثقافة القسوة الآن مع إرهاب الدولة العنصري، لتُصبح علامة شرف. ويُعدّ مثالاً على ذلك ما قالته مستشارة ترامب، لورا لوومر، حين صرّحت بتهديد مبطن أن “الحيوانات البرية التي تحيط بمركز احتجاز المهاجرين الجديد الذي أنشأه الرئيس دونالد ترامب… ستحصل على ما لا يقل عن 65 مليون وجبة”. وقد وصفت منصة “تشينج دوت أورغ”، إلى جانب آخرين مثل تومي فيتور، المشارك في تقديم بودكاست “بود سيف أمريكا“، هذا التصريح بأنه “لا ينطوي فقط على عنصرية صريحة، بل يُعد هجومًا عاطفيًا مباشرًا وتهديدًا مقنّعًا ضد المجتمعات اللاتينية”. ويسلب هذا النوع من الخطاب الأشخاص الملوّنين إنسانيتهم، ويُطبّع لغة الإبادة الجماعية.
إن هذا التعليق العنصري لا يكشف فقط عن ازدراء عميق للحياة البشرية داخل الدائرة المقرّبة من ترامب، بل يسلط الضوء أيضًا على الكيفية التي تُستخدم بها القسوة والعنف بصفتهما أدوات سياسية وعروضًا علنية محسوبة. فتصريح لوومر ليس استثناءً، بل هو أحد أعراض المنطق الفاشي الذي يُحرّك هذه الإدارة؛ حيث يصبح الموت نفسه رسالة سياسية. إن خطابها الملطخ بالدماء هو عرضٌ صريح للسياسات الإجرامية التي تشكل جوهر نظام ترامب.
التشابه مع التاريخ لا يمكن إنكاره. إن استدعاء لورا لومر لفكرة الموت كنتيجة للاعتقال يعيد إلى الأذهان تصنيف النازيين لبعض معسكراتهم باعتبارها “فيرنيشتونغسلاجر”، أي “معسكرات إبادة”؛ حيث أشار الناجي من المحرقة بريمو ليفي إلى أن السجن والإعدام كانا أمرين لا ينفصلان. وبالمثل، فإن احتجاز الأمريكيين من أصول يابانية خلال الحرب العالمية الثانية، رغم أنه يُعرض في الذاكرة العامة بصورة مخففة، فقد انطلق من المنطق ذاته: الشكّ العرقي والعقاب الجماعي.
الرسالة، في كل حالة من هذه الحالات، واضحة، كما أشارت جوديث بتلر في كتاباتها: هناك أرواح تُجعل غير مرئية، وتُعتبر غير جديرة بالحماية القانونية، أو بالأسرة، أو بالكرامة، أو بالحياة نفسها. ففي الأنظمة الفاشية، لا تعمل مثل هذه الأماكن كمجرد أدوات للعقاب، بل تتحول إلى مسارح رمزية للقوة، تهدف إلى بثّ الرعب، وفرض الطاعة، والإعلان عن الأجساد التي اختارتها الدولة للإزالة والمحو.
بالنسبة لترامب وجيه دي فانس، ومن هم على شاكلتهم، فإن الفاشية ليست شبحًا يُخشى منه، بل راية يُلوّح بها. لقد عادت روح الكونفدرالية، ومعها العقائد المتعفنة لتفوّق العِرق الأبيض والعسكرة والاستبداد النيوليبرالي، وهذه المرة مدعومة بقوة هائلة من تقنيات المراقبة ورأس المال الاقتصادي وغرف الصدى في وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي مناخ نظام ترامب، يجري تطبيع رموز الكونفدرالية. فأعلام الكونفدرالية تُرفع اليوم في الساحات العامة والمواكب من قبل النازيين الجدد، بينما يُعيد ترامب تسمية سفن حربية أمريكية وسبعة قواعد عسكرية بأسماء ضباط كونفدراليين، مما يعزز حنينًا خطيرًا إلى ماضٍ قائم على العنصرية والتمرد ضد المبادئ ذاتها التي تدّعي الأمة الأمريكية التمسك بها: الوحدة والمساواة.
لا ينبغي أن يفاجئنا أن الجمهور الأمريكي قد أصبح فاقد الإحساس، في ظل تكرار صدى إرهاب الدولة في مواقع هجوم متعددة. لقد أغرقت آلات التضليل القوية، مثل وسائل الإعلام التقليدية ومنصات الدعاية اليمينية ومليارديرات التكنولوجيا، الوعي العام بنظريات المؤامرة والنسيان التاريخي وصور مثيرة للمهاجرين وغيرهم وهم يُرحّلون إلى السجون، أو إلى معسكرات “غولاغ” أجنبية، أو إلى ثقوب سوداء حديثة. فهذه المنصات ليست مجرد أدوات ترفيه، بل هي أسلحة تربوية لإلهاء الجماهير، تُنتج أمية مدنية وشللًا أخلاقيًا. وتحت تأثيرها، أُدخِل الشعب الأمريكي في غيبوبة أخلاقية وسياسية.
القومية البيضاء والسيطرة على الإنجاب
لا يتجلّى هذا الواقع بوضوح أكبر من فشل وسائل الإعلام السائدة في معالجة الأسس العرقية والأيديولوجية لأجندة ترامب. فهجماته على المهاجرين الهايتيين وحظر السفر على سبع دول أفريقية وإغلاق برامج اللاجئين وسياسة الباب المفتوح التي اعتمدها تجاه الأفريكانين البيض من جنوب أفريقيا، ليست مجرد ممارسات عنصرية، بل تعبّر صراحة عن قومية بيضاء.
وتغذي هذه الأيديولوجيا نفسها الهجمات على حقوق النساء الإنجابية، كاشفةً عن الهواجس العرقية والجندرية العميقة لحركة مهووسة بتراجع القومية البيضاء. فهذه ليست معارك متفرقة، بل إستراتيجيات مترابطة للهيمنة والسيطرة.
وتتجلّى هذه الهجمات المتداخلة، القومية البيضاء وتفوّق العرق الأبيض والسيطرة الأبوية والحياة العسكرية، بأوضح صورها في الحرب على حرية الإنجاب. فالقوميون البيض يشجعون النساء البيض على الإنجاب بهدف كبح التغير الديموغرافي، بينما تُعاقَب النساء الملوّنات والشواذ والفقراء. إنه منطق عنيف، تحرّكه أوهام النقاء والسيطرة.
الهجوم المنهجي على الديمقراطية
إنها هجمة شاملة على الديمقراطية، فكل فعل من أفعال القسوة وكل قانون عنصري وكل استعارة عنيفة تُقوّض شيئًا فشيئًا العقد الاجتماعي. لقد أصبحت ثقافة الاستبداد أداة لإذلال كل من يُعتبر “مختلفًا”، سواء كانوا مواطنين أم غير مواطنين، معارضين أم مهاجرين، مواطنين مُجنّسين أو يسعون للحصول على الجنسية.
لقد باتت المواطنة، في ظل نظام ترامب، تُعرَّف كامتياز لا كحق. وفي الوقت نفسه، يساهم النظام الإعلامي القائم على العناوين الجاذبة والتغييب المتعمّد في إضفاء الشرعية على الفاشيين، بينما يُخفي جذور المعاناة الجماعية والخوف، ويحوّل القمع إلى عرض إعلامي، والصمت إلى شكل من أشكال التواطؤ.
وفي هذا الضباب، تفقد اللغة ذاتها معناها، وتختلط الحقيقة بالزيف، وتضيع الحدود بينهما. وكما حذّر باولو فريري، فإن أدوات القامع غالبًا ما يتبناها المضطهدون. واليوم، نرى منطق الفاشية وقد تسلل إلى الثقافة، فهدم الحسّ المدني ودمّر الخيال الأخلاقي وجعل من المقاومة أمرًا شبه مستحيل.
تطبيع الطغيان
أوهام ترامب الاستبدادية لا تُنفّر قاعدته الشعبية، بل تحفزها، فما كان في الماضي غير وارد أصبح الآن سياسة رسمية، وما كان هامشيًا بات سائدًا. ولم تعد القسوة أمرًا يُستنكر أو يُتجنّب بأي ثمن، بل أصبحت سمةً أساسية للسلطة، تُمارس بوحشية استعراضية ومُبالغ فيها.
وفي ظل المدير الحالي بالوكالة لوكالة الهجرة والجمارك، تود ليونز، تصاعد هذا المنطق العقابي بشكل حاد؛ إذ يُشرف ليونز على جهاز لإنفاذ القانون والترحيل بقيمة 4.4 مليارات دولار، يضم أكثر من 8,600 عنصرًا موزعين على 200 موقع داخل الولايات المتحدة، ويعتمد على تكتيكات عسكرية ومداهمات مباغتة واستهداف عدواني للمجتمعات المهاجرة، لترسيخ نظام قائم على الخوف.
وتشكّل وكالة الهجرة والجمارك جوهر الدولة البوليسية المفرطة التي يسعى ترامب إلى ترسيخها، وقد جرى توسيع تمويلها بشكل كبير ليصل إلى 170 مليار دولار في مشروع ميزانية ترامب الجديد، مما أدى إلى إنشاء ما وصفه الصحفي ويل بانش بـ”أرخبيل الغولاغ الخاص بترامب”، أي شبكة من معسكرات الاحتجاز تمتدّ عبر الولايات المتحدة التي بات التعرف عليها أمرًا يزداد صعوبة.
وفي الوقت نفسه، مهدت شخصيات مثل توم هومان، الذي قاد وكالة الهجرة والجمارك خلال ولاية ترامب الأولى، الطريق من خلال عمليات أشبه بأساليب الغيستابو: مداهمات ليلية وفصل العائلات وتصريحات علنية مفادها أن المهاجرين غير المسجلين “يجب أن يشعروا بالخوف”.
وبصفته “قيصر الحدود” في إدارة ترامب، أطلق هومان سياسات ترحيل أكثر عنفًا وقسوة حتى من تلك التي نُفّذت في فترة ترامب الرئاسية الأولى. وكما يذكر الصحفي بانش، خذ على سبيل المثال حالة “دونا كاشانيان“، السيدة البالغة من العمر 64 سنة من نيو أورلينز، التي فرت من إيران المضطربة قبل 47 سنة، وتطوّعت لإعادة إعمار مجتمعها المتضرر بعد إعصار كاترينا، ولم تتخلّف يومًا عن مراجعة سلطات الهجرة الأميركية، لكنها اختُطفت من قبل عملاء وكالة الهجرة والجمارك بسيارات لا تحمل علامات، بينما كانت تعمل في حديقة منزلها، ونُقلت إلى مركز احتجاز سيئ السمعة.
مثل هذه القصص المرعبة تحدث الآن يوميًا، في مدن تمتد من لوس أنجلوس إلى بروفيدنس، رود آيلاند. مثل هذه القصص المرعبة تحدث الآن يوميًا، في مدن تمتد من لوس أنجلوس إلى بروفيدنس، رود آيلاند. تحدث مثل هذه القصص المرعبة الآن يوميًا، في مدن تمتد من لوس أنجلوس إلى بروفيدنس، رود آيلاند.
ويُعدّ ستيفن ميلر، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض في إدارة ترامب، لاعبًا محوريًا في نظام الإرهاب الحكومي الحالي والعنصرية المنهجية وعمليات الخطف الجماعي والترحيل وتجريم المعارضة. فخلال الولاية الأولى لترامب، كان ميلر القوة الدافعة وراء حظر السفر على المسلمين وسياسة فصل العائلات والهجمات على مبدأ الجنسية بالولادة – وكلها تنبع من رؤية للعالم قائمة على تفوّق العرق الأبيض وأفكار تحسين النسل دون خجل أو مواربة. وفي ولاية ترامب الثانية، برز ميلر كمهندس لإجراءات أشدّ قسوة، يدفع نحو ترحيلات جماعية وإلغاء حق المواطنة المكتسبة بالولادة وسحب الجنسية المُكتسبة من كل من لا يدخل ضمن رؤيته الضيقة لمن يستحق أن يُدعى أمريكيًا: أبيض ومسيحي.
ولا يرى القوميون البيض المتطرفون مثل ستيفن ميلر، وتوم هومان، وتود ليونز، في القسوة أثرًا جانبيًا مؤسفًا، بل يعتبرونها عملة السلطة. فالمعاناة تتحول إلى عرض استعراضي، والعنف إلى طقس من طقوس الحكم. لا يتقدم الاستبداد ببطء في صمت، بل يتقدّم بسرعة قصوى، وسط هتافات من يروّجون للخوف كمبدأ حاكم، وللألم كسياسة عامة.
هذه ليست عاصفة عابرة، بل أنفاس نظام يحتضر؛ نظام طالما مجّد العنف، وحوّل كل شيء إلى سلعة، وتغذّى على الانقسام. ولا تعتبر لغة ترامب استعراضية، بل تحضير. فكلماته ترسم الأساس لمجتمع بلا تعاطف وبلا عدالة وبلا ديمقراطية.
استعادة لغة المقاومة، واستعادة الديمقراطية
في مجتمع سوي، تشكّل اللغة شريان الحياة للديمقراطية ووعاءً للتضامن والحقيقة والأمل، لكن في أمريكا ترامب، تحوّلت اللغة إلى سلاح تُجرِّد البشر من إنسانيتهم، وتقصي، وتُخضع. إن رؤيته ليست مجرد تحذير، بل مخطط جاهز للتنفيذ. وعلينا أن نُقاوم، وإلا فإننا نُخاطر بفقدان كل شيء. فالأمر يتعلّق ببقاء الديمقراطية نفسها واستعادة الحقيقة ورفض العيش في عالمٍ تُصبح فيه القسوة سياسة والصمت تواطؤًا.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط قطيعة في اللغة، بل أيضًا في الوعي، وعيٌ يجمع بين الإضاءة النقدية للحاضر، ورؤية استباقية لما ينتظرنا إذا تُركت الديناميات الفاشية دون مقاومة. وكما أصرّ والتر بنجامين، يجب أن نُنمّي ما أسماه “الإضاءة الدنيوية”، لغة تُزعزع عرض الأكاذيب وتُسمّي الأزمة بوضوحها العنيف. وفي الوقت ذاته، كما يجادل أ. ك. تومسون، علينا أن نُدرك المستقبل الكامن في الحاضر. إن مفهومه عن التوقعات يحثّنا على قراءة ما يحدث من حولنا كتحذيرات عاجلة وعلامات على الكارثة التي تنتظرنا ما لم نواجه المسارات السياسية والثقافية التي نسير فيها. إنّ ذلك يتطلب منّا أن نرى الروابط التي تجمع معاناتنا، ونرفض الواقع المجزّأ الذي يفرضه علينا النظام النيوليبرالي. لقد ولّى زمن اللامبالاة. وحان الوقت للغةٍ جديدة أكثر حيوية، لغة النقد، والمقاومة، والأمل النضالي. لغة لا تكتفي بإدانة الحاضر، بل تتخيل مستقبلًا متجذرًا في العدالة والذاكرة والنضال الجماعي.
وأشار أنطونيو غرامشي أيضًا في مذكراته في السجن: “تتمثل الأزمة بالضبط في أن القديم يحتضر، والجديد لا يستطيع أن يولد، وفي هذه الفترة الانتقالية تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية”. ومن الواضح أن هذه الأعراض المرضية قد ظهرت بالفعل، ومع اليأس الذي تولّده، فإنها تقدم أيضًا تحديات وفرصًا جديدة لنضالات متجددة.
وهنا يأتي دور اللغة، وهنا يكمن التحدي والفرصة لأولئك الذين يؤمنون بالقوة التحويلية للثقافة واللغة والتعليم، ليس فقط لفهم طبيعة الأزمة، بل لاجتثاث جذورها الأعمق في السياسة والذاكرة والوكالة والقيم والسلطة والديمقراطية ذاتها.
المصدر: كاونتر بانش