مع بزوغ شمس الحرية والثورة وقبل خمس سنوات من الآن عرفت بلادنا نقلة نوعية ومنعرجًا كاملاً، لا سيما في مجال الحريات كحرية التعبير والنشاط والإعلام والتنظيم، لكن وإن بدت مظاهر هذا التغيير جلية واضحة لكل العالم إلا أن هذا التغيير لم يشمل جميع المستويات، إذ بقيت بعضها رهينة الماضي وحبيسة عقلية كرستها عهود الاستبداد والظلم ليشهد التطور فيها حالة من الضمور.
ولنا في الجامعة التونسية خير مثال، فكأن الثورة لم تلج أسوارها إذ بقيت الحياة الطلابية وما تستلزمه بداهة من حريات مكبلة بقوانين ونظم لا تتماهى مع اللحظة التاريخية التي تعيشها تونس وهي بذلك لا تستوعب التحول الذي حصل بل وتصل إلى حد التناقض مع روح دستور الجمهورية الثانية القائم على فك القيد وفسح المجال للفعل المجتمعي دون رقابة مسبقة ما لم يتجاوز النظام العام والأخلاق الحميدة.
ونرى اليوم منعًا للنشاط السياسي في الجامعة التونسية بتعلة أن الجامعة فضاء للتحصيل الأكاديمي وللتكوين العلمي وفي أقصى الحالات للنشاط الثقافي كما صرح وزير التعليم العالي مؤخرًا والوزراء الذين سبقوه من أن النشاط السياسي بالجامعة مطية لدفعها نحو الصراع الفكري والمادي بين التنظيمات السياسية المختلفة.
ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين إلى التساؤل عن أهمية وجدوى الفعل السياسي في الحرم الجامعي، في الحقيقة لا يعد العمل السياسي غريبًا عن الجامعة التونسية ولا بدعة ابتدعها طلبة ما بعد الثورة فضلاً عن أن ثلة من الأحزاب السياسية التونسية اليوم نشأت وترعرعت على مدارج الجامعة وصنعت رموزها في ساحاتها وهم يقيمون ندواتهم واجتماعاتهم العامة في رحابها.
فالتنظيمات السياسية على اختلاف انتماءاتها الحزبية ومشاربها الفكرية شكلت العمود الفقري الذي ساهم في بناء حركة طلابية واعية ومناضلة جمعت بين البناء والتشييد والرفض والاحتجاج، لعل انطلاقة هذه التمظهرات كانت مع طلبة الجامعة الزيتونية الذين طالبوا بتحديث التعليم الزيتوني وتعصيره متضامنين بذلك مع نضالات الحركة الوطنية في وجه آلة الاستبداد والظلم رافعين شعار “نريد الحرية في الجامعة كما نريدها في البلاد” ناذرين بذلك حناجرهم التي ما برحت تهتف بالحرية ودمائهم التي سالت من أجل الكرامة والعدل وأقلامهم التي سطرت المسار.
يحيلنا هذا الدور التاريخي إلى ضرورة الفعل السياسي في تجديد الحركة الطلابية اليوم وإعادة الجامعة إلى مكانتها ودورها الطلائعي في تخريج قيادات الوطن المؤتمنين على مستقبله ومساره، فالطلبة هم رجال البلاد والمجتمع وقيادات المرحلة المقبلة، إذ لا يمكن بناء ثقافة العمل والإيجابية والمساهمة في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وإرساء التنمية والتقدم وتركيز الفكر التنويري والحداثي في بلادنا دون أن يكون طلبة الجامعات مهتمين بالشأن العام وبالمسائل الحارقة بكل تفصيلاتها، الأمر الذي نراه في أعتى الجامعات في العالم.
ففي الوقت الذي يحتدم فيه الجدال وتنقسم فيه النخب التونسية بين مؤيد ومعارض للفعل السياسي في الجامعة، تستعد أكثر الجامعات تقدمًا أكاديميًا مثل الجامعة الأمريكية لمواكبة الحملات الانتخابية إذ تحضر فيها أكبر الأحزاب السياسية بكثافة ونجد الطلاب الديمقراطيين ولجنة الطلاب الجمهوريين الوطنية كل هذا يجعل للجامعة الأمريكية دورًا مهمًا في توعية طلبتها بقضايا البلد ومنه في تجديد النخبة السياسية عن طريق تخريج مجموعة من الشباب لتقلد مناصب قيادية داخل الأحزاب المختلفة.
وعليه فإن النخب الوطنية ومكونات الحركة الطلابية من تنظيمات سياسية ونقابية وثقافية ومؤسسات الدولة من حكومة وبرلمان مطالبون جميعًا بالتفكير الجدي في مستقبل هذه البلاد، والعمل على تجديد القوانين التي تنظم الحياة الجامعية بما يتماشى مع السياق التاريخي الذي تمر به جامعة 2016 وتستجيب لروح الدستور وتعيد للجامعة دورها الرئيسي في تخريج القيادات الأكاديمية والسياسية .
فنحن نتطلع لأن يكون الطالب رقمًا صعبًا من خلال استبطانه لطاقة تفكير وإدارة للشأن الوطني لا مجرد تلميذ برتبة جامعي.