يبدو مجال الفضاء في طريقه نحو قفزة تاريخية جديدة هذه الأيام، فقد نجحت شركة سبيس إكس الأمريكية منذ أيام في إطلاق صاروخ وهبوطه مجددًا، مما يفتح الباب أمام إعادة استخدام الصاروخ الواحد وبالتالي يخفّض كثيرًا تكلفة السفر إلى الفضاء وربما يدشن عصر السياحة الفضائية، كما قام الفيزيائي المرموق ستيفن هوكينج بعد أيام بتبنى مبادرة تدشين مراكب فضائية صغيرة وسريعة للوصول لأقرب نجم خلال هذا القرن.
سيشهد عالم الفضاء إذن تجاوز طموحات الكواكب، وبدء تنفيذ حلم الوصول للنجوم، كما سيشهد دخول الشركات وليس وكالات الفضاء فقط، وانطلاق السياحة الفضائية كما تُسمى، غير أن دور وكالات الفضاء التقليدية المملوكة للدول لن يتراجع في نفس الوقت، بل سيتجه إلى صراع من نوع جديد، وهو ليس صراع سباق الفضاء القديم على أول من يصل للقمر وأول من يسير في محيط الأرض، بل صراع حول إمكانية استغلال الثروات الطبيعية الموجودة في الفضاء، وأبرزها حاليًا المعادن، والذي ربما يكون أشد شراسة من صراع الحرب الباردة.
لا يعد البحث عن المعادن في الفضاء أمرًا صعبًا أبدًا، لا سيما وأنه يتطلع إلى المذنبات والكويكبات الموجودة بالأساس في حزام الكويكبات الواقع بين المريخ والمشترى، مما يعني قُربه بما يكفي لخلق نشاط تعدين طويل الأمد على العكس من المسافات الأبعد والأكثر صعوبة كتلك التي يقع عندها كوكب المُشترى أو ما بعده، وهي مسافات لا تعنينا في الحقيقة لأن المشترى وما بعده من كواكب غازية لا صخرية، ولا يمكن التنقيب عن المعادن إلا في بعضٍ من أقمارها الصخرية.
بحلول العقد المقبل، تخطط ناسا لبدء إطلاق مركبات فضائية صغيرة للتنقيب عن المعادن بين الغبار والصخور والكويكبات الهائمة في المجموعة الشمسية، وربما التعرف على معادن مهمة من بينها وجلبها قبل العودة للأرض، وقد تم تطوير نماذج بالفعل لتلك المركبات الصغيرة لإطلاق واحدة أو أكثر منها خلال الفترة بين عامي 2020 و2025، وهي خطوة تعني ببساطة أن هيمنة العلوم والتكنولوجيا على الفضاء ستتراجع لصالح دخول العنصر التجاري والاقتصادي، والتي ربما تتجاوز المعادن وتصل للبحث عن الماء أيضًا في المريخ لحل أزمة المياة في المستقبل على الأرض.
هذا ما يشي به بوضوح قانون الفضاء للعام 2015، والذي أصدره الكونجرس في الولايات المتحدة في ديسمبر من العام الماضي، ويوكّل الرئيس الأمريكي لبذل أقصى جهده “من أجل تعزيز الكشف والاستغلال التجاري للموارد في الفضاء بما يعين على تلبية الاحتياجات الوطنية (أو القومية،)” وهو قانون أثار الجدل بعد صدوره في بعض الأوساط العلمية المتخوفة من إشعال صراع في الفضاء، والتي أشارت إلى تعارضه مع القانون الدولي كما قال أحد الخبراء بقوانين الفضاء، وأبرزها معاهدة الفضاء الخارجي للعام 1967.
تنُص المعاهدة، والتي تم توقيعها قُبَيل مهمة أبوللو الفضائية الشهيرة للوصول للقمر، على أن “الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية، ليس مجالًا للاستحواذ القومي، سواء بادعاء السيادة على جزء منه أو احتلاله أو استخدامه أو غير ذلك من وسائل،” وهي معاهدة تلتها اتفاقية أخرى عام 1979 باسم “اتفاقية القمر” تنُص على أن الفضاء الخارجي ملك للبشرية كلها، وأنه يحظر على أي دولة أو منظمة الهيمنة على الموارد الطبيعية الموجودة في المجموعة الشمسية، غير أن غالبية دول العالم بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا لم توقع على تلك الاتفاقية الأخيرة.
صورة للمريخ من مركبة كِريوزيتي لمنطقة يعتقد وجود بحيرات فيها قديمًا، وهي نفس المهمة الفضائية التي اكتشفت الماء على المريخ
حتمية الاتجاه للفضاء
عاجلًا أو آجلًا، ستضطر البلدان الرائدة في عالم الفضاء إلى الجلوس والحوار بشأن تنظيم التعدين في الفضاء وإلا فإن صراعًا واسعًا سيندلع بينها بشكل ربما يهدد الاستقرار على الأرض أولًا، ومسيرة العلم التي حفظت سلمية النشاط في الفضاء ثانيًا، لا سيما وأن بعض المعادن وكميات الاحتياطي الموجودة منها على الأرض تُنذر بالفعل بأن التوجه للفضاء أمر حتمي لتلبية احتياجات الأرض في المستقبل، على سبيل المثال مجموعة المعادن البلاتينية، والتي يوجد منها حاليًا حوالي 100 ألف طن متري عالميًا فقط بما يكفي لتلبية احتياجاتنا لعقود قليلة، وربما أقل حال ازداد الطلب عليها.
أبرز مثال من المجموعة البلاتينية هو عنصر البالاديوم، والمستخدم في ملايين الأجهزة الإلكترونية نظرًا لاستقراره كعنصر كيميائي وقدرته على التوصيل الكهربي، بيد أنه عنصر نادر أصلًا على الأرض، وما يتيحه الفضاء هو إمكانية البحث عن كويكب غني بالبالاديوم في الفضاء القريب منّا، وهو كويكب ربما يمتلك احتياطي يساوي كل احتياطيات المجموعة البلاتينية على الأرض برمتها، وذلك وفق بحوث مجموعة موارد الكواكب التي تدعمها شركة جوجل.
الرغبة في حيازة تلك الكويكبات المختلفة بالطبع سيُشعل سباقًا للسيطرة عليها وادعاء ملكيتها من جانب الدول الكبرى، بل وربما الشركات الكبرى، وهو ما سيفتح الفضاء على مصراعيه لاستقبال العشرات من الأقمار الصناعية العسكرية للتجسس على، والدفاع عن، بل وربما مهاجمة، تلك الملكيات “الصخرية” لدول كُبرى بعينها؛ المعادن البلاتينية إذن بالتحديد قد تُشعل عصر حروب “الفضاء السياسي” على غرار حروب “الجغرافيا السياسية” التي أشعلها النفط بشكل رئيسي في القرن المنصرم.
ينشأ هنا سؤال بالتبعية: هل هناك إمكانية بالفعل للتعاون فيما يخص التعدين في الفضاء بدلًا من الدخول في صراع فضائي بهذا الشكل؟ في الحقيقة تمثل القارة القطبية الجنوبية مثالًا جيدًا يمكن أن يحتذى به هنا، فتلك المساحة الجليدية الكبرى ليست ملكًا لدولة بعينها، وهو أمر محظور وفق القانون الدولي، كما تعمل كافة الدول بالتنسيق لحمايتها كقارة خارجة تمامًا عن نطاق النشاط البشري الملوث للبيئة، وإجراء البحوث العلمية عليها في نفس الوقت، بيد أن القارة القطبية، والتي يُحظَر فيها التعدين، هي نطاق ضيق وعالي التكلفة نظرًا لغطائه الجليدي الكثيف، أما إرسال مراكب فضائية صغيرة لحيازة صخور جاهزة والعودة للأرض فهو أمر أكثر سهولة، أضف إلى ذلك أن الفوضى “الصخرية” في حزام الكويكبات على عكس القارة القطبية ستتيح لمن يملك المعلومات عنها أولًا أن يحاول استغلالها سريعًا.
إلى جانب خطورة اندلاع صراع في الفضاء، يتخوف العلماء مما قد تُحدثه نشاطات التعدين نفسها، فهي ستتضمن على الأرجح تكسير بعض الكويكبات الصغيرة لاستخراج المعادن، وبالتالي ستخلّف حطامًا في صورة كتلات صخرية كبيرة ربما تؤدي لتشكيل خطر على الأقمار الصناعية حول الأرض وغيرها من منشآت فضائية، وبشكل عام فإن ذلك يزيد من احتمالية سقوط أجسام كتلك على الأرض، أما بالنسبة لوكالة ناسا الأبرز في تخطيط هذا النشاط مستقبلًا، والتي من المفترض أنها تمثل المؤسسة العلمية الأكثر ثقلًا لتمثيل مصالح العلماء، فإن تعاونها المتزايد مع شركات التعدين في الفضاء يثير القلق حاليًا من تشكل أجندة تجارية لديها تطغى على أجندتها العلمية التقليدية، وتؤدي لتراجع الاهتمام بالمخاوف العلمية في التعامل مع الفضاء.
***
في منتصف العام 2018، من المقرر أن تطلق ناسة قمرًا صناعيًا لمهمة تحليل كويكب صغير بالكامل من حزام الكويكبات، وستقوم بتحليل مكوناته وخصائصه، وهي أول مهمة ربما تفتح باب التعدين في الفضاء، والسؤال هنا هو إلى أي مدى ستظل ناسا رائدة في هذا المجال وحدها؟ وإلى متى بالتبعية ستهيمن الولايات المتحدة بشركاتها على ثروات الفضاء شئنا أم أبينا قبل أن تبدأ بلدان أخرى في الوصول لنفس التقنيات؟ لا يبدو أن الأمر سيستغرق طويلًا قبل أن يتجه الأوروبيون والصينيون والروس واليابانيون كذلك إلى مسرح التعدين الفضائي، فالمركبات الصغيرة التي ستقوم بالمهام بسيطة نسبيًا وغير مكلفة، وهي ربما أسهل من رحلات وصول البشر للمريخ أو إرسال مركبات للكواكب البعيدة.
حتى نرى ما ستسفر عنه مهمة ناسا، وما قد تتوصل له الوكالات الأخرى خلال الأعوام المقبلة، ليس علينا إلا الانتظار، والأمل في أن تؤدي نشاطات التعدين الفضائي إلى نشوء إطار شبيه بإطار القارة القطبية الجنوبية، وكذلك نشوء تقنيات تقينا زيادة احتمال تعرض الأرض للمخاطر المباشرة جراء حطام عمليات التعدين، أما البلدان الصغيرة والبعيدة عن سباق الفضاء، فستكون مجبرة على المتابعة فقط ليس إلا، أو لربما تأمل في الحصول على نصيب من كعكة المعادن المتآكلة باستمرار على الأرض بينما يتجه اهتمام الدول الكبرى إلى معادن الفضاء، وتقليل حدة الصراعات الجغرافية التقليدية بينما تنتقل ضوضاء الصراعات العالمية إلى الفضاء.
*المصدر: مدوّنة ناوتيليوس