سمع معظمنا في السنوات الأخيرة عن تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، والتي تقوم بموجبها طابعة من نوع خاص بوضع طبقات متتالية فوق بعضها البعض لـ”طباعة” منتج معيّن وكأنها صورة سريعة من عملية الإنتاج التقليدية، وهي تقنية مشابهة للطباعة الورقية العادية ولكن على مستوى أبعاد المكان الثلاثة لا مستوى سطح واحد كما يحدث مع الطباعة الورقية، وعلى غرار الطباعة العادية فإن الطباعة الثلاثية تقوم بطباعة الشكل المطلوب إنتاجه وفق الإشارة (أو الصورة) التي تلقتها عن المنتج.
حتى سنوات قليلة مضت ظلت تلك التكنولوجيا الجديدة مقتصرة على بناء نماذج تجريبية لمنتجات معيّنة كنوع من الاختبار لشكلها وخواصها مثلًا، قبل أن يتم الشروع بالفعل في إنتاجها بالطرق الصناعية التقليدية وطرحها لاحقًا بأعداد كثيرة في الأسواق، غير أن الطباعة الثلاثية على ما يبدو في طريقها لتصبح وسيلة إنتاج بحد ذاتها تُنتج لنا على سبيل المثال الأعضاء الاصطناعية أو قطع غيار الآلات المختلفة أو حتى بيوت كاملة، وهو أمر لن يقتصر على الأرجح على تلبية حاجاتنا على الأرض فقط.
طباعة ثلاثية الأبعاد في الفضاء
في سبتمبر 2014 قامت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا بإرسال طابعة ثلاثية الأبعاد باسم “زيرو جي” Zero G (وهي الإشارة الشهيرة لانعدام الجاذبية) إلى محطة الفضاء الدولية الواقعة في مدار الأرض، بالتعاون مع شركة ميد إن سبيس Made in Space (أي صُنِع في الفضاء)، والتي تأسست عام 2010 وأجرت اختبارات عدة ناجحة على مدار أربعة أعوام لطابعاتها الثلاثية في مختبرات ناسا ذات الجاذبية الضئيلة، وقد نجحت الطابعة بالفعل بعد وصولها للمحطة في طباعة واحدة من المعدات المستخدمة في المحطة.
أحد رواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية يمسك بأداة من إنتاج طابعة “زيرو جي”
في مطلع هذا العام، تقاطع مجال آخر خاص بالفضاء مع “الطباعة في الفضاء” وهو مجال التعدين الفضائي، أي البحث عن المواد المختلفة في الفضاء واستخدامها و/أو جلبها للأرض، حيث قامت شركة بلانيتاري ريسورسز Planetary Resources بطباعة أول منتج من أجزاء مأخوذة من إحدى الكويكبات في الفضاء، لتفتح بذلك باب استخدام مواد خام موجودة بالفعل في الفضاء للطباعة خارج الأرض، وبالتالي عدم الحاجة إلى جلب مواد خام مخصصة من الأرض ونقلها لمحطة الفضاء الدولية، أو ربما غيرها من مواقع أبعد.
الطباعة ثلاثية الأبعاد في الفضاء حتى الآن تقتصر على منتجات صغيرة نسبيًا، لكن القفزات التي أخذتها تلك التقنية على الأرض، والتي تشمل الآن طباعة المنازل من الطين، تعني أننا قد نرى منتجات أكبر قريبًا في الفضاء، وهو ما تطمح له بالفعل وكالة الفضاء الأوروبية ESA، والتي بدأت عام 2013 تجربة طباعة ثلاثية لخلية كبيرة تزِن حوالي طن ونصف من الحطام الصخري الموجود على سطح القمر، كنواة لما يمكن أن يكون قاعدة كاملة يومًا ما على سطح القمر أو المريخ.
لم تغب ناسا عن ذلك السباق بالطبع، فقد بدأت عام 2011 بتمويل أبحاث البروفيسور الإيراني بهروخ خوشنفيس بجامعة جنوب كاليفورنيا لاستخدام تقنياته الخاصة في الطباعة الثلاثية السريعة وقليلة التلويث لبناء مساكن على القمر، وهي تقنيات كان بهروخ قد عكف عليها في الأصل لتطوير آلية بناء سريعة ونظيفة يستطيع عن طريقها إعادة بناء المناطق المهدمة جراء الزلازل وإيواء المتضررين منها، لا سيما في إيران موطنه الأصلي، وهي تقنية قال عنها بهروخ أنها كفيلة ببناء منزل كامل في 24 ساعة فقط.
تصوّر فني لطابعة ثلاثية على سطح القمر
بعد عدة اختبارات ناجحة للطباعة الثلاثية في الفضاء، قررت ناسا في نوفمبر 2015 تدشين برنامج جديد للشراكة بينها وبين القطاع الخاص لدفع مجموعة من التقنيات الجديدة القريبة من التطبيق بالفعل، وأولها كانت الطباعة في الفضاء، حيث تم الإعلان عن مشروع أركينوت Archinaut لاستخدام طابعة ثلاثية تقوم بتوفيرها شركة ميد إن سبيس، مزودة بذراع آلي (روبوتي) من جانب شركة أوشنيرينغ Oceaneering، ونظم برمجية للتحكم من شركة نورثراب غرومّان Northrup Grumman، وسيهدف المشروع إلى إنتاج هيكل ضخم ومعقد لذراع قمر صناعي على متن محطة الفضاء الدولية بحلول العام 2018.
لا يبدو أن غزو الطباعة الثلاثية سيقف عند هذا الحد، بل سيغير من شكل أجواء الأرض كذلك، فالتقنية الجديدة ستعيد رسم ملامح مجال الصناعات الخاصة بالطيران والفضاء، حيث ينتظر استخدامها في طباعة مواد مركبة تستخدم في صناعة الطائرات ومركبات الفضاء، ورُغم أن تلك المواد المركبة، وهي عبارة عن طبقات من عناصر مختلفة متراكمة، تعاني عادة من الضعف بين تلك الطبقات بما قد يؤدي لفشل أي معدات أو أجهزة تُصنع منها، فإن تقنية الغزل ثلاثي الأبعاد 3D Weaving، والتي تستخدم الألياف على ثلاثة محاور مكانية، تملك إمكانية القضاء على ذلك الجانب السلبي، وهي تقنية استخدمتها ناسا بالفعل لأول مرة قبل أشهر قليلة في صناعة منصات الضغط المستخدمة في بناء مركبات الفضاء.
لن يكون غريبًا إذن سماعنا بين الحين والآخر عن دور الطباعة في الصناعة، أو حتى طباعة المباني والهياكل في الفضاء الخارجي، ولعل الأخبار التي سننتظرها قريبًا على مدار السنوات المقبلة ستكون عن تدشين مبنى أو اثنين على سطح القمر بالطباعة لا الإنشاء التقليدي، وبمواد مأخوذة في معظمها من سطح القمر كما تطمح ناسا، وهو ما دفعها إلى إطلاق تحدي المسكن المطبوع ثلاثيًا 3D Printed Habitat Challenge، لفتح باب المنافسة أمام المبدعين في المجال لتطوير تقنيات مختلفة وتصورات عن أول بناء في الفضاء باستخدام الطباعة الثلاثية، وهو التحدي الذي فاز به مشروع “مارس أيس هاوس” Mars Ice House المخصص لطباعة مبنى على سطح المريخ من الثلج الموجود بوفرة على الكوكب الأحمر الأبعد عن الشمس.
تصوّر فريق مشروع مارس أيس هاوس لمبنى على سطح المريخ
*هذا المقال منقول من مجلة ديسكافر العلمية