مع اقتراب موسم مسلسلات رمضان التي يتميز بها الشهر الكريم في عرضه لمارثون الموسم التلفزيوني الشهير في البلاد العربية، ومع تنافس شركات الإنتاج وتطاحن الممثلين والتسابق على عرض الأفكار الجديدة والجذابة للجمهور الصائم الذي عزم على “تسلية” صيامه وكذلك إفطاره على شاشة التلفاز، هناك لاعب خفي وسط كل تلك المسلسلات والمشاحنات والتنافسات، ألا وهو الدعاية والإعلان.
أتذكر أن أكثر ما يتذمر منه الناس من حملة الدعاية والإعلانات التي تأخذ مكانها وسط المسلسلات بخفة هو طول فترة كل إعلان، مما يجعل الجمهور يمل أحيانًا من مشاهدة ما كان يشاهده في الأصل، وأن القنوات الفضائية تعطي الإعلانات أكثر من حقها كمساحة وكمدة زمنية كان من الممكن للقناة الفضائية أن تعطيها لشيء أكثر أهمية، ولكن السؤال هنا؟ هل الإعلانات شيء غير مهم فعلًا، وكل ما يفعله هو عرض سلع تجارية على المشاهد وللمشاهد حق الاختيار في قبول العرض أو رفضه؟ الحقيقة تقول بأن للإعلانات دور خفي أنت لا تعرفه، وأنك يا سيدي، من السهل جدًا أن يتم خداعك.
دعنا نأخذ جولة تعريفية قصيرة في عالم التسويق والذي يندرج تحته العديد من الأقسام وأهمها الدعاية والإعلان، الدعاية والإعلان هي صناعة الـ 200 بليون دولار سنويًا، وهي إحدى الصناعات القادرة على التحكم في قرارات واختيارات الإنسان بدون وعيه، فما تشاهده حاليًا من إعلانات لم يعد كما اعتدته من قبل، لم تعد مهمة الإعلانات الآن هي عرض المنتج ومحاولة إقناعك بشرائه بطريقة درامية ساذجة، فوظيفة المسوقين الآن هو إقناعك بشراء ما لا تحتاج شراءه، وزرع فكرة احتياجك لهذا المنتح بالذات دونًا عن غيره في عقلك اللاوعي، وبهذا يحققون المكسب المطلوب للشركة.
فالمسوقون يمكنهم تغيير رأيك في منتج معين، وتكوين صورة له راسخة في عقلك اللاوعي، على الرغم من احتمالية عدم اقتناع المسوّق نفسه بالمنتج الذي يقنع الجمهور به، فهناك قاعدة في عالم المسوقين، هي أنه يجب عليك أن تبيع كل ما لديك، سواء اقتنعت به أم لم تقتنع.
ما الذي يقوم به المسوقون لخداع عقولنا؟
عليك أن تفهم جيدًا أن عالم التسويق بما فيه من مسوقين وبرامج وأقسام مختلفة يفهم عقلك ويعرف عنه ما لا تعرفه أنت شخصيًا، كما أن المسوقين لا يقومون بصناعة الدعاية والإعلان من خبراتهم التجارية أو التسويقية فقط، فالأمر يمتد إلى المعرفة البيولوجية والعلوم النفسية الخاصة بالإنسان، فعليك أيها المشاهد أن تعرف أنك الآن مجرد هدف لشركة التسويق، يتم البحث عنك بدقة بالغة، عن تفاصيل دخلك الشهري، عدد أفراد أسرتك، مستوى معيشتك، أماكن تسوقك وأوقاتها ومواسمها، ذوقك الشخصي وألوانك المفضلة وهواياتك الشخصية، فما تراه أمامك من إعلانات لم يتم تصميمها من أجل الصدفة البحتة، الأمر تم دراسته جيدًا، وتم تصميمه بطريقة احترافية، يمكنها بمنتهى السهولة أن تخترق عقلك.
يستخدم المسوقون أسلوبين في عرض الإعلانات يعتبران أحد الأساليب المشهورة على الإطلاق في عالم الدعاية والإعلان، يعود أصلهما إلى دراسات في علم النفس أولهما هو “التعرّض المجرد” Mere exposure وهو الأسلوب الذي يمكن شرحه في جملة بسيطة وهي “الإنسان يشعر بالراحة أكثر عند وجوده وسط مجموعات”، تخيل نفسك في بنك وأمامك صفين من البشر أحدهما طويل نسبيًا للصف المجاور له، عقلك اللاواعي سيقنعك بأن الصف الأطول ربما هو الأسرع، أو هو الأفضل في الخدمة، لذلك فضله الجميع وآثروا الانتظار فيه على الذهاب للصف الأقصر طولًا، وهذا بالضبط ما يفعله فريق المسوقين، يقومون بتعريضك للمنتج بطريقة تظهر المنتح بأنه المفضل من الأغلبية، رغم كون سعره أعلى من نظائره في المحل التجاري الذي تذهب إليه أسبوعيًا، ولكنه شعور الاطمئنان لكونك وسط الأغلبية هو ما يدفعك لشراء المنتج بدون التفكير في أنه فعل مقصود من الإعلان الذي ظل يتكرر على شاشة التلفاز أمامك لدقائق متقطعة، حتى تمت مهمته بنجاح وتم ترسيخ صورة المنتج في عقلك اللاوعي بأنه المنتج الآمن المُفضل لدى الأغلبية.
الأسلوب الثاني هو نظرية “الإشراط الكلاسيكي Classical Conditioning: وهو أحد المصطلحات المشهورة في علم السلوك، تمت دراسته على يد العالم الروسي إيفان بافلوف وهو يقوم بدراسة المثير والاستجابة أو رد فعل الإنسان على أي مُحفز أو مثير له، وقد استغلها عالم التسويق في ربط المنتج بصورته أو بإعلانه لدى المشتري، فإذا أخذنا إعلانات السيارات والعطور على سبيل المثال، فالإعلان ليس له أي صلة بالمنتج، وهو هنا السيارة أو العطر، ولكن الإعلان كله يعتمد على الحالة التي يعيشها مستخدم ذلك العطر أو سائق تلك السيارة، وهي الحالة من القوة والسيطرة والتملك والجمال، وبذلك ترتبط صورة المنتج لدى المشاهد بتلك الحالة، ويذهب بالتبعية لشرائه لرغبته في نفس تلك الحالة التي يتم تصويرها في الإعلان، يبدو الكلام غبيًا للمشاهد إذا قرأه، ولكنه بدون وعي منه، يتم تخزينه بصورة رويتينة في عقله اللاواعي، وهذا ما يطمح إليه عالم التسويق، وبذلك يكون قد حقق غرضه.
صورة العلامة التجارية “Brand Image”:
العلامة التجارية هي إحدى أسلحة الشركات وعالم التسويق بشكل خاص، وهي ما تطمح له كل الشركات في جعلها أحد الرموز غير القابلة للتقليد أو للنسيان من قبل المشاهدين، فما إن ترى اللون وطريقة الكتابة يأتي إلى ذهنك فورًا اسم المنتج صاحب تلك الصورة، دعنا نجرب إذن.
ما هو أول شيء خطر على بالك عند رؤيتك للصورة، هل كان شعار شركة جوجل أم اقتحمت كوكا كولا أفكارك فجأة لأول وهلة ومن ثم قرر عقلك أن الشعار هو لجوجل وليس لكوكا كولا؟ هذه هي فكرة صورة العلامة التجارية التي تتنافس الشركات على تحقيقها.
التسويق العصبي “Neuromarketing”:
هو أحدث ما جاءت به التكنولوجيا لعالم التسويق، وهو أذكى أسلحة التلاعب بعقول البشر لتحويل رغبتهم الشرائية إلى ما يريده المُنتِج وليس ما يريده المشتري نفسه، فكيف يعمل التسويق العصبي؟
التسويق العصبي يقوم بالتركيز على جزء من الدماغ يسمي “Reptilian Brain” وهو ما يسمى بالعربية دماغ الزواحف وهو يعد الجزء الداخلي من الدماغ، يمكن إطلاق اسم اللاوعي عليه أحيانًا، وتلك هي الخصائص التي يتميز بها والتي يستغلها المسوقون في عملهم.
لا ينام ولا يتوقف عن العمل أبدًا، حتى أثناء نومك وحتى إذا اعترفت بأنك لا تعير أهمية للتلفاز، فهو يلقط ويخزن كل شيء تراه، يعمل بسرعة فائقة ولكن إمكانياته محدودة في ذلك الوقت، لا واعي، ولا يمكنك السيطرة عليه، ولا يبذل أي مجهود ذهني، فمثلًا، إذا وجدت أمامك مسألة حسابية الآن اعلم بأنه ليس الجزء في الدماغ المختص بحلها، ولكن إذا رأيت صورة لممثل مشهور يضحك، ستتعرف عليه فور رؤيته لأنك عندك صورة مطابقة للأصل في هذا الجزء، ويمكن اعتبار أهم خصائصه أنه دومًا يفوز، أي أنه من أكبر أزرار التحكم في قراراتنا، على الرغم من أنه لا واعي.
يعمل هذا الجزء من الدماغ بطريقة معينة يستغلها معظم المسوقين لدى الشركات الكبرى، فمثلًا هو يُخزن الصوّر بالتضاد، فيأتي المسوق مصممًا الإعلان المشهور لـ” قبل وبعد”، “الأبيض والمتسخ”.
يعمل هذا الجزء دومًا في البدايات والنهايات، أي ينشط تركيزه في بداية حركة المُحفز ونهايتها وينسى كل شيء حدث في المنتصف، هذا ما قاله المخرج السينمائي جورج لوكاس عن الأفلام أيضًا، حين قال “سر الفيلم الجيد يكمن في بداية جيدة ونهاية جيدة، ولا تنسى ألا تعبث كثيرًا بالجزء الأوسط”، وذلك لأن ما يحدث في الجزء الأوسط لا يهم ذاكرة الإنسان بدرجة كبيرة، وهذا ما يدعم فكرة الإعلانات المربحة الآن كذلك، فهي تعمل على المثيرات البصرية الخاطفة في البداية مع شعار الشركة في النهاية، وإليك النتيجة، صورة مخزنة للعلامة التجارية في ذاكرتك لا يمكن أن تنساها.
هذا الجزء من الدماغ يمكن وصفه بالأناني، فهو يجعل كل شيء متمحورًا حول نفسه، الأنا ثم الأنا ثم الأنا، ولم تغب تلك الحقيقة عن الدعاية والإعلان، يغلب على كلمات الإعلانات كلمة أنت، أنت تحتاج حياة أفضل، اخترها كما تحب أنت، قدمناها من أجلك أنت، لأجل خدمتك أنت.
وأخيرًا، العاطفة، يتأثر هذا الجزء من الدماغ بالمؤثرات العاطفية بشكل كبير، وهذا نسبي بالطبع ويختلف من شخص لآخر، إلا أنه يبدو أنه ينجح مع الأغلبية، حيث حققت الإعلانات المبنية على فكرة العاطفة أرباحًا تُذكر في عالم التسويق، أهمها الإعلانات المصممة لغرض التبرع، سواء كان بالمال أو بالدم، فالتسويق هنا يستغل القيم والمبادئ والعواطف لدى المشاهد ليحصل منه على فائدة مالية.
إعلان “لا تهاتفها وهي تقود السيارة”
لم تعد وظيفة التسويق هي بيع المنتج فحسب، بل صارت بيع الأفكار والقيم، وأحيانًا بيع أساليب الحياة المختلفة، لذا فالأمر يختلف تمامًا عندما تبتاع البضائع أو وأنت تشاهد الإعلانات مع أسرتك وأنت على دراية بالأمر كله، وبما يفعله عالم التسويق بك، تذكر أنك في النهاية ستشتري ما لا تحتاجه، ولم تفكر بالأصل في شرائه في أغلب الأحيان.