بعد انقلاب يوليو الذي أطاح بالإخوان المسلمين من سدة الحكم في مصر، تُطرح تساؤلات عن مستقبل الجماعة، وبالنظر إلى تاريخ الجماعة يمكن القول إن مرحلة الانقلاب العسكري في مصر، والمجازر التي تبعته بحق مؤيدي الرئيس محمد مرسي هي أكثر اللحظات الفارقة قسوة في عمر الجماعة الثمانينية حتى الآن، هذه محاولة لفهم عدد من تلك التحديات التي يواجهها الإخوان في هذه المرحلة.
إعادة تشكل الإيديولوجيا:
تشكل عقل جماعة الإخوان المسلمين عبر عقود كانت الجماعة في معظمها تعاني من القمع والاضطهاد الشديد من قبل الأنظمة المختلفة، ولم تستطع الجماعة رغم فترات الهدوء النسبي أو حتى لحظات الانتصار القصيرة من أن تتجاوز أوقات وفقه المحنة الذي نتج عن معاناة الإخوان في تلك الأوقات.
وعلى الرغم من تعايش أربع مدارس فكرية على الأقل داخل الإخوان المسلمين، إلا أن أقوى تلك المدارس سيطرة على الجماعة كان أكثرهم ارتباطا بمرحلة المحنة، وهي المدرسة التي تأثرت بفكر المرحوم سيد قطب والتي ينتمي إليها عدد من أهم القيادات التي تسيطر على مفاصل الجماعة حتى الآن.
وتشترك المدارس الفكرية المختلفة داخل الإخوان في عدد من المبادئ التي توحد الجماعة، حيث تحافظ أربعة مبادئ فقط على وحدة الإخوان المسلمين بوصفها منظمة برغم اتساع تركيبتها الأيديولوجية. و هذه المبادئ هي: الإعتقاد أن الإسلام هو النظام الشامل ؛ ورفض استخدام العنف كوسيلة للتغيير السياسي؛ وتقبل الديمقراطية؛ وتقبل التعددية السياسية.
غياب تصور للدولة
ومع غياب أي تصور لشكل الدولة عند المدارس الفكرية داخل الجماعة، باستثناء تصور بدائي بسيط عند الإخوان السلفيين (المتأثرين بالتجربة السعودية) أو المنتمين إلى المدرسة القطبية، فإن الجماعة يسود فيها تصور لشكل الدولة تبدو فيه السلطة مركزية (تماما كالسلطة داخل الجماعة) ويتداخل فيها المجال الشخصي بالعام حيث تلعب الدولة في ذلك التصور دورا كبيرا في إرساء الأخلاق العامة والحفاظ على “هوية المجتمع”، وهو تصور تعززه بعض النصوص التي وردت عن الإمام حسن البنا مؤسس الجماعة في “الرسائل”
ومن الممكن في إطار غياب ذلك التصور أن نفهم قرار الإخوان غير المعلن بعدم اتخاذ أي خطوات حقيقية في اتجاه تطهير مؤسسات الدولة المصرية غير المنتخبة (الدولة العميقة) بشكل حقيقي عقب وصولهم إلى السلطة، خاصة وزارة الداخلية والجيش والقضاء، حيث أن الإخوان سعوا بشكل واضح -لا إلى إصلاح مؤسسات الدولة العميقة- ولكن إلى تغيير ولاء تلك المؤسسات (وهو ما ظهر جليا في قرارات زيادة مرتبات الضباط والجنود) لتصبح أقرب للسلطة التي يمثل الإخوان رأسها.
إلا أن الانقلاب العسكري واللحظات الأليمة التي أعقبته، والتي تمثلت في المذابح التي ارتكبتها قوات الجيش والشرطة ضد مؤيدي مرسي والإخوان، أثرت -قطعا- وستستمر في التأثير على التركيبة الفكرية للجماعة، وربما تغير جذريا بعض تلك المبادئ التي تضمن وحدة الجماعة.
فالسردية التي يؤمن بها الإخوان المسلمون عما حدث منذ تولي مرسي زمام السلطة في مصر باختصار هي أن “الرئيس تعرض لمجموعة من المؤامرات التي نفذتها ضده الدولة العميقة والعسكر والإعلام والعلمانيين في مصر ودولٍ أخرى أدت في النهاية إلى إسقاطه بانقلاب عسكري وقتل مؤيديه في مجزرة دموية بغطاء من الرضا الشعبي والموافقة الدولية.
ورغم أن تلك السردية تحتوي على بعض المعلومات الصحيحة التي من الممكن أن تساعدنا على فهم المشهد إذا وُضعت في سياقها الصحيح، إلا أن الرواية الإخوانية لها تنفي أي خطأ عن الرئيس أو عن الجماعة إلا فيما يمكن اعتباره اعترافا أننا “كنا طيبين أكثر مما يجب”.
هناك عدة أزمات وتحديات يواجهها الإخوان في تلك السردية البسيطة، كما أن هناك ملاحظات يمكن أن نوجزها في الآتي:
غياب النقد الذاتي وآليات المحاسبة
على مدار سنوات طويلة من وجود الإخوان المسلمين في المعارضة السياسية، اعتمد الإخوان مبدأ التخويف من السلطة وتأجيل النقد لقمع أي محاولة للإصلاح الداخلي، وكان المبرر لرفض أي محاولات للنقد الذاتي داخل الجماعة أو محاولات الإصلاح هو أن الوقت ليس مناسبا حيث أن “الصف” -ويُقصد به أفراد الجماعة- معرض لمخاطر جمة ستزيدها خطورة محاولات النقد أو الإصلاح.
ومع نجاح الانتفاضة المصرية في إزاحة مبارك عن السلطة، حاولت قيادة التنظيم إيجاد مبررات جديدة وخلق فزاعات أخرى لتأجيل المطالبات بالإصلاح الداخلي، وخلال الأشهر التي تلت الإطاحة بمبارك بدأ الإخوان في تشكيل فزاعتهم الجديدة: “الإعلام”.
ومع الوصول للسلطة، لا يمكن القول أن شيئا قد تغير، فقد اعتبر الإخوان أن هناك مؤامرة تُحاك ضدهم دوما، ما حدا ببعض المتابعين أن يُطلق عليها لفظ “النبوءة ذاتية التحقق”، حيث أصر الإخوان على خلق الفزاعات وصناعة الأوهام التي تبرر للتنظيم تأجيل الإصلاح وترسيخ الوضع القائم حتى خُلقت بالفعل واقعا أمامهم.
ومع غياب النقد الذاتي وآليات المحاسبة داخل التنظيم، يبقى أفراد الجماعة أسرى للحظة المظلومية التي تبرر لهم اتخاذ مواقف أكثر تطرفا وجذرية في التعامل مع التنظيم باعتبار وجوده هدفا في ذاته ومع الجماعة باعتبارها المجتمع الوحيد لأفراد الجماعة في ظل لفظ المجتمع لهم.
المظلومية ولحظة “رابعة”
إن المجزرة التي نفذتها سلطات الانقلاب العسكري بحق المئات من أنصار الرئيس في ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر لم تكن لتحدث لولا “التفويض” الذي أعطاه الشعب للفريق السيسي “لمحاربة الإرهاب”، هذا ما يدركه الإخوان جيدا.
الإخوان يعلمون أنهم خسروا ملايين المصريين، بالطبع السبب -بالنسبة للإخوان- هو الحشد الإعلامي ضد الرئيس مرسي، وعندما تُغنَّى أغنية في مدح الانقسام والاستقطاب الوطني، يترسخ لدى الإخوان أنهم بالفعل “شعبٌ آخر”
وعلى الرغم من غياب العنف عن أدبيات الإخوان، والتزام الإخوان على مستوى التنظيم ككل بنبذ العنف حتى الآن، إلا أن عدم تحقق العدالة الانتقالية، بالإضافة لغياب آليات المحاسبة داخل الدولة، وفساد المؤسسات غير المنتخبة في قطاعات الجيش والشرطة والقضاء، كل هذا ينبئ بنتائج كارثية في حال استمر الأمر على ما هو عليه.
إعادة تشكل التنظيم
خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية، زاد سعار قوات الأمن تجاه الطلاب في مصر، وقتلت تلك القوات طالبين على الأقل وجرحت مئات واعتقلت عشرات آخرين أثناء وجودهم داخل حرم جامعاتهم أو في مدنهم الجامعية أو حتى داخل قاعات المحاضرات. والمتابع لوتيرة التظاهرات في مصر، ونوعية المتظاهرين والأفكار التي يتبنونها في معارضة السلطة القائمة يدرك بوضوح غياب القرار التنظيمي المركزي الذي كان يسم المشهد منذ البداية.
إن المشهد يقول أن تنظيم الإخوان يُعاد تشكله من جديد، من الأسفل للأعلى هذه المرة، فبعد عقود من سيطرة القيادات التاريخية ذات شرعية المحنة (الذين قضوا سنوات طويلة في المعتقلات الناصرية)، أو حتى شرعية المؤسسات (من انتُخبوا داخل الجماعة خلال التسعينات وبعدها)، تبدو الشرعية الثورية صاعدة في الأفق.
المظاهرات التي تلف البلاد والتي ينظمها الطلاب وشباب الجماعة، بالإضافة إلى غياب قيادات الصفوف الأولى في التنظيم إما وراء القضبان أو خارج البلاد أو مختفين عن أعين الأمن غير قادرين على إدارة المشهد، تثبت أن التنظيم يتغير.
الديمقراطية كخدعة كبرى
كان بيان الانقلاب العسكري الذي ألقاه وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي متوقعا للكثيرين، لكن الغريب كان دعم “أنصار الدولة المدنية” لانقلاب الجيش، وعلى مدار العام الذي حكم مرسي خلاله البلاد، رأى الإخوانُ الكثيرين ممن يُقدمون أنفسهم على أنهم ليبراليين أو علمانيين يطالبون بتدخل الجيش “لإنقاذ البلاد من حكم الإخوان”.
السردية التي يؤمن بها الإخوان تقول فيما تقول أنه بمجرد نجاح الرئيس مرسي في الوصول إلى السلطة، فإن الليبراليين والعلمانيين في مصر كانوا قد قرروا إسقاطه، باختصار: “الديمقراطية تمر فقط عندما تأتي بمن نريد، ونحن لا نريد الإسلاميين”
وبالنظر إلى عامل غياب النقد الذاتي، تبدو المؤامرة منطقية للغاية، وتبدو مسيرة الرئيس مرسي خالية من الأخطاء إلا فيما ندر، ولذلك فإن احتمالات كفر الإخوان بالديمقراطية كوسيلة لتداول السلطة تتزايد، وفي هذه الحالة يبدو أن إقصاء الإخوان عن الساحة السياسية في مصر لن يؤدي إلا إلى زيادة قتامة الوضع السياسي ويطرح المزيد من الاحتمالات الأسوأ.
وبالنظر كذلك إلى لحظة المظلومية، تبدو محاولات إدماج الإخوان في العمل السياسي من جديد من قبيل العبث، فمع عدم الثقة في العملية السياسية برمتها، بالإضافة إلى الإحساس الشديد بالخذلان بل وبلفظ المجتمع للجماعة وأفرادها واعتبارهم “شعبا آخر” يبدو من غير المنطقي السعي لدمج الإخوان في العملية السياسية الحالية قبل الوصول لحالة من التوافق المجتمعي التي تعقب عادة تطبيق آليات فعالة للعدالة الانتقالية.