اتَخَذ الإعلان عن إنشاء وكالة استخبارات وطنية تحت إشراف رئاسة الجمهورية التونسية بقصر قرطاج شكل جملة عرضية، المتحدث أو “مُسرِب” النبأ كان مدير الديوان الرئاسي سليم العزابي، أما المناسبة فكانت تقديم ملامح ميزانية الرئاسة لسنة 2017 أمام أعضاء لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب يوم الجمعة الـ4 من نوفمبر، ليرفد العزابي بالقول إن النظر في إرساء هذه الوكالة وشكلها القانوني سيكون خلال اجتماع مجلس الأمن القومي الإثنين الـ7 من نوفمبر.
نواب الشعب في لجنة الحقوق والحريات وربما الصفة الأصدق تعبيرًا عن وضعهم هي أعضاء مجلس النواب (الثابت عضويتهم للمجلس أما جدارة النيابة والتمثيل ففيها نظر) لم يحمّلوا أنفسهم عناء مساءلة المدير برتبة وزير عن ملامح هذا الهيكل وعن سبب الإعلان الفجائي عنه دون سابق حوار ولو بيْن المختصين أو السلطتين التنفيذية والتشريعية فقط دون إنزاله إلى مرتبة الحوار المجتمعي أو الإعلامي نظرًا لخصوصية الملف وحساسيته.
صلاحيات دستورية، ولكن…
منح شهادة ميلاد وكالة الاستخبارات الوطنية سيكون في يوم له دلالاته الرمزية، فالـ7 من نوفمبر في تونس هو ذكرى انقلاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ذي التكوين والماضي المهني العسكري على ولي نعمته الحبيب بورقيبة، وذلك هو مكر التاريخ في أحد تجلياته، أما المانح فهو مجلس الأمن القومي (نص عليه الدستور في فصله السابع والسبعين) الذي يترأسه رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، ويُدْعَى له رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الحكومة (والدستور هو المستعمل لعبارة دعوة رئيسي الحكومة والبرلمان) ويحضره وزراء الدفاع والداخلية والعدل وقيادات القوات المسلحة والأمن الداخلي.
ويُعد إنشاء مثل هذه الهياكل من صميم صلاحيات رئيس الجمهورية الذي كفل له الدستور اختصاص “ضبط السياسات العامة في مجال الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة” (الفصل 76)، فضلاً عن كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة والمخول دستوريًا بإحداث وتعديل وحذف المؤسسات الراجعة له بالنظر بحكم الاختصاص.
فمن الناحية الدستورية لا يوجد أي مانع لاتخاذ مثل هذا الإجراء بإنشاء وكالة استخبارات وطنية تكون هيكلاً يضم عسكريين وأمنيين ومدنيين، ومن المنتظر أن تكون الوكالة الأعلى كهيكل مختص مقارنة بالهياكل الاستخباراتية المتخصصة بجمع المعلومات وتحليلها والراجعة بالنظر إلى وزارات الدفاع (جيش) والداخلية (أمن) والمالية (ديوانة)، وباعتبار الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية عليها سيكون المرجع الأعلى والأخير عليها، وسيكون من حقها بل من واجبها الانتباه إلى كل مسؤولي الدولة وقبل ذلك الاهتمام بالملفات الكبرى، وليس التفصيلية ذات الصِلة بالإرهاب والأمن القومي عمومًا بكل تمظهراته وتجلياته.
لكن من الناحية السياسية من الضروري الانتباه إلى خصوصية الوضع السياسي في تونس وهشاشة المشهد وقابليته للتأثر بالقرارات ذات الصبغة الاستراتيجية، خاصة وأن دعوات كثيرة صدرت من سياسيين وفقهاء دستوريين بتغيير النظام السياسي في البلاد من برلماني معدل أو رئاسي معدل إلى رئاسي، بل إن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي لم يخف انتقاده للنظام السياسي المنصوص عليه في الدستور محملاً إياه مسؤولية عدم الاستقرار وتلميحاته إلى ضرورة تعديله خاصة وأن الشعب التونسي تعود على النظام الرئاسي لأكثر من خمسة عقود.
أبعد من وكالة الاستخبارات
المقاربة السياسية في التعاطي مع موضوع بعث وإرساء وكالة استخبارات وطنية تحت إشراف رئاسة الجمهورية تستدعي استقراء منهج رئاسة الجمهورية في التعاطي مع الدستور أولاً ومع المشهد السياسي ثانيًا.
ففيما يتعلق بالدستور غدا من المألوف اتهام مؤسسة الرئاسة بخرق الدستور وفي الحد الأدنى التلاعب به والتحايل (العبارات استعملها قادة المعارضة سواء في الجبهة الشعبية أو حراك تونس الإرادة أو التيار الديمقراطي) من ذلك المبادرة الرئاسية لتغيير حكومة الحبيب الصيد بحكومة يوسف الشاهد ومشروع قانون المصالحة الاقتصادية ومسه لمبادئ العدالة الانتقالية المدسترة.
هذه السوابق وغيرها تجعل من المشروع النظر بعين الارتياب لهذه الخطوة والنظر إليها كمحاولة لتكريس صلاحيات أوسع وأكبر لرئيس الجمهورية على أرض الواقع من خلال “الاتكاء” على الدستور واستثمار صلاحياته إلى الحدود القصوى والعمل على جعل صلاحيات رئيس الحكومة ضامرة إلى الحدود الدنيا، فرئيس الحكومة مجرد “مدعو” بحكم الدستور أما استشارته الوجوبية التي نص عليها الدستور كذلك فتكون بعدية وللإعلام فقط.
أما بخصوص المشهد السياسي، فإن رئيس الجمهورية لم يخف ولو في مناسبة واحدة حرصه على لم شمل حزبه الذي استقال منه شكليًا من ناحية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار من ناحية أخرى أن الرؤساء الثلاث للجمهورية والحكومة والبرلمان ينتمون إلى حزب النداء المتشظي كهيكل ولكنه ماسك فعليًا بمفاصل السلطة، ومجلس الأمن القومي لا يحضره إلا الرؤساء الثلاث (ينتمون إلى نداء تونس) فيغدو من المشروع التساؤل عن دور أحزاب الائتلاف في صياغة القرارات الاستراتيجية ذات الصِلة بمقاومة الاٍرهاب والأمن الداخلي والإقليمي والعلاقات الدولية، ويصبح من المشروع التأكيد على أن النظر إلى المبادرات السياسية من زاوية دستورية فقط يعتبر قصورًا وحجبًا للرؤية، رؤية البلاد وهي تسير نحو النظام الرئاسي بفضل تأويل الدستور وليس تنقيحه.