لم تكفِ 10 أيام من العدوان المتواصل على قطاع غزة، واستهداف المدنيين والأحياء والمباني السكنية، لتوقظ الاحتلال من سعار صدمته وضربته الموجعة التي وجّهتها إليه المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حتى انتقل من هدم البيوت على رؤوس ساكنيها، إلى استهداف مستشفى على رؤوس الكوادر الطبية والمرضى بل الموتى الذين امتلأت بهم الثلاجات والممرات، وعائلاتهم التي جاءت إلى المستشفى لتنقل مريضًا أو تأخذ شهيدًا لدفنه.
استهدفت طائرات الاحتلال مساء يوم الثلاثاء، 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كما بات معروفًا، مستشفى الأهلي العربي أو المعمداني، لتقتل أكثر من 500 إنسان جُلّهم أطفال ونساء ومرضى وتخلف مئات الجرحى، في أكبر مجزرة في تاريخ قطاع غزة، بل حتى ضعف مجزرة قرية دير ياسين في القدس المحتلة خلال النكبة الفلسطينية عام 1948، حين ارتقى 250 فلسطينيًّا على يد عصابات الاحتلال.
“لم يردّ أحد على الهاتف”
بين جثامين ضحايا القصف، عقدت وزارة الصحة في قطاع غزة مؤتمرها الصحفي، لتعلن للعالم عن كذب وخداع مارسهما الاحتلال قبل استهداف المستشفى، وقبل المجزرة التي حولت الفلسطينيين إلى أشلاء، وخرقت أهم بنود القانون الدولي بالنزاعات بأن استهداف المرافق الطبية جريمة حرب.
وقال وكيل وزارة الصحة في قطاع غزة، يوسف أبو الريش، إن جيش الاحتلال حذّر المستشفى الأهلي المعمداني بقذيفتَين قبل يوم من قصفه، داعيًا العالم إلى اتخاذ موقف من جرائم “إسرائيل” وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة، مضيفًا أن إدارة المستشفى المعمداني اتصلت بمطران الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا وأبلغته بواقعة إلقاء القذيفتَين، مؤكدًا أن المطران سارع بإبلاغ المؤسسات الدولية المعنية كافة، ثم بعث رسالة طمأنة للمستشفى وطلب من إدارته مواصلة العمل.
وأكد أبو الريش في المؤتمر الصحفي، أن ممثل منظمة الصحة العالمية في القطاع سأل جانب الاحتلال عن أسباب عدم تحذير المستشفى قبل قصفه، فأجابه مسؤولو الاحتلال بأنه تم الاتصال على الهاتف ولم يرد أحد فتمَّ التحذير من خلال هذه القذائف، وسألوه لماذا لم يخلوا المكان فورًا.
الاحتلال يكذب والإعلام الغربي متواطئ
رسالة خاطفة نشرها المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي عبر قناته لحظة استهداف المستشفى، بأن الجيش حذّر مستشفى المعمداني و5 مستشفيات أخرى بالإخلاء بسبب نية الاحتلال قصفه، لكنه سارع إلى حذفها بل حتى تكذيبها، من ثم تغيرت رواية الاحتلال إلى أن “تنظيم الجهاد” مسؤول عن عملية إطلاق فاشلة للصواريخ أصابت المستشفى.
وفي الدقائق الأولى للمجزرة، سارعت صفحات الاحتلال الرسمية والإعلام العبري وحتى اللوبي الصهيوني في الدول الغربية، إلى ضخّ أكبر عدد من المنشورات بأن مجزرة المستشفى هي نتيجة سقوط صواريخ المقاومة، وأن الاحتلال بريء من ارتكاب هذه المجزرة، واتهم رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الفصائل الفلسطينية في غزة بقصف المستشفى المعمداني.
وفي انسياق مع رواية الاحتلال، تواطأ أيضًا الإعلام الغربي، الذي عنونت صحفه وقنواته بالخط العريض “تبادل الاتهامات بين حماس وإسرائيل حول مسؤولية إطلاق المستشفى”، وكذّبت مشاهد القصف أو حاولت أن تشكّك فيها، لكن تغطيتها للعدوان تكشف منذ اللحظة الأولى تواطؤها، حين عنونت “بي بي سي” البريطانية قبل القصف: “هل تبني حماس أنفاقًا تحت المستشفيات والمدارس؟”، قد يكون عنوان القناة البريطانية والإعلانات المموّلة للوبي الصهيوني في الدقائق الأولى للمجزرة التي تحمّل المقاومة المسؤولية، هي الصدفة في علم اللامنطق.
بايدن: من كذبة إلى أخرى
أثناء ارتكاب المجزرة، كان رئيس الولايات المتحدة جو بايدن يستعد للسفر إلى مدينة تل أبيب المحتلة، مهرولًا إلى الاحتلال لدعمه في قتل الفلسطينيين بقطاع غزة، ومحاولة لإقناع الدول العربية بمخططات التهجير إلى سيناء، وليشدَّ على يد “إسرائيل” بعد “اليوم الأسود” الذي كتبته المقاومة للاحتلال في عمقه.
فور وصوله، في مؤتمر صحفي يجمعه مع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، يؤكد بايدن أن زيارته للتأكُّد من امتلاك “إسرائيل” ما تحتاجه للردّ على “هجمات حماس”، أو بكلمات أخرى حقيقية ما تحتاجه لقتل الفلسطينيين نساء وأطفالًا وشبانًا في قطاع غزة.
أما المجزرة التي عبقت الجو برائحة الدماء، فيبدو أنها لم تصل إلى طائرة بايدن خلال تحليقه فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ إنه خاطب نتنياهو: “حزنت وغضبت بشأن الانفجار في المستشفى المعمداني، ويبدو أن الجانب الآخر وراء ذلك، وليس أنتم”، وذلك في تبنٍّ لرواية الاحتلال الذي تنصّل من مسؤوليته عن المجزرة.
عاد بايدين وعدل تصريحه، إذ قال على طائرة مغادرته تل أبيب نحو واشنطن، إنه لا يقول إن حماس “تعمّدت” قصف المستشفى، فهي ببساطة كثيرًا ما تفشل في إطلاق صواريخها.
اتهام الرئيس الأمريكي للمقاومة بقتل الفلسطينيين في الواقع ليس مستغربًا من بايدن، الصهيوني بالفطرة، والذي يكرر في كل مناسبة أنه لو لم تكن “إسرائيل” موجودة لأوجدوها، ليس مستغربًا من بايدن الذي حرك حاملات الطائرات عبر البحار وسيّر جسرًا جويًّا لمدّ الاحتلال بالأسلحة والذخائر، وتعهّد مرارًا وتكرارًا بإبقاء التفوق العسكري الإسرائيلي قائمًا.
منظمة العفو الدولية قالت إن العديد من صور قذائف الفوسفور الأبيض التي ألقيت على قطاع غزة، هي قذائف مدفعية M825 وM825A1، والتي تحمل أيضًا اسم D528، وهو رمز تعريف وزارة الدفاع الأمريكية (DODIC) للقذائف المستندة إلى الفوسفور الأبيض.
كما أظهرت صور لصاروخ سقط على قطاع غزة في إحدى الغارات الإسرائيلية أنه يحمل اسم (Bomb MK-80)، وهي إحدى القذائف التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، وهو ما يكمل المشهد هنا، فكيف لأمريكا التي قتلت المدنيين واستهدفت المستشفيات في العراق وأفغانستان وسوريا، أن تصدق أن جريمة المعمداني جريمة حرب؟
كيف استقبل العالم نبأ المجزرة؟
في الساعة الأولى من ارتكاب مجرزة المعمداني، خرجت مسيرات غضب منددة بالمجزرة، اتجهت نحو سفارات الاحتلال وأمريكا حيث وُجدت في الدول العربية والإسلامية، وحاولت اقتحامها وأشعلت النيران حولها، لولا أن قمعتها ومنعتها الأجهزة الأمنية كما في الأردن ولبنان وحتى في إسطنبول.
وبشكل رسمي، أصدرت كل من قطر والسعودية والأردن وتركيا ومصر والجزائر والعراق ولبنان والبحرين وسلطنة عمان وإيران والإمارات وموريتانيا، بيانات إدانة للمجزرة الإسرائيلية لمستشفى المعمداني في غزة، تراوحت بين الاتهام المباشر للاحتلال واتهام خجول يدعو الطرفَين إلى ضبط النفس.
كما أُلغيت القمة الرباعية المقرر عقدها بين الأردن ومصر وأمريكا والسلطة الفلسطينية في عمّان احتجاجًا على مجزرة المستشفى، وقال وزير الخارجية الأردني إن الأطراف العربية المشاركة قررت عدم عقد القمة الرباعية، لأن واشنطن لن تكون قادرة على اتخاذ قرار بوقف الحرب، بعد الجريمة النكراء في قطاع غزة.
حتى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي كان يصافح قبل ساعتَين من المجزرة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين بابتسامات وضحكات، ولم تستطع دماء غزة أن تقنعه حتى ادّعاء الحزن أمام الكاميرات، أعلن عن عدم مشاركته القمة العربية، وليس من الأكيد هل المجزرة السبب أم الاحتجاجات الغاضبة في مدن الضفة تنديدًا بالمجزرة والتي هتفت برحيله، وقتلت خلالها الأجهزة الأمنية طفلة في مدينة جنين، كما قمعت المتظاهرين في المدن المختلفة.
ودعت إيران إلى فرض حظر نفطي على الاحتلال وطرد سفرائه من دول العالم، كما قال الاتحاد الأفريقي إن القصف الإسرائيلي لمستشفى المعمداني بغزة جريمة حرب، أما منظمة التعاون الإسلامي وصفت المجزرة الإسرائيلية بأنها “إرهاب دولة منظم وجريمة حرب”.
أما الاتحاد الأوروبي، الذي هاجم حماس بكل طاقته وأعلن وقوفه إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد غزة، وأصدرت بعض دوله قوانين حظر العلم الفلسطيني والمظاهرات المؤيدة لفلسطين، وجد نفسه مضطرًا لإدانة المجزرة، لكنه كما الإعلام الغربي أصدر تصريحات عامة أدانت قتل المدنيين، وترك تحديد المجرم مفتوحًا، كما فعلت بريطانيا وإيطاليا وفرنسا ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
أما روسيا، التي صرح فلاديمير بوتين في أول أيام المعركة ان الاحتلال هو سبب كل ذلك، وأن لفلسطين الحق في مقاومتها، والذي أطلق مشروعًا في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، لم يجرؤ على اتهام الاحتلال صراحة بالمجزرة، حيث قال وزارة الخارجية الروسية إنه يتعيّن على “إسرائيل” تقديم صور الأقمار الصناعية لإثبات عدم تورطها في الهجوم.
وعلى السياق ذاته، نددت الأمم المتحدة بأمينها العام ومنظمة الصحة العالمية بالمجزرة، دون أن توجّه اتهامًا مباشرًا للاحتلال، هذه المؤسسة ذاتها التي صرحت أن الاحتلال شنَّ 58 هجومًا على مرافق طبية ورعاية صحية في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وأن هجمات الاحتلال أدّت إلى استشهاد 16 عاملًا في مجال الرعاية الصحية وإصابة 28 آخرين، وإلحاق أضرار بـ 26 مستشفى ومنشأة رعاية صحية أخرى، بما في ذلك 17 مستشفى و23 سيارة إسعاف، وأن 4 مرافق صحية -جميعها في بيت حانون، ومؤسسة حمد للتأهيل، والكرامة، والدرة شمالي قطاع غزة- لم تعد قادرة على العمل.