اعتادت الدولة العثمانية على اقتباس سماتها الثقافية والعلمية من الدول الأخرى، ومنذ السنوات الأولى لحكم السلطان محمد الفاتح بدأت الإنجازات العلمية العثمانية بالظهور والتطور، حتى وصلت إلى نقطة يمكنها فيها التأثير على المراكز العلمية الأخرى، لكن لا شك أن اكتشافاتهم العلمية استندت على التقاليد والاهتمامات العلمية الإسلامية السابقة، تحديدًا على أنشطة العلماء الذين جاؤوا من مصر وسوريا والعراق وإيران وتركستان.
ازدهرت الحركة العلمية داخل مدن عثمانية معينة مثل بورصة وإدرنة وإسطنبول وأماسيا وسراييفو، وأصبحت مركزًا للأنشطة العلمية التي شكلت الهوية الثقافية والإرث العلمي لتركيا الحالية. يذكر، أن جزءًا كبيرًا منها تأثر أيضًا بالحركة الفكرية في دول شمال أفريقيا والبلقان، وأهمها:
علم الفلك
نجح العلماء العثمانيون نجاحًا ملحوظًا في تطوير المعارف العلمية، مثل علم الفلك الذي كان يعتبر عاملًا هامًا في الثقافة الدينية، وبشكل ما، كان الإسلام هو الدافع وراء ازدهار هذا العلم، بسبب استناد الشعائر الإسلامية عليه في تحديد مواقيت الصلاة والصيام شهر رمضان.
ويعد المرصد الفلكي – الموقع الذي يعمل فيه الفلكيين وتحفظ بداخله التلسكوبات- من أبرز المؤسسات العلمية التي أسست في أوائل القرن التاسع، وبعد ظهور الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر تم تأسيس مرصد خاص بالدولة العثمانية في إسطنبول، وسمي “مرصد توبهاني” وكان برعاية السلطان مراد الثالث ورئاسة تقي الدين الشامي الذي كتب في تلك الفترة أكثر من 30 كتابًا في الرياضيات وعلم الفلك والطب.
كان لهذا النوع من العلوم مكانة مهمة في الحضارة العثمانية، فلقد تضمنت هذه المؤسسات مكتبًا باسم “منجيم باشيليلك” أي رئيس الفلكيين وهو المسؤول عن إدارة العاملين في هذا المجال، ومن أهم وظائفه إعداد التقاويم السنوية، وتحديد أوقات الصيام قبل شهر رمضان، وعمل على إنشاء أزياج لوصف حركة الشمس والقمر وحركاتها، وتحضير الجداول الفلكية للسلاطين والمسؤولين البارزين. إضافة إلى مكتب “موقت الناس” أي حافظ الوقت وهو المسؤول عن حفظ مواقيت الصلاة، وكانت مكاتبهم تقع في ساحات المساجد في كل مدينة، وكان الشخص الحافظ للوقت يدعي “موقت”، وفيه 16 موظفًا، منهم 8 مراقبين و4 كتاب و4 مساعدين.
كان هذا المرصد هو أول وآخر مرصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، أنشئ بدعم مالي كامل من السلطان مراد الثالث وبدأ بالعمل من عام 1573 حتى 1580، إذ تم تدميره لأسباب دينية
وكان هذا المرصد هو أول وآخر مرصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، أنشئ بدعم مالي كامل من السلطان مراد الثالث وبدأ بالعمل من عام 1573 حتى 1580، إذ تم تدميره لأسباب دينية والتي جاءت بناء على فتوى هدم المرصد من مفتي السلطنة شمس الدين أحمد بن بدر الدين، الذي توفي في منتصف عام 1580، أي بعد بضعة شهور فقط من الهدم. والذي كتب: “إن قرار الهدم يعبّر بالدرجة الأولى عن اعتقاد فقهي – ديني بعدم شرعية الرصد والمرصد، وبحكم منصب قاضي زاده الإداري العالي مفتيًا للسلطنة، فلا بد من أن تعكس فتواه تلك إحساسه بالمسؤولية عن حماية الدين من الاعتقادات والممارسات الخارجة عن حدود الشرع أو الضارة به. لذا، فإن الفتوى بذاتها تجسّد الثقافة العلمية والدينية السائدة في ذلك الوقت، وتبيّن طرائق تفعيل مبادئ الحصانة الشرعية لحماية العقائد الدينية”، إلا أن الحقيقة تقول أن السبب كان مرتبطًا بالصراعات السياسية الداخلية.
مع العلم، أن العثمانيين دمجوا العلوم المتقدمة مع التقاليد التي كانت موجودة في مدارس علم الفلك في سمرقند والذي يعتبرها علماء الفلك والمنجمين الحجر الأساسي لعلم الفلك.
علم الجغرافيا
اهتم العثمانيون بعلم الجغرافيا وخاصة البحرية، وأضافوا ملاحظاتهم الخاصة على اكتشافات الجغرافيين المسلمين والأوروبيين السابقين، وكان لهذا الاهتمام أهداف واضحة، منها تحديد حدود دولتهم التي تتوسع باستمرار، والسيطرة على أنشطتهم العسكرية والتجارية.
وصل البحارة العثمانيون إلى المحيط الأطلسي وبلغوا بحر الهند ورسموا خرائط السواحل وأول من سطع اسمه في هذه المهنة هو المستكشف البحري أحمد محي الدين بيري والمعروف باسم “بيري ريس” أي القبطان أو القائد البحري بيري.
بيري هو أول من رسم خريطة لأمريكا، أي قبل كريستوفر كولومبس، وهو الاكتشاف الذي أذهل علماء الجغرافيا، وتقديرًا لهذه الثروة، طبعت خرائط بيري على الجزء الخلفي للورقة النقود التركية من عام 1999 وحتى 2005.
ومن أعظم إنجازاته التي خلدت اسمه في التاريخ هي الخرائط التي رسمها بدقة عالية، إذ لم يكن لها مثيل في ذاك الحين والتي عثر عليها عام 1929 على يد العالم الألماني جوستاف أدولف ديسمان، عندما قامت وزارة التعليم التركية بتكليفه لتصنيف المحتويات غير الإسلامية الموجودة بمكتبة قصر الباب العالي، وهي:
الخريطة الأولى: ضمت أجزاء مختلفة من العالم مثل إسبانيا وشرق أفريقيا والمحيط الأطلسي وأمريكا، وانتهى منها عام 1513م، ومن ثم قدمها للسلطان سليم الأول في مصر.
الخريطة الثانية: تضم الجزء الشمالي للمحيط الأطلسي وشواطئ شمال أمريكا الشمالية وشبه جزيرة فلوريدا وما يميز هذه الخريطة أنها رسمت بشكل أقرب للواقع مقارنة مع الخريطة الأولى، وانتهى رسمها عام 1528.
وبهذه الإنجازات يكون بيري هو أول من رسم خريطة لأمريكا، أي قبل كريستوفر كولومبس، وهو الاكتشاف الذي أذهل علماء الجغرافيا، وتقديرًا لهذه الثروة، طبعت خرائط بيري على الجزء الخلفي للورقة النقود التركية من عام 1999 وحتى 2005.
العلاج بالموسيقى
ووفقًا لصحيفة دايلي صباح التركية، فإن الأطباء العثمانيين قبل أكثر من 500 عام ابتكروا علاجًا لمن يعاني من أمراض عقلية وأزمات نفسية من خلال استخدام الموسيقى والعطور الطيبة والمعاملة الحسنة، الطريقة التي ينصح بها الطب الحديث.
فلقد عثر خبراء الآثار على رسومات عمرها 500 عام تعود لمرضى عقليين، وذلك خلال أعمال ترميم مشفى الأمراض النفسية والعقلية أو “دار الشفاء” كما يسميها الأتراك، في مجمع السلطان العثماني بايزيد الثاني في مدينة أدرنة شمال غربي تركيا.
ويمكن ملاحظة الرسومات الموجودة على الأحجار والتي تكشف عن أحلام ومشاعر المرضى في تلك الفترة وهي عبارة عن طيور ذات ألوان جميلة كالطاووس وحيوانات مثل الغزلان، ورسوم أخرى مثل القلاع والزوارق البحرية.
تاريخ تأسيس هذه المشفى يعود إلى عام 1488، وهي دليل على اهتمام الإمبراطورية العثمانية بالمجال الطبي، والذي عالجت فيه مرضى عن طريق أصوات المياه والإيقاعات الموسيقية والعطور، الأمر الذي بعث في نفوسهم الهدوء والاستقرار النفسي.
وفي حوار خاص لوكالة “الأناضول” مع مدير المتحف الصحي بايزيد الثاني، هاقان أقينجي، قال أنّ “الآلاف من السائحين المحليين والأجانب لا يغادرون مدينة أدرنة دون زيارة مستشفى الأمراض العقلية والنفسية بالمجمع، ويشعرون بانبهار عندما يرون كيف استخدم العثمانيون الموسيقى والعطور قبل قرون عديدة كعلاج فعال في هذا المجال”، وتابع أقينجي، “في عام 2004 منح المجلس الأوروبي، المجمَع جائزة (المتاحف الأوروبية)، نظرًا للدور المهم الذي لعبه في تاريخ الطب في هذه الفترة”، مشيرًا أن الأطباء العثمانيين استخدموا الموسيقى كعلاج في وقت كانت أوروبا تعامل مرضاها العقليين بتعسف وقسوة”.
وأضاف أقينجي، “كان المرضى بالمستشفى في هذه الفترة يخرجون في أوقات معينة إلى الحديقة للترويح عن أنفسهم واستنشاق هواء منعش، وأثناء ذلك حفروا أحلامهم وما بداخلهم من مشاعر على ما صادفوه من أجسام صلبة وجدران”.
جدير بالذكر، أن تاريخ تأسيس هذه المشفى يعود إلى عام 1488، وهي دليل على اهتمام الإمبراطورية العثمانية بالمجال الطبي، والذي عالجت فيه مرضى عن طريق أصوات المياه والإيقاعات الموسيقية والعطور، الأمر الذي بعث في نفوسهم الهدوء والاستقرار النفسي.
هذه كانت بعض الاسهامات العثمانية العلمية خلال مدة حكم امتدت ل 600 عام تقريبًا، والتي اعتمدت على المعارف السابقة وتأثرت فيما بعد بالطابع الأوروبي بسبب حركة الترجمة والبعثات التعليمية الذي نتج عنها تبادل ثقافي غير من الهوية الثقافية والسياسية للأتراك حتى يومنا هذا.