رغم الحصار المشدد الذي يعيش فيه سكان قطاع غزة للعام الـ12 على التوالي، وما صاحبه من ارتفاع خطير في مستويات الفقر والبطالة وتفاقم الأزمات الإنسانية والمعيشية التي وصلت لمرحلة “الحضيض”، يواصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس اتباع سياسية الضغط على سكان غزة حتى وصل لـ”لقمة عيشهم”.
فقضية الرواتب باتت سلاح جديد يُمسك به الرئيس عباس ويهدد باستخدامه للضغط على حركة حماس لتسليم قطاع غزة كاملًا للحكومة، قبل أن يلجأ لاتخاذ الخطوة الأكثر خطورة بإعلان قطاع غزة “إقليمًا متمردًا”، في ظل تعثر ملف المصالحة وفشل الوسيط المصري بإحراز أي تقدم.
وتسود حالة من القلق والغليان صفوف موظفي السلطة بغزة، جراء تأخر صرف رواتبهم، وعدم تمكنهم من معرفة مصير عائلاتهم أسوة بأشقائهم الموظفين في الضفة الغربية المحتلة، في تأخير بررته مالية رام الله بأنه يعود لـ”أسباب فنية”.
والغموض الذي يلف ملف رواتب موظفي غزة، ظهر جليًا بعد يومين فقط من توعد الرئيس عباس لحركة حماس بأنه في حال عدم تسلم السلطة لها بشكل كامل “الوزارات والدوائر والأمن والسلاح”، فإنه “لكل حادث حديث، وإذا رفضوا لن نكون مسؤولين عما يجري هناك”.
وأكد المراقبون أن تلك الخطوة تعزز الإجراءات العقابية التي فرضها الرئيس عباس على القطاع ومنها إحالة المئات من الموظفين إلى التقاعد بعد خفض سن التقاعد إلى 35 عامًا.
قدم عباس خلال لقائه بالوفد المصري مطالب لينقلها الوفد إلى قيادات حماس، وعلى رأسها ضرورة أن تسلم الحركة في غزة كل الأجهزة القضائية والإدارية إلى جانب الجهاز الأمني
المهلة الأخيرة
مصادر مطلعة كشفت أن الرئيس عباس منح حركة حماس مهلة 60 يومًا لتنفيذ المطالب التي أرسلها عبر الوسيط المصري أو مواجهة عقوبات تشمل قطع إمدادات الطاقة ورواتب الموظفين والتعامل مع غزة على أنه إقليم متمرد.
ونقل موقع “الجزيرة نت” القطري عن مصادر وصفها بالمطلعة ولم يشر إلى هويتها أن القاهرة أبدت امتعاضها من نهج الرئيس عباس – الذي وصفته بالمتشدد – تجاه الوضع في قطاع غزة وحركة حماس، كما طلبت السلطات المصرية من عباس عدم التمادي في انتقاد الإدارة الأمريكية لتسهيل مهمة الدول العربية في إقناع واشنطن بإدخال تعديلات مهمة على “صفقة القرن”.
وكشفت المصادر أن الرئيس الفلسطيني التقى في رام الله مؤخرًا الوفد المصري برئاسة القائم بأعمال جهاز المخابرات المصري اللواء عباس كامل، حيث قدم عباس مطالب لينقلها الوفد إلى قيادات حركة حماس، وعلى رأسها ضرورة أن تسلم الحركة في غزة كل الأجهزة القضائية والإدارية إلى جانب الجهاز الأمني.
وتضمنت المطالب ضرورة تمكين حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله من مفاصل قطاع غزة، مع رسالة تهديد ضمنية حمّلها عباس للوفد المصري تشتمل على عقوبات تفرضها السلطة الفلسطينية على حركة حماس إذا لم تنفذ المطالب.
القيادي في حركة حماس يحيى العبادسة: قال “سياسة قطع رواتب الموظفين هي تعدٍ على الحقوق العامة”، لافتًا إلى أن “إجراءات الرئيس عباس مؤذية ومدمرة وتسيئ لشعبنا، وتأتي استجابة للضغوطات المتعلقة بصفقة القرن ومحاولة لإيصال الناس لحالة من اليأس تمهيدًا لتمرير صفقة القرن”، على حد قوله.
تخصم السلطة منذ أكثر من عام ما بين 30- 50 % من رواتب موظفيها في غزة دون الضفة، بذريعة الأزمة المالية وتداعيات الانقسام الداخلي
وأضاف “الإجراءات العقابية التي ينتهجها عباس وسياسة قطع الرواتب بحق أبناء القطاع هي تمادي في تعذيب شعبنا الفلسطيني”، مضيفًا بأن “هذه الإجراءات هي خدمة للاحتلال ومحاولة يائسة لإشغال شعبنا بقضاياه اليومية”.
واستطرد قائلًا: “الرئيس الفلسطيني يعاقب شعبه في الوقت الذي ينجز فيه شعبنا أعظم إنجاز ويقدم ثورة من أعظم ما يكون ويهزم الاحتلال من خلال مسيرات العودة”، متسائلًا في ذات الوقت، هل هكذا يجازى الشعب بأن يتم طعنه في الظهر؟
وفي معرض سؤاله عن الأنباء التي تتحدث عن أن الرئيس عباس منح حركة حماس مهلة 60 يومًا لتنفيذ المطالب وإلا فسيعلن غزة إقليمًا متمردًا، قال العبادسة: “هذا كلام فارغ”، مردفًا “من المفترض أصلًا أن يسلم الضفة الغربية لشعبه حتى يأخذ الشعب الفلسطيني في الضفة زمام المبادرة كما أخذوها في غزة”، حسب قوله.
وتابع قائلًا “الرئيس عباس عينه على السلاح، وما لم ينجزه الاحتلال في أربعة عدوانات على غزة وما لم ينجزه الآخرون، يريد أن ينجزه هو من خلال حالة التجويع”، معتبرًا أن ما يقوم به الرئيس عباس هو جرائم ضد الإنسانية.
وأضاف “الرئيس عباس يريد أن يفصل الضفة الغربية عن غزة وأن يفتت الوطن، الأمر الذي لن نسمح أن يحصل على الإطلاق”.
وتخصم السلطة منذ أكثر من عام ما بين 30- 50% من رواتب موظفيها في غزة دون الضفة، بذريعة الأزمة المالية وتداعيات الانقسام الداخلي، وهو ما أثار استياءً شديدًا لدى الموظفين.
رأى الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب أن قطع الرواتب سوف يهدد إمدادات الكهرباء والوقود لمحطة التوليد، كما سيوقف السداد الآلي لفاتورة الكهرباء
الانهيار القريب
وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي ماهر الطباع: “قطع رواتب الموظفين بغزة سيكون له انعكاسات خطيرة جدًا على الواقع الاقتصادي، فالقدرة الشرائية في المحال التجارية والأسواق تكاد تكون شبه معدومة؛ الأمر الذي سيتسبب في حالة شلل تام في الأنشطة الاقتصادية كافة”.
ويؤكد أن قطع الرواتب سيسبب نقصًا كبيرًا في السيولة النقدية، كما أن الموظفين سيكونون غير قادرين على دفع فواتير الكهرباء والمياه والإنترنت والهاتف والجوال، ووفق ما ذكره فإن نسبة البطالة وصلت إلى 43% وهو الأعلى عالميًا، موضحًا أن الوضع الاقتصادي بغزة على حافة الانهيار وصعب جدًا ويجب إنقاذه.
في حين رأى الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب أن قطع الرواتب سوف يهدد إمدادات الكهرباء والوقود لمحطة التوليد، كما سيوقف السداد الآلي لفاتورة الكهرباء، وسينتج عن قطع الرواتب أيضًا عدم القدرة على دفع الفواتير وعدم القدرة على شحن عدادات مسبقة الدفع.
كما يرى أن قطع رواتب موظفي السلطة بغزة سينتج عنه تراجع خطير في إيرادات شركة توزيع الكهرباء، وستتعثر في سداد الفاتورة المالية لصالح مالية رام الله، وبالإضافة إلى عدم القدرة على دفع الوقود المصري وبالتالي عدم تشغيل المحطة.
شوهدت طوابير من الموظفين الغاضبين أمام أجهزة الصرف الآلي للبنوك في غزة، آملين تقاضي رواتبهم وسط موجة من الأحاديث المختلفة حول قرب صرف الرواتب أو قطعها وتأخيرها
وفيما يتعلق بأهم النتائج المتوقعة لقطع الرواتب، يقول أبو جياب: “وقف أشكال الديون كافة في المحال التجارية للمواطنين، ووقف كل أشكال معاملات القروض والاستدانة من البنوك ومؤسسات الإقراض، وغياب ظاهرة التكافل الاجتماعي المالي لقلة ما في اليد، وأيضًا غياب المسؤولية المجتمعية لدى شركات القطاع الخاص”.
كما توقع أبو جياب، انهيارات شاملة في المنظومة الاقتصادية لكبرى الشركات، وتهديد أمن واستقرار المجتمع الغزي، وانعدام وتوقف شبه كامل للحركة التجارية داخليًا على معابر غزة، كما ستتحول ظاهرة الشيكات المرتجعة إلى حالة عامة والشاذ منها هو ما يصرف”.
وشوهدت طوابير من الموظفين الغاضبين أمام أجهزة الصرف الآلي للبنوك في غزة، آملين تقاضي رواتبهم وسط موجة من الأحاديث المختلفة عن قرب صرف الرواتب أو قطعها وتأخيرها.
وتأخرت رواتب الموظفين العموميين لقرابة أسبوع، دون أن توضح الحكومة الفلسطينية أسبابًا لذلك، على الرغم من خروج إشاعات مرتبطة بفرض عقوبات على غزة وقطع الرواتب عنهم، علمًا أن الحكومة صرفت رواتب موظفي السلطة عن شهر مارس/آذار الماضي، أمس في الضفة الغربية.
السيناريوهات الغامضة
وفي تعقيبه على هذا الملف، قال الكاتب والمحلل السياسي فهمي شراب: “اعتقاد الرئيس أو من أوهمه بأن إجراءاته الشرسة والعقابية ضد غزة سوف تجعل الناس يخرجون ضد حركة حماس ويسقطونها يعتبر أكبر كارثة ومضيعة للوقت وإفناء للعنصر البشري.
من جهته قال الحقوقي صلاح عبد العاطي: “صحت الأنباء على وقف رواتب الموظفين في قطاع غزة، فهذا عدا عن أن هذا الأمر غير قانوني وغير أخلاقي ويشكل عقوبات جماعية مدانة”
وأضاف شراب، حسب قراءتي لطبوغرافية غزة الأمنية فإن هذا لا يحصل، إضافة إلى انكشاف من الذي يحاصر غزة ويعاقبها بشكل جلي.
أما الكاتب والمحلل السياسي أكرم عطا الله، فرأى أنه لا يوجد خيارات في الوقت الحاليّ، وإنما سيناريوهات لما يمكن أن يحدث مستقبلًا وهي تتضمن 3 سيناريوهات.
وعن السيناريو الأول أوضح عطا الله أنه يتمثل في تسليم حركة حماس قطاع غزة، مبينًا أنه احتمال قليل بما سُمع بالأمس من تصريحات لقيادة حماس في غزة، أما الاحتمال الثاني وهو وارد فهو أن تدفع هذه الأوضاع باتجاه حرب تجاه “إسرائيل”.
أما السيناريو الثالث وهو الذي يرجحه عطا الله ويعتبره الأقوى، فهو يتمثل في انفصال قطاع غزة، واستمرار السلطة في قطع صلتها بالقطاع، مشيرًا إلى أن هذا الاحتمال جزء من التفكير “الإسرائيلي” بحيث تستدرج الأمور لهذا الوضع، فهي تعمل على الخيار.
وقال عطا الله “القادم سيكون أكثر صعوبة، خاصةً أن لا أحد يفكر في غزة، ولا بمعاناة المواطنين لا غزة ولا رام الله، فمعاناة المواطنين لم تكن يومًا سببًا في الضغط على القيادات والمسؤولين، بل استخدمت معاناة المواطنين لتكون طرف ضد الآخر”.
من جهته قال الحقوقي صلاح عبد العاطي: “إن صحت الأنباء عن وقف رواتب الموظفين في قطاع غزة، فهذا عدا عن أن هذا الأمر غير قانوني وغير أخلاقي ويشكل عقوبات جماعية مدانة”.
وذكر عبد العاطي أن هذا يعني تأزيم الأوضاع الفلسطينية وطعنة في وجه حراك مسيرات العودة رغم كل ما حققه الحراك السلمي لشعبنا في موجهة التحديات الوطنية ووضعت لعراقيل أمام صفقة القرن أو الحلول الإقليمية وما قدمه من تصويب المسار الوطني، واستعادة مكانة القضية الفلسطينية دوليًا، وفضح جرائم الاحتلال، مضيفًا، “يبدو أنه لا خيار إلا الاستمرار في الحراك وامتداده لكل الساحات الفلسطينية موحدين من أجل فرض إرادة الشعب الفلسطيني على الجميع، ووقف أي عراقيل داخلية فيكفي الشعب ما تحمله من أخطاء وخطايا يحاول اليوم تصويبها بإبداع فلسطيني يركز على التناقض مع الاحتلال.