على مدى العقود الماضية برزت العديد من الممالك والسلطنات التي لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل ملامح القارة الإفريقية سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، وكانت مركزًا للحضارات العريقة التي ازدهرت على مدى قرون، وتركت بصماتها في التاريخ الإنساني.
في إطار استكمالنا لملف “ممالك إفريقيا قبل الاستعمار”، الذي يسلط الضوء على التاريخ الغني والمتنوع للقارة السمراء قبل التدخل الأوروبي، نستعرض اليوم سلطنة وداي التي تعتبر واحدة من أبرز الممالك الإسلامية في منطقة وسط إفريقيا، ولعبت دورًا محوريًا في تاريخ المنطقة بفضل قوتها العسكرية وتأثيرها الثقافي والديني.
في هذا التقرير، نلقي نظرة على نشأتها وتطورها، ودورها في المشهد السياسي والاقتصادي قبل وصول الاستعمار الأوروبي إلى القارة.
نشأة المملكة
تعود بدايات تأسيس المملكة إلى مطلع القرن الـ15، التي تقع في الجزء الشرقي من تشاد وغرب السودان الحاليين، عندما بدأ الانتشار التدريجي للدين الإسلامي في وسط القارة الإفريقية، وتشكيل كيانات سياسية مستقلة صغيرة، إلا أن هذه الكيانات لم تعمّر كثيرًا نظرًا للاضطرابات والصراعات المنتشرة في المنطقة بتلك الفترة.
تزامنت هذه الصراعات مع وصول العرب إلى المنطقة، التي كان يسيطر عليها شعب “التنجر”، حيث وصل الشيخ جامع وأسس العديد من الخلاوي القرآنية، قبل أن يتزوج وينجب عبد الكريم بن جامع الذي يعتبر مؤسس سلطنة وداي.
يقول المؤرخ والرحالة محمد بن عمر التونسي في كتابه “رحلة إلى وداي“، إن نسب جامع يرجع إلى العباسيين الذين غادروا العراق فرارًا من المغول ولجأوا إلى مصر ثم ذهبوا إلى الحجاز، فمدينة شندي السودانية ثم إلى دارفور.
هاجر عبد الكريم مع والده إلى شمال السودان ثم مصر قبل أن يصل إلى الأراضي المقدسة، هناك توفي والده ليعود إلى منطقة وادي ويستمر بنفس المهمة وهي تأسيس الخلاوي القرآنية.
عُرف عبد الكريم بن جامع بصلاحه وتدينه ومعرفته الكبيرة بالدين الإسلامي، فجمع من حوله مجموعات صغيرة آمنت بفكره وتعهدت له بالولاء والطاعة، واستغل بن جامع الاضطراب الحاصل في المنطقة، وبدأ بغزو المنطقة الشرقية، فأطاح بشعب التنجر، وتدريجيًا شكّل سلطنة جديدة تحمل اسم “وداي”.
ويعود سبب تسمية السلطنة باسم “وداي” إلى أن المملكة كانت تدفع جزية سنوية لسلطنة دارفور منذ تأسيسها إلى عهد السلطان يعقوب عروس الذي حكم بين عامي 1681 و1707، وكانت لها أسماء أخرى منها دار مبك (مبا)، ودار وداي، ودار برقو، ودار صليح.
وفي سياق خططه لتقوية دولته الحديثة، قرر عبد الكريم بالزواج من ميرام آيسا، ابنة ملك التنجر داوود، بهدف تأمين سلطنته وتعزيز مركزه ومكانته، كما تزوج زيجات أخرى مع السلالات والقبائل المحلية، مثل قبائل المحاميد وبني هلبا، للمساهمة في تنمية قوته ونسبه.
توسعت المملكة على حساب باقي الكيانات السياسية المجاورة، لتصبح وداي خلال القرنين الـ17 والـ19 من أقوى الممالك الإسلامية في السودان الأوسط خلال العصر الوسيط، وامتدت حدود المملكة في ذلك الوقت إلى أم شعلوبة شمالًا وغربًا حتى بحر الغزال ومشارف بحيرة تشاد، وإلى الجنوب امتدت لمنطقة سلامات وشرقًا حتى حدود مملكة دارفور.
في عهد الملك حاروت الصغير (حكم من 1707 إلى 1747)، وخليفته محمد جودا خارف التيمام (حكم من 1747 إلى 1795) توسع نفوذ وداي إلى منطقة كانم، وإمبراطورية برنو، وقام ملوك وداي أيضًا بتثبيت حاكم على عرش مملكة فتري في الجنوب الغربي، والتي تم ضمها إلى المجال السياسي لوداي كدولة رافدة.
نتيجة هذه التوسعات المتواصلة، دخلت مملكة وداي في حرب طويلة مع مملكة دارفور، وفي كل مرة تكون الغلبة لطرف، إلى أن تم التوصل لمعاهدة سلام بين الطرفين، وأنشئت حدود رسمية ضمنت السلام بين الدولتين لما يقارب القرن من الزمان.
وبلغت المملكة أوجها في عهد الملك سابون (حكم من 1803 إلى 1813) حيث هزم جيش الباقرمي، ونصب حاكمًا حليفًا له وفرض الجزية على المملكة، كما تم إدخال ولاية دار تاما الحدودية (في الجنوب الشرقي) إلى المجال السياسي لوداي.
النظام السياسي
رغم أن ملوك وداي أسسوا شبكاتهم الخاصة وأقاموا نظامًا سياسيًا مركزيًا، إلا أنهم استفادوا من نظام حكم التنجر وخاصة مؤسساتهم، حيث تم تقسيم المملكة إلى مقاطعات يرأسها حكام من مختلف الرتب ومهمتهم الأبرز جمع الجزية/الضرائب.
كما شكلوا جيشًا من مختلف المجموعات العرقية المستقرة في المنطقة (مثل مابا، كودوي، إلخ)، بالإضافة إلى المجموعات العربية الوافدة. ويساعد الملك في الحكم مجلس من المستشارين (يتكون من العلماء والفرسان وإداريي السوق، ورئيس الحرفيين…)، وقد كان مسؤولًا عن القرارات الرئيسية مثل العدالة وإعلان الحرب، والسياسة الخارجية، وإمامًا للمؤسسة الدينية الرسمية.
أبرز مدن المملكة كانت وارا وهي العاصمة حتى منتصف القرن الـ19، وكانت لأكثر من قرنين مدينة مزدهرة اقتصاديًا وثقافيًا، يوجد بها مجمع قصور كبير محاط بقلعة تبلغ مساحتها نحو 10 هكتارات، فيما يبلغ ارتفاع جدارها الدفاعي 4 أمتار وسمكه 3 أمتار، وفي هذا المجمع قصر السلطان، وقصور زوجات الملك، والمسجد الرئيسي.
بجانب هذه المباني، وجدت العديد من الملاحق الخاصة بالحراس وحاشية الملك، ومقبرة ملكية كبيرة، وتم الانتهاء من معظم الإنشاءات من قبل خليفة الملك عبد الكريم الملك حاروت، باستثناء المسجد ومئذنته الأصلية التي يبلغ ارتفاعها 12 مترًا، والتي تم بناؤها في أواخر القرن الـ18.
سنة 1848 قرر السلطان محمد شريف نقل العاصمة إلى مدينة أبيشي، نتيجة الانخفاض الحاد في منسوب المياه بمدينة وارا، فضلًا عن الاضطرابات السياسية التي شهدتها، وتقع العاصمة الجديدة في مفترق طرق التجارة الصحراوية، وكانت أيضًا محطة مهمة في طريق الحج.
تجارة وداي
على عكس باقي ممالك المنطقة، اعتمدت مملكة وداي بشكل كبير على التجارة المحلية المتمثلة في المبادلات بين المزارعين والرعاة، إذ يجلب الفلاحون المنتجات الزراعية لمنطقة الساحل ويقومون بالتبادل مع الرعاة القادمين من الصحراء.
كما تخصص أهالي المملكة في إنتاج القماش والجلود والحديد والنحاس، وكانت لهم أسواق كبيرة في مدن البلاد يعرضون فيها منتجاتهم الحرفية، وساهم هذا النشاط التجاري في ازدهار المملكة وكانت بذلك قبلة لسكان المناطق المجاورة.
تركيز حكام المملكة على التجارة المحلية لم يُغفلهم عن التجارة الإقليمية، فجزء مهم من بضائع وداي وصلت أسواق دارفور وكانو وبرنو، وشكلت الخيول والإبل والحبوب الجزء الأكبر من تجارة وداي الخارجية، كما باعت الملح والأسلحة والجلود.
وكان لوداي نشاط تجاري مهم مع أسواق البحر الأبيض المتوسط أيضًا، ولفترة طويلة كانت بضائع وداي توجّه لهذه الأسواق عبر الفاشر، عاصمة دارفور، حيث كانت طرق وداي الشمالية مقيدة بسبب عدم قدرتها على بسط سلطتها شمالًا، ومع بداية القرن الـ19 تمكن حكام البلاد من إنشاء طريق تجاري انتهى في مدينة بنغازي الليبية.
كان الجزء الأكبر من هذه التجارة في ريش النعام، والعاج، والأقمشة المصبوغة باللون الأزرق النيلي، والجلود، والعبيد، وعرفت التجارة مع أسواق المتوسط تذبذبًا، فإن كانت العلاقات بين حكام ليبيا العثمانية ووداي مستقرة انتعشت التجارة وإن توترت العلاقات توقفت التجارة.
نشر الإسلام
لم يكن تركيز حكام وداي على الملف التجاري فقط، وإنما كان تركيزهم منصبًا على المسألة الدينية أيضًا، إذ كانوا يعتنقون الدين الإسلامي وحملوا على أكتافهم مهمة الحفاظ على الدين من البدع والفتن ونشر تعاليمه في وسط القارة الإفريقية.
وبعد توطيد دعائم الحكم، عمل حكام البلاد على نشر الدعوة الإسلامية ومحاربة الظلم والفساد، وشجعوا أيضًا على بناء المساجد في مدن وقرى البلاد وفي المدن المجاورة، وإرسال الدعاة إلى مختلف المناطق واستقبلوا طلبة العلم والعلماء.
استغلت مملكة وداي موقعها المجاور للسودان وليبيا ومصر وعلاقاتها المميزة مع الإمبراطورية العثمانية، للتحول إلى مركز رئيسي لنشر الإسلام في وسط إفريقيا، كما ساهمت في نشر اللغة العربية بالمنطقة بعد أن جعلت العربية اللغة الرسمية في دواوينها.
ومنذ بداية إنشائها، كانت وداي مركزًا رئيسيًا للتعليم في وسط السودان وكانت جزءًا من الشبكة الفكرية التي تربط العلماء من برنو وباقرمي بأولئك من الحواضر الإسلامية في الحجاز والمغرب ومصر والسودان وتونس، وهو ما يُفسّر ازدهار تجارة الورق وكتب الفقه في المملكة.
ومن أبرز مراكز التعليم في وداي، “المسيد” وتطلق على الخلوة، أي الأماكن التي تخصص لدراسة القرآن الكريم وتحفيظه، فقد كان المسيد والمسجد في مكان واحد، وبمرور الزمن انفصل المسجد من المسيد، ومن أشهر الخلاوي في وداي كانت خلوة الشيخ آدم بركة.
ونتيجة دورها في دعم الإسلام، اختار المسلمون من غرب إفريقيا أن يمروا عبر مملكة وداي في طريقهم لأداء مناسك الحج، وفي عام 1858 افتتح فيها نزل لاستقبال الحجاج، ويقال إن نحو 80 ألف حاج كانوا يمرون من المملكة.
الغزو الفرنسي
ازدهار المملكة ووجودها عند تقاطع طريقين تجاريين رئيسيين: الطريق الشرقي الغربي الذي يربط أعالي نهر النيل ودارفور مع برنو وكانو، والطريق العابر للصحراء من أبيشي (المدينة الرئيسية في وداي) شمالًا إلى بنغازي على البحر المتوسط، جعلها محلّ أنظار المستعمر الفرنسي الذي احتل جزءًا مهمًا من المنطقة.
عملت فرنسا على الاستيلاء على مملكة وداي، وضمها إلى ما يعرف باسم “إفريقيا الاستوائية الفرنسية” الذي تشكل بداية القرن الـ20، ونتيجة ذلك أمضت وداي سنواتها الأخيرة في حرب مستمرة مع القوات الاستعمارية الفرنسية الراغبة في نهب ثروات البلاد.
تقلص نفوذ المملكة نهاية القرن الـ19، نتيجة التهديدات الاستعمارية والاضطرابات في المنطقة ورغم دفاعهم المستميت عن استقلال البلاد، فإن القوات الفرنسية تمكنت من إجبار الملك محمد صالح الذي اشتهر باسم دود مورا، على الاستسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1911، وفي عام 1912 احتلت فرنسا وداي بشكل دائم.
حكمت مملكة وداي مساحة جغرافية وبيئية متنوعة تمتد عبر الصحراء القاحلة والأراضي الزراعية الغنية بحوض بحيرة تشاد، فكانت واحدة من أكبر الدول في المنطقة وأكثرهم ديناميكية، من بداية تأسيسها أوائل القرن الـ17 وحتى سقوطها في عام 1912، وبسقوطها على يد المستعمر الغربي سقطت آخر مملكة مستقلة في غرب إفريقيا.