لم تكن ممالك وسلطنات أفريقيا قبل الاستعمار الأوروبي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مجرد كيانات سياسية، إنما تميزت بقوة عسكرية وتأثير ديني في القارة السمراء، ومن أبرزها كانت خلافة صكتو.
في إطار استكمال ملفنا حول “ممالك أفريقيا قبل الاستعمار”، نخصّص هذا التقرير للحديث عن خلافة صكتو التي تأسّست في بداية القرن التاسع عشر (1804) في غرب السودان، ما يعرف اليوم بشمال نيجيريا، وأسّسها العالم والمصلح الديني عثمان بن فودي كحركة إصلاحية استهدفت تطهير المجتمع من الفساد والتقاليد التي لا تتوافق مع تعاليم الإسلام.
لم تقتصر هذه الخلافة على كونها كيانًا دينيًا فقط، بل أصبحت قوة سياسية تضمّ 30 إمارة مستقلة توحدت تحت راية الإسلام.
المؤسِّس عثمان
وصل الإسلام إلى شرق أفريقيا في وقت مبكر، وانتشر بين القبائل الكثيرة في المنطقة، لكنه مع نهاية القرن الثامن عشر بدأ يشهد تراجعًا بسبب الخلافات القَبَلية التي اندلعت بين القبائل المسلمة، وأدّت هذه الصراعات، إلى جانب تنامي التدخلات الاستعمارية، إلى إضعاف قوة الإسلام وسقوط العديد من الممالك الإسلامية.
في تلك الأجواء المضطربة، برز عالم مالكي متصوف يتبع الطريقة القادرية، يُدعى عثمان بن فودي، كان شاهدًا على تراجع الالتزام بتعاليم الإسلام، وازدياد مظاهر الشرك والخرافات بين أبناء قومه، فعمل على إصلاح الأوضاع الدينية والاجتماعية التي تفشّت في مجتمعه.
وُلد ابن فودي في بلدة طفل على أطراف إقليم جوبير شمال نيجيريا سنة 1754، ونشأ في أسرة متدينة ومثقفة، حيث إن 85% من علمائه كانوا من الآباء والأجداد والأعمام.
ينتمي عثمان بن فودي إلى قبيلة الفولاني العريقة، التي تمتلك حضورًا قويًا في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وكان أهلها من أوائل من اعتنق الإسلام في المنطقة، وساهموا في نشره بين شعوب أفريقيا الأخرى.
نشأ عثمان في بيئة علمية، حيث لازم شيوخ العلم منذ صغره، وتعلم منهم العلوم الشرعية، ما مكّنه من إتقان علوم التفسير، وأصول الدين، والحديث، حتى أصبح واحدًا من أبرز الفقهاء والمعلمين بين شعب الفولاني.
تحتفظ المكتبة العربية بأكثر من 150 مؤلفًا من مؤلفات الشيخ عثمان، تغطي مجموعة متنوعة من المواضيع مثل المنطق والتفسير والرياضيات والفقه والحكم والقانون والنحو، ومن بين أشهر أعماله: “إحياء السنّة وإخماد البدعة”، “نصيحة أهل الزمان” و”أصول الدين”، وتُظهر هذه الأعمال عمق علمه وحرصه على إصلاح المجتمع وتطبيق أحكام الإسلام.
رافق عثمان والده في رحلة إلى مكة المكرمة، حيث تزامن وصوله مع انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية، فأُتيحت له فرصة لمعاينة دعوة الشيخ عن قرب، والتعرّف إلى منهجه في تعليم التوحيد الخالص، ومحاربة البدع، والردّ على أصحاب الأهواء.
كما حضر عثمان مجالس العلم التي كان يعقدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى جانب مجالس أخرى لشيوخ وعلماء بارزين.
تأثر عثمان، القادم من غرب أفريقيا، بتلك الدعوة الإصلاحية، ما دفعه إلى البقاء في مكة فترة أطول ممّا كان مخططًا له، حيث أعاد النظر في كثير من معتقداته ومفاهيمه حول الدين الإسلام، هذه الفترة كانت محطة هامّة في تصحيح مفهومه للدين، حيث كان يتبع الطرق الصوفية ويمارس بعض البدع التي عاد لينبذها لاحقًا في مسيرته الإصلاحية.
بعد عودته من مكة إلى إقليم جوبير شمال نيجيريا، بدأ بدعوة سكان الإقليم إلى التوحيد، ونبذ البدع والاعتماد على الكتاب والسنّة، وتنقية الدين من البدع ومظاهر الشرك، والعودة إلى منهج السلف الصالح لما رآه من فساد مجتمعه الذي انتشر فيه الجهل والفسق، فاستجاب لدعوته كثير من أبناء قريته، فأسّس حركة دعوية أطلق عليها اسم “الجماعة”.
خرجت دعوته من النطاق المحلي الضيق إلى النطاق الإقليمي الواسع، وبدأت بالانتشار بين القبائل الأفريقية في غرب القارة، ودخل فيها أفراد من عدّة فئات كالهوسا والطوارق والزنوج، فضلًا عن أبناء قومه من الفولاني الذين سيصبحون عماد الدعوة وقوتها الضاربة.
حققت دعوة الشيخ نجاحًا كبيرًا في نشر الإسلام بين القبائل الوثنية المنتشرة في المنطقة الواقعة بين نهر النيجر وبحيرة تشاد (شمال نيجيريا حاليًا)، وبفضل جهوده تمكن بسرعة من تأسيس دولة إسلامية في تلك المنطقة، ما أثار العداء ضده من قبل ملوك ممالك الهاوسا الذين شعروا بالتهديد من انتشار دعوته.
بويع الشيخ عثمان من قبل أتباعه كـ”أمير للمؤمنين”، معلنين بذلك بداية خلافة صكتو، قبل أن ينشئ بنية سياسية قوية، حيث كوّن مجموعة من العلماء والدعاة من بين أتباعه الذين تولوا نشر العلم وإدارة شؤون الدولة.
دخل عثمان في حرب طويلة مع ملوك الهوسا امتدت فترة 1804-1808، وخلالها جمع الشيخ أنصاره وقاد الجهاد ضد مملك الهوسا بصفته أميرًا للمؤمنين، وبحلول سنة 1808 سيطر على العديد من الولايات المحيطة بها، وكان معسكرهم الأبرز في صكتو الواقعة أقصى الطرف الشمالي الغربي لنيجيريا.
وبعد السيطرة على ممالك الهاوسا، انطلق الشيخ عثمان في ضمّ شعوب المنطقة ككل تحت رايته، وبدأ بالتوسع في ناحيتَي الغرب والجنوب الغربي، حيث قبائل اليورومبا الكبيرة والكاميرون وبلاد الماسنيا (مالي)، وصولًا إلى مملكة برنو التي لم تصمد في وجهه.
خلافة صكتو
وبعد تتالي الانتصارات، تحول معسكر صكتو شبه الدائم إلى مدينة وعاصمة لحكم المملكة الجديدة، وعيّنَ الأمير عثمان العديد من الأمراء لمساعدته في حكم المناطق المسيطر عليها، وكان هؤلاء الرجال غالبًا من قدامى المحاربين في حروب الفولاني ومن العلماء.
أنشأ الشيخ عثمان نظامًا سياسيًا واقتصاديًا موحدًا أثناء نشر حركته الإسلامية الإصلاحية، تهدف إلى تصحيح الممارسات الإسلامية السطحية في المنطقة، وكانت الخلافة تدار كاتحاد لا مركزي للإمارات تحت إشراف الخليفة وحاشيته في العاصمة.
توفي عثمان بن فودى عام 1818 بعد صراع مع المرض لمدة عام عن عمر الـ 63، للتوالى عدة أسماء في خلافته حتى عهد الخليفة السادس أحمد الرفاعي (حكم فترة 1867-1873)، حيث وصلت خلافة صكتو إلى أقصى اتساع لها، وغطت مساحة كبيرة من غرب أفريقيا -تمتد من بوركينا فاسو الحديثة إلى الكاميرون وتضمّ معظم شمال نيجيريا وجنوب النيجر-، وربطت أكثر من 30 إمارة مختلفة، وأصبحت واحدة من أكبر الولايات الإسلامية في القارة الأفريقية.
لم تعتمد خلافة صكتو على جيش نظامي، لكنها حمت حدودها الواسعة من خلال مواقع استراتيجية أو معاقل، وعمدت إلى حل النزاعات عبر المسؤولين المحليين، مع استخدام المحاكم لتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، كما عمل الموظفون المحليون لحفظ الأمن.
تقول بعض المراجع التاريخية إن المملكة شكّلت أكبر نظام سياسي مستقل في القارة في ذلك الوقت، وكانت الدولة الأكثر تطورًا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ما قبل الحداثة، وكانت الخلافة عبارة عن اتحاد كونفدرالي من الإمارات التي اعترفت بسيادة أمير المؤمنين، سلطان صكتو.
اعتمدت الخلافة في إدارتها للقضاء على أُسُس مذهب الإمام مالك (نسبة إلى الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة)، كما ركّز حكّام البلاد على الجانب التعليمي ومنحوه أهمية كبرى في مشروعهم الإصلاحي، فانتشرت اللغة العربية في المنطقة وأصبحت لغة أغلبية الشعب.
وأسّست الخلافة عددًا من المدن الجديدة ذات الحصون الكبيرة والمدارس والأسواق والمباني الأخرى، ورحّبت بالسكان الجدد القادمين من المناطق المجاورة، كما أنشأت الخلافة طرقًا وأسواقًا تجارية جديدة في المنطقة، ما ساهم في دعم الاقتصاد.
الاستعمار البريطاني
مع توسع الخلافة، انتشرت حركات إصلاحية في السافانا السودانية ومنطقة الساحل خارج حدود ما يعرف الآن بنيجيريا، ما أدّى إلى تأسيس عديد الدول الإسلامية في المناطق التي أصبحت في العصر الحديث، السنغال ومالي وساحل العاج وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان.
لكن في سنة 1902 بدأ زحف القوات البريطانية شمالًا نحو خلافة صكتو، بعد إحكام سيطرتها على الجنوب واحتلال مدينة لاغوس، وعقب ذلك سيطر البريطانيون على أبرز مدن الخلافة، وتزامن ذلك مع سيطرتهم على ما تبقى من إمبراطورية بورنو.
وفي سنة 1906، انتهت المقاومة المسلحة للحكم البريطاني الذي احتل المنطقة وألغى الخلافة، لكن البريطانيين حتى يسيطروا بسهولة على الأهالي احتفظوا بالمنصب الفخري للسلطان، الذي لا يزال يُعترف به في نيجيريا الحالية كزعيم ديني وروحي مؤثر.
تمّ إلغاء خلافة صكتو منذ نحو قرن ونصف، لكن مجلس السلطنة ما زال موجودًا إلى الآن، وما زال سلاطين صكتو شخصيات بارزة في المجتمع النيجيري ويحظون باحترام كبير من قبل مسلمي البلاد، وغالبًا ما يطلب رؤساء نيجيريا الحديثة دعمهم.