لفتت الإمبراطورية العثمانية قديمًا أنظار الغرب والشرق، فكانت قصورها وسلاطينها وحدائقها وجوامعها مقصدًا جذابًا للسياح والمؤرخين والأدباء الذين دفعهم الفضول للتعرف على هذه الدولة وشعبها عن قرب، فسافروا إليها وكتبوا ملاحظاتهم وانطباعاتهم عن شعبها وأخلاقه وسماته وعاداته الاجتماعية والثقافية، وراقبوا أكثر الأمور خصوصية وتفصيلًا مثل تعاملهم مع النساء والفقراء والمرضى والأجانب وغير المسلمين.
شملت بعض الكتابات الأوروبية اعترافات بتفوق الدولة العثمانية على الغرب وبتجاوزها إياهم بالثقافة والحضارة والرقي، وأشارت إلى ضرورة التعلم منها والاقتداء بمبادئها وسلوكيات شعبها، وجاءت هذه الأدلة الأجنبية من عدة مؤلفين من فترات مختلفة، وذلك لتكوين نظرة أكثر موضوعية للحياة في الدولة العثمانية.
صفات العثمانيين بين الوقار واللطافة
تعامل عدد كبير من الأوروبيين مع العثمانيين الأوائل في الشوارع والقصور والدكاكين والخانات والمساجد، كما تعاملوا مع الأمراء منهم والفقراء والأطفال، واجتمعت كتاباتهم على مجموعة من الخصال التي تصفهم بشكل عام وبأحوال مختلفة.
إذ كتب الرحالة، أوليا جلبي، واصفًا شعبه: “المجتمع العثماني يحب الضيوف، حيث يختار أفضل غرفة في المنزل من أجل استقبال الضيف وضمان راحته، كما أنهم يجهزون أجمل وأغنى الولائم للزائر”، هذا ويذكرنا بأن أول خان للمسافرين أنشئ في القرن العاشر من قبل السلاجقة في آسيا الوسطى، حيث كان يقدم لهم الطعام والشراب وخدمات أخرى مجانًا، ودون تمييز بين الجنسيات والأعراق، وذلك لاعتقاد الشعب العثماني بأن الضيف ضيف من الله ولا يجوز صده أو إهانته.
كما وصف الرحالة الأوائل العثمانيين بالجدية والتواضع البعيد كل البعد عن الغرور، فكتب المؤرخ الألماني، الكونت فرديناند مارسيجلي: “خطابات السلاطين العثمانيين، تكون الجمل فيها قصيرة، فإنهم يتعمدون الإيجاز والاختصار في كلامهم ورسائلهم”.
الدبلوماسي الفرنسي، أميدي جوبير: “العثمانيون يحترمون آباءهم لأبعد درجة، لا يجلسون أمامهم دون إذن، وكل كلمة تقال من طرف أبيهم فهي عبارة عن أمر حاسم”.
ويصف المؤرخ إيجناتيوس دوحسون، شعبه بصفاتٍ جديدة، فقال: “إن العثمانيين أمة وقورة وحسنة التربية، إنهم لا يهملون المجاملات اللطيفة أبدًا، وأيًا كانت الطبقة التي ينتمون إليها، فإن حركاتهم دائمًا تتسم بالوقور والهدوء، لا يزعجون أحدًا، قليلي الحماس والفضول، لا يمكن أن تراهم متجمعين في الشوارع أو يطارد أحدهم أحد، فلا شيء من هذا الجنون يرى في المدن العثمانية”.
ويؤكد على هذه الصفات المؤلف الإنجليزي، ثورنتون، عندما كتب: “أمة لطيفة ومفكرة، ذات هيبة ووقار وكرامة، يكرهون الضوضاء والطنين، يحبون الصمت والنوم المبكر ليستيقظوا للصلاة قبل شروق الشمس”.
ويكرر هذه الحقيقة المؤرخ الفرنسي، أوبجيني، ولكن بأسلوب مختلف، فيقول: “العثمانيون شعب جاد وذات عزيمة، حسن المظهر والهندام، طويل القامة ونظيف، يكثرون من شرب الماء، وينشغل جميعهم بأحوالهم الخاصة ولا يتدخلون في شؤون الآخرين، ويواجهون المشاكل والأزمات بالصبر والتحمل”، ويضيف “الأتراك أكثر الأمم تهذيبًا وأدبًا، أناس رائعون وأنيقون جدًا”.
وبالنسبة إلى ما يخص العائلة، كتب أوبجيني: “لم أرى أي بلد تتم فيها معاملة الأطفال بمثلِ هذه المودة والحميمية، في الشوارع تجد الأطفال على أكتاف وأذرع آبائهم حتى لا تتعب أقدامهم من المشي، ومن باب الاحترام لا ينادي الأطفال أبيهم ب “أبي” بل “الأفندي بابا” أو “الأغا بابا” أو “الباشا بابا”، عدا عن الاحترام المتبادل بين الأخوة، فينادي الصغير أخيه الكبير بـ”آبي” وأخته الكبيرة “أبلة”، وهذه الكلمات غير معروفة لدينا”.
وهذا ما أكد عليه الدبلوماسي الفرنسي، أميدي جوبير، في نفس الموضوع، حيث قال: “العثمانيون يحترمون آباءهم لأبعد درجة، لا يجلسون أمامهم دون إذن، وكل كلمة تقال من طرف أبيهم فهي عبارة عن أمر حاسم”.
وألف الرحالة الفرنسي، براير كتابًا كاملًا باسم “تسع سنوات في القسطنطينية” عن أدب ولطافة العثمانيين في كلامهم وتصرفاتهم، فكتب: “يلعب الأطفال في الشوارع بسلام، لا يصدرون أصواتًا مزعجة، ولا يبكون ولا يصرخون”، وقال أيضًا: “اللطافة عند العثمانيين، هي الطابع الوطني لديهم، فهم هادئون ونظيفون وملابسهم متناسقة، لغتهم مثالية ومنطقية ومتناغمة، فهي أشبه بالموسيقى، وعندما يتكلم الشخص، يستمع له الآخر بإنصات، لا مكان للنميمة والغيبة فهي من الأمور المعيبة والمحرمة”.
المجتمع العثماني مثال لحب الخير والرحمة
تعد الأعمال الخيرية واحدة من أكثر الأمور التي تميزت بها الإمبراطورية العثمانية، وكتب بهذا الخصوص الكثير من الصفحات التاريخية، والتي تؤكد عليها المباني الأثرية الخيرية التي ما زالت تشهد على حبهم لمساعدة الآخر وإكرامه في بلادهم.
وكتب أيضًا عن حبهم للكرم فقال جلبي “يقدم المجتمع التركي مساعدة للجميع بحسب إمكانياته، وكان يستمتع في مساعدة الآخرين من جيرانه وأصدقائه، وأنشئت الجوامع والجسور والطرق والخانات لتلبية احتياجات الناس دون مقابل مادي”.
اهتم الرحالة في الكتابة عن معاملة وتصرفات العثمانيين مع غير المسلمين والأجاناب، فسجل جاك دو فيلامونت، في كتابه “رحلات السيد فيلامونت”: “ذهبت إلى خانة تركية (موضع سكن المسافر في بلاد المسلمين)، أكلت وجلست لمدة ثلاثة أيام مجانًا، وتعامل الأتراك (المسلمين) بكل رحمة مع المسيحيين”.
وجزم بذلك، البطريك الأرمني سيمون بقوله: “العثمانيون شعب محب للخير جدًا، لا يخلو أي شارع من صنابير الماء، فلقد قاموا ببناء صنبور في كل الطرق والقرى وحتى الصحراء”.
وبشكل تفصيلي، قال الرحالة والمؤرخ الفرنسي، جون دي ذيفنوت: “أسس العثمانيون أماكن خاصة لاحتواء الحيوانات، ولا يكفُ الأثرياء منهم عن توزيع الصدقات ويمتنعون عن إفشاء أفعالهم ويستمتعون بإخفاء أعمالهم الخيرية، كما أنهم يدفعون ديون الدائن، ويراعون جيرانهم الفقراء، ولا يسمحون لأي حيوان بأن يعاني، فهناك أوقاف مخصصة للكلاب والقطط على حد سواء”.
وثق أعداد هذه المرافق والمباني المؤرخ الفرنسي جيليوم جوزيف جريلوت، في كتابه “علاقة جديدة في الرحلة إلى القسطنطينية”، فقال: “يوجد في إسطنبول حوالي مئة بناء ضخم ومشفى، و14 خان ومطعم للوافدين والفقراء، و5 آلاف و935 صنوبر ماء”، ويؤكد لنا العالم الفرنسي، فرانسوا بيتيس دي لا كروا، بأن جميع هذه الغرف والمستشفيات والنوافير والصنابير من فضل الأثرياء وليس الدولة.
وعن اعتناء الدولة بالمستشفيات يقول المستشرق الفرنسي، أنكيتل دوبيرون: “جميع المباني العثمانية رائعة، لدى العثمانيين مستشفيات ذات مبان ضخمة، لها حدائق وبرك واسعة، وتأتيها الفرق الموسيقية لترفه عن مرضاهم”.
أما عن مكانة الفقراء في الدولة، قال المؤرخ، روبرت مطران: “إن كان في الدولة العثمانية فقراء، فهم ليسوا بعدد المتواجدين في الغرب، فهنا يوجد أماكن ومساكن للفقراء ليأكلوا مجانًا، مستوى الحياة في إسطنبول يفوق الحياة في لندن أو باريس، فليس هناك لزوم للصراعات اليومية مع الحياة، فكل إسطنبولي يحظى بالأمان فيها”.
هذا، واهتم الرحالة في الكتابة عن معاملة وتصرفات العثمانيين مع غير المسلمين والأجاناب، فسجل جاك دو فيلامونت، في كتابه “رحلات السيد فيلامونت”: “ذهبت إلى خانة تركية (موضع سكن المسافر في بلاد المسلمين)، أكلت وجلست لمدة ثلاثة أيام مجانًا، وتعامل الأتراك (المسلمين) بكل رحمة مع المسيحيين”.
يقول الأديب الفرنسي الشهير بيير لوتي: “لا يوجد في العالم أي منزل تعامل فيه المرأة باحترام وإعجاب مثلما يعامل الرجل العثماني زوجته”
وفي نفس الشأن كتب الرسام والمؤلف الهولندي، كورنيل لو بروين، في كتابه “رحلة إلى بلاد الشام”: “لا يمكن الإنكار بأن العثمانيين قاموا بأعمالٍ خيرية أكثر من المسيحيين، ليستفيد منها الجميع من المسلمين واليهود والمسيحيين. كما اعتاد الغني أن يصطحب معه فقير إلى الحج دافعًا جميع تكاليفه، وكان الغني بمثابة أب للفقراء”، ويقول عن نفسه: “كنت ذاهبًا للقدس، فدعا لي أحد الأتراك، فتفاجأت وفهمت أن في الدين العثماني – يقصد الإسلام – لا يوجد تفرقة أو تمييز”.
أما عن المساواة في التعامل بين طبقات المجتمع، قال الكاتب الإيطالي، إديموند دا أمجيسي: “كن بائعًا متجولًا، كن وزيرًا، سيعاملك العثمانيون بنفس القدر من الاحترام والتهذيب، وإذا مر أوروبي من جانبهم فينظرون له بطرف عينهم ولا يراقبونه، وعندما يدخل الأجنبي إلى جوامعهم لا يلتفتون للنظر إليه، ولا يشغلونها زيادة عن اللزوم في الدكاكين والشوارع، فهذا يعد قلة احترام لديهم”.
والأمر نفسه تثبته كتابات جيرمان: “العثمانيون شعب حسن التربية لأبعد درجة، لا يوجد مثل أخلاقهم في روما أو الدول المدينة الأخرى، يتعامل التابعين للقصر الحاكم بشكل رقيق ولطيف مع الجميع بصورة لا يمكن تخيلها”، وقالها أيضًا السياسي التركي، زياد أبو زية، في كلمات مختلفة، فكتب: “لا يمكن تصور المعاملة الحسنة في القصر، حتى أنه تتم معاملة البواب والخدم وأبسط العاملين بنفس الأسلوب من الاحترام واللطافة”. وينفي الأمير ديمتريوس جانتيمر أي صفات مناقضة لهذا، فيقول: “لا يوجد للوقاحة أثر في بلاد العثمانيين، ستصادف عينك اللطافة في كل زاوية من المدينة”.
وحول أكثر القضايا حساسية في المجتمعات، سجل المؤرخون آراءهم حول معاملة المجتمع العثماني مع المرأة، فقالت سيدة كرافن: “يجب أن يعتبر العثمانيون المثال الأعلى لجميع الشعوب في معاملة النساء، حيث لا تتعرض المرأة لأدنى أذى في شوارعهم”.
ويقول الأديب الفرنسي الشهير بيير لوتي: “لا يوجد في العالم أي منزل تعامل فيه المرأة باحترام وإعجاب مثلما يعامل الرجل العثماني زوجته، والسر في المنزل العثماني هو المرأة وتحضيراتها وملابسها المرتبة وأحذيتها المطرزة، فهي دقيقة النظافة، تستخدم مواد تنبعث منها رائحة الزهور، ولا تشرب الكحول وتلعب القمار، ولا تعرف ما هي المشاجرات، وتعلق قلبها بزوجها وأطفالها والله”.