ترجمة وتحرير: نون بوست
يشير مولدي محمد علي، الذي يملك محل بقالة في العاصمة منذ حوالي عقد من الزمن، إلى مختلف المنتجات الاستهلاكية المرصوفة على الحائط على غرار معجون الأسنان وشفرات الحلاقة، والبسكويت والقهوة فضلا عن العديد من المنتجات الأخرى قائلا إن: “أسعار جل تراه من منتجات شهدت ارتفاعا منذ بداية السنة.” وأضاف محمد علي قائلا: “أما المنتجات التي لم ترتفع أسعارها، فقد شهدت تراجعا إما من حيث الجودة أو الحجم”.
تابع مولدي، الذي كان يحمل في يده لوح شوكولاتة محلية الصنع، قائلا إن حجمها اعتاد أن يكون أكثر سمكا. كما أخذ يعدد المنتجات المرصفة في الأعلى والارتفاع التي شهدته أسعارها، علما وأن مصدر رزقه يعتمد على معرفة الأسعار. بالإضافة إلى ذلك، ذكر مولدي أن “80 بالمائة من الأشخاص الذين يقتنون المنتجات من المحلات يتحسرون على عهد الرئيس السابق بن علي عندما يتم إعلامهم بارتفاع الأسعار، خاصة وأن هذه الأسعار كانت أكثر استقرارًا مقارنة بالوقت الراهن”.
إلى جانب ذلك، عندما اتفقت تونس مع صندوق النقد الدولي على قرض مدته أربع سنوات بقيمة 2.9 مليار دولار في يونيو/حزيران سنة 2016، كانت البلاد حينها لا تزال تعاني من أزمة في مجال السياحة عقب هجومين إرهابيين استهدفا البلاد خلال السنة التي سبقتها. في ذلك الوقت، شدد صندوق النقد الدولي على أن الدينار كان مبالغًا في قيمته وأنه يجب تخفيض قيمته من أجل تعزيز الصادرات وتنشيط اقتصاد البلاد.
بعد مرور سنتين على توقيع الاتفاق، تراجعت قيمة العملة التونسية بنسبة 15 بالمائة مقابل الدولار وأكثر من 23 بالمائة مقابل اليورو، كما بلغ التضخم ذروته في آذار/مارس بنسبة 7.6 بالمائة. في المقابل، ذكر صندوق النقد الدولي خلال الشهر الماضي أن الدينار سيشهد مزيدا من الانخفاض.
عموما، للانخفاض في قيمة الدينار إلى جانب الإصلاحات الأخرى، بما في ذلك تجميد الأجور وتخفيض الدعم المرتبط ببرنامج الإصلاح الهيكلي، تأثير كبير على التونسيين. بالإضافة إلى ذلك، شهدت الأسعار ارتفاعا بعد اضطرار المستوردين إلى تحمل ارتفاع التكاليف، حيث يلوم الكثير منهم صندوق النقد الدولي على الصعوبات والعراقيل التي يواجهونها.
بلغ التضخم ذروته في تونس بنسبة 7.6 في المائة في آذار/مارس
يزعم صندوق النقد الدولي أن انخفاض قيمة العملة قد يكون صعبا، ولكنه يعد تغييرا ضروريا لضمان استقرار تونس على المدى الطويل. ومن جهتهم، دق العديد من الاقتصاديين التونسيين ناقوس الخطر، إذ أكدوا أن هذا القرار من شأنه أن يضر بالبلاد. في هذا السياق، قال أستاذ الاقتصاد المساعد بجامعة قرطاج، أرام بلحاج: “لن يساعد انخفاض سعر الصرف، أو زيادة أسعار الفائدة، الاقتصاد التونسي”. وأضاف بلحاج قائلا: “يجب على صندوق النقد الدولي أن يفهم أن البعض من التوصيات لن تساعد الشعب التونسي على الخروج من هذا الوضع الصعب”.
تضارب في السياسات
ذكر صندوق النقد الدولي أن “اعتماد نظام سعر صرف أكثر مرونة سيساهم في الدفع إلى خلق فرص عمل جديدة ودعم قطاع التصدير التونسي، الذي تحسن بالفعل في الأشهر الثلاثة الأولى من هذه السنة”. لكن بعض الخبراء في الاقتصاد التونسي أكدوا أن السياسات المتبعة من قبل الحكومة تعد المسؤولة عن الضرر الحاصل، في حين أدت إلى ارتفاع التضخم وتفاقم العجز التجاري في بلد يعتمد بشدة على المنتجات الاستهلاكية والواردات الغذائية.
كتب شفيق بن روين، الشريك المؤسس ورئيس المرصد التونسي للاقتصاد، أن “انخفاض قيمة الدينار بدلا من أن يحد من العجز التجاري، كما كان متوقعا من قبل صندوق النقد الدولي، أدى إلى تعميقه”
كما أحال أرام بلحاج إلى أن “السبب الرئيسي للتضخم في تونس يتمثل في انخفاض قيمة العملة. في الأثناء، يعتبر صندوق النقد الدولي أن تقييم سعر صرف الدينار مبالغ فيه وعلينا أن نسمح بتعويم العملة. ويعد هذا الأمر بمثابة هفوة كبيرة نظرا لأن تونس تعتمد على اقتصاد منفتح للغاية. وبالتالي سيؤدي انخفاض قيمة الدينار إلى ارتفاع كبير في أسعار الواردات، التي تعد ضخمة بالفعل. ونتيجة لذلك، سيتفاقم العجز في الميزان التجاري”. وفقاً لأرقام البنك المركزي التي كشفها تقرير المرصد التونسي للاقتصاد في أكتوبر / تشرين الأول سنة 2017، تقدر نسبة الضرر التي ألحقها انخفاض قيمة الدينار بالميزان التجاري بحوالي 1.1 مليار دينار في سنة 2016. وارتفع حجم الضرر بحوالي مليار دينار في النصف الأول من سنة 2017.
حيال هذا الشأن، كتب شفيق بن روين، الشريك المؤسس ورئيس المرصد التونسي للاقتصاد، أن “انخفاض قيمة الدينار بدلا من أن يحد من العجز التجاري، كما كان متوقعا من قبل صندوق النقد الدولي، أدى إلى تعميقه”. وعمل بن روين كذلك على توثيق التوقعات التي أصدرها صندوق النقد الدولي حول قيمة الدينار، التي ساهمت بدورها في تخفيض قيمته. وأشار بن روين إلى أن “ومع تتالي المراجعات، يقدر صندوق النقد الدولي أن تكون هناك نسبة مبالغة في تقييم العملة بنحو 10 بالمائة. وقد تم توظيف مثل هذا التقدير لممارسة ضغط على البنك المركزي التونسي من أجل دفعه إلى الموافقة على خفض قيمة الدينار”.
أضاف بن روين أنه بعبارة أخرى، “عندما يصل الدينار إلى القيمة المنشودة من قبل صندوق النقد الدولي، يقدم الصندوق توقعا جديدا يقدر من خلاله أن على الدينار التونسي أن ينخفض بنسبة 10 بالمائة مرة أخرى”. من جهته، صرح مختار المهيري، المدير المالي لمجموعة توباك، الذي يرزح تحت وطأة الوضع الاقتصادي الصعب لموقع ميدل إيست آي أن شركته اضطرت إلى زيادة الأسعار بنحو ثلاث مرات في بعض الحالات نتيجة انخفاض قيمة الدينار. وتعد مجموعة توباك، شركة تغليف تستورد الآلات والمواد الخام وتبيعها على الصعيد المحلي.
قد يبدو انخفاض قيمة العملة مسألة تقنية، لكن تجلياتها تثقل كاهل المواطنين العاديين
من بين السلع التي كانت باهظة الثمن بشكل خاص هي العلب الخاصة بمنتج رقائق البطاطس. وفي هذا الصدد قال، المهيري: “إننا بدأنا بيع العلبة الواحدة منذ سنتين بحوالي 600 مليم، أما اليوم تضاعف سعرها ثلاث مرات، ليصل إلى دينار و800 مليم للعلبة الواحدة. أما بالنسبة للعميل، تستحوذ هذه العلب على جزء كبير جدا من تكلفة المنتج”. يقر صندوق النقد الدولي بأن التضخم يعود جزئياً إلى انخفاض قيمة الدينار، وستظهر تداعيات ذلك في صلب المجتمع التونسي. من جهة أخرى، اقترح الصندوق تقاسم أثقال برنامج التكيف الهيكلي في البلاد واتخاذ إجراءات لحماية “الفئة المستضعفة في المجتمع”، بما في ذلك الإعفاء من ضريبة القيمة المضافة والحفاظ على الدعم الحكومي للمواد الغذائية الأساسية.
مؤشر مهم جدا
قد يبدو انخفاض قيمة العملة مسألة تقنية، لكن تجلياتها تثقل كاهل المواطنين العاديين، حيث ظلت أجورهم على حالها على الرغم من ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدينار. وفي مطلع السنة، ظهرت بوادر موجات احتجاجية عفوية على مستوى البلاد، بعد سريان مشروع ميزانية، يأذن بزيادة الأسعار وتخفيض الدعم الحكومي. وفي خضم الاضطرابات التي جدت أوائل شهر كانون الثاني/ يناير، ساهمت حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت هاشتاغ “فاش تستناو؟”، “ماذا تنتظرون؟” في حشد حركة احتجاجية بهدف إلغاء القانون.
في ذلك الوقت، كتبت زميلة بن روين والمؤسسة المشاركة للمرصد التونسي للاقتصاد، جيهان شندول، مقال رأي في صحيفة الغارديان، ناقشت من خلاله الدور الرئيسي الذي يلعبه صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بسياسات التقشف المتبعة في البلاد، التي تغاضت عن الانخفاض الذي شهدته قيمة العملة وتأثيراته على التونسيين. في هذا الشأن، كتبت شندول، أن “تخلص تونس من حالة الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي، الذي تسبب في جعلها في وضع حرج كما ضيق الخناق على اقتصادها، أمر ضروري لإحداث تغيير حقيقي”.
المتظاهرون التونسيون في مدينة سليانة، التي تبعد 130 كيلومترا جنوب العاصمة، في كانون الثاني/ يناير
ردا على المقال أفاد صندوق النقد الدولي أن “الصندوق لا يدعو إلى التقشف. نحن ندعوا إلى مشاريع إصلاحية وقع وضعها بعانية ومنفذة بدقة، من شأنها أن تعزز التوازن الاجتماعي على حد السواء … هذه الإصلاحات الاقتصادية تعد المفتاح الرئيسي لتحقيق النمو وإرساء مبادئ الإنصاف التي يطالب بها الشعب التونسي”. من جانبهم، أفاد بعض المقربين من صانعي القرار في تونس أنه كان بوسع الحكومة استخدام ذلك المقال، الذي نُشر بعد الاحتجاجات الواسعة في جميع أنحاء البلاد، على اعتباره ورقة مساومة في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لكنها فشلت في القيام بذلك. ففي الوقت الذي كانت فيه النقابات على استعداد لمهاجمة صندوق النقد الدولي، أكدت الحكومة التونسية أن عليها محاباته.
صرح الوزير المكلف بمتابعة الإصلاحات الكبرى لدى الحكومة، توفيق الراجحي، في مقابلة في شهر آذار/ مارس أن “صندوق النقد الدولي يمثل طرفاً مهماً للغاية بالنسبة لبقية الجهات الدولية المانحة، حيث يعنى بمد الدول المانحة بتقييم للدول المحتاجة للإعانة … وهذا يفسر حاجة تونس إلى إبقاء صندوق النقد الدولي في صفها”. وأضاف، الراجحي، أن “تأييد صندوق النقد الدولي … يعطي انطباعاً جيداً عن تونس في الأسواق المالية، الأمر الذي من شأنه أن يطمئن المستثمرين”.
شملت الجهود الرامية إلى معالجة التضخم رفع البنك المركزي لأسعار الفائدة
“طبقتين اجتماعيتين فقط”
أشار بعض المراقبين إلى أن الوضع الحالي في تونس يظهر أن المسؤولين عالقون بين سياسات تنموية وتجارية منافسة ومتناقضة في آن واحد. وأفاد الباحث ماكس أيل من جامعة كورنيل، والمهتم بدراسة الاقتصاد السياسي في تونس أنه “من جهة، يجب الحفاظ على استقرار أسعار الحاجيات الأساسية، على غرار الحبوب والزيت والحليب والسكر، بالنسبة للمستهلك التونسي. ومن جهة أخرى، يؤمن التونسيون بأن النمو الاقتصادي قائم على الصادرات. ومن جهة ثالثة، يؤمنون بوجوب خفض قيمة العملة. في الواقع، يعتقد التونسيون في هذه الخطوات الثلاث في الوقت نفسه”.
وفقا لأيل، نتيجة لمثل هذه الخطوات المتضاربة، تجلت سياسة جعلت تداعيات انخفاض قيمة العملة تقتصر على الطبقة العاملة فقط. وأردف أيل أن “السياسات المتبعة من قبل الحكومة تساهم في رفع معدل التضخم، دون أن تعمل على زيادة الأجور لسائقي سيارات الأجرة، على سبيل المثال. وبالتالي، من خلال تخفيض قيمة العملة، ستصبح كل أنواع السلع أكثر تكلفة نظراً إلى اعتماد تونس على توريد العديد من المواد الاستهلاكية”.
سائقي سيارات الأجرة يحتجون في تونس، سنة 2011
لم يستجب المسؤول عن الإصلاحات الاقتصادية الكبرى لدى الحكومة التونسية لطلبات ميدل إيست آي للتعليق. ومع ذلك، شملت الجهود الرامية إلى معالجة التضخم رفع البنك المركزي لأسعار الفائدة، في الوقت الذي يخوض فيه المسؤولون مناقشات رفيعة المستوى تركز بالأساس على سبل تحسين معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في تونس واعتماده حلا للأزمة.
ينبع إيمان السياسيين بأهمية دور التصدير في تعزيز النمو الاقتصادي في تونس مما اسماه ماكس أيل “الفراغ الأيديولوجي”. ونظراً لعدم وجود نماذج تنموية بديلة، تقبل العديد من كبار المسؤولين في تونس “الفكرة التي روجت لها المؤسسات المالية الدولية فيما يتعلق بالفائدة التي سيعود بها تخفيض قيمة العملة على الصادرات التونسية”.
أقر مولدي، وهو صاحب محل بقالة، بأنه “قبل سنة 2010، كانت تونس تشمل ثلاث طبقات اجتماعية، أما الآن فلا يوجد إلا طبقتين فقط، الطبقة الفقيرة والغنية”
من جانب آخر، يتمثل أحد البدائل، التي اقترحها بعض الباحثين، في خلق مواطن عمل وتحسين المرتبات لإعادة إحياء الاقتصاد. ولكن وفقاً لأيل يصعب تحقيق هذا المبتغى على مستوى الشركات التونسية، حيث أشار إلى أن الرأسماليين لن يميلوا إلى اعتماد هذا الحل بتاتا، حيث لا ينفذون مثل هذه الخطوات إلا من خلال الضغط المتواصل عليهم”.
في الأثناء، يتزايد الضغط مع استمرار الحكومة في اتخاذ المزيد من تدابير التقشف. ووفقاً للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية الاجتماعية، الذي يعد بمثابة منظمة غير حكومية محلية تعنى بالبحوث والدفاع عن حقوق المواطنين، تم تنظيم ألفين و426 احتجاجاً في جميع أنحاء تونس خلال شهري كانون الثاني/ يناير وشباط /فبراير الماضيين فقط، كان عدد منها يتمحور حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، بينما كان معظمها بشأن الخدمات العامة.
من جهته، أقر مولدي، وهو صاحب محل بقالة، بأنه “قبل سنة 2010، كانت تونس تشمل ثلاث طبقات اجتماعية، في حين كانت نسبة الفقراء لا تتجاوز 15 بالمائة، وكان الأغنياء يمثلون 15 بالمائة، بينما تبلغ نسبة الطبقة المتوسطة 70 بالمائة، الذين كان بمقدورهم شراء اللحوم مرتين في الأسبوع”. وأردف مولدي قائلاً: “أما الآن فلا يوجد إلا طبقتين فقط، الطبقة الفقيرة والغنية… الوضع في البلاد كارثي حقاً”.
المصدر: ميدل إيست آي