في صيف 1998 أصدر الكونغرس الأمريكي قرارًا بعزل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، بعد اتهامه بالحنث باليمين الدستورية وعرقلة العدالة، على خلفية علاقته الجنسية مع المتدربة بالبيت الأبيض مونيكا لوينسكي التي استمرت بين عامي 1995 و1996 وإن لم تُكشف تفاصيلها علانية إلا بعد عامين.
وتزامنًا مع هذه الأحداث الساخنة التي عصفت بالرئيس الأمريكي ومهدت الطريق أمام الإطاحة به من فوق كرسيه، إذ بحادث استهداف السفارة الأمريكية في نيروبي ودار السلام شرقي إفريقيا، في الـ7 من أغسطس/آب من نفس العام، يطل برأسه بقوة ليقلب الطاولة ويعيد ترتيب مشهد الأولويات بالنسبة للشارع الأمريكي.
وجد كلينتون وقتها الفرصة سانحة لتحويل الانتباه وتشتيت التركيز بشأن فضيحته الجنسية التي صدمت الملايين من مؤيديه من الحزب الديمقراطي فضلًا عن معارضيه الجمهوريين من ناحية، واستعادة بعض شعبيته التي فقدت في أعقاب اعترافه بتلك العلاقة من ناحية أخرى.
وفي 20 من أغسطس/آب 1998 أصدر الرئيس الأمريكي أوامره بقصف عدة أهداف في السودان وأفغانستان بصواريخ كروز، ورغم تدمير هذه الهجمات مصنع الشفاء للأدوية الذي كانت تصنع به 50% من الأدوية في السودان، فإن الضربة جاءت بمثابة القشة التي أنقذت مستقبل كلينتون السياسي لتعيد ما فقده من شعبية، إذ تم تبرئته عام 1999 من الكونغرس من كل التهم الموجهة إليه ليكمل باقي ولايته.
الملفت للنظر أنه رغم تلك الفضيحة المدوية التي زلزلت أركان كرسي كلينتون، فإنه حين غادر المكتب الرئاسي في 2001 كان الأعلى بين رؤساء الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية في نسبة الموافقة عليه والرضى عن إدارته للبلاد من المواطنين الأمريكيين.
وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ يواجه الرئيس الحاليّ دونالد ترامب نفس المصير تقريبًا، لا سيما بعد اعتراف مايكل كوهين محاميه الخاص بتقديمه رشاوي للتأثير في نتائج الانتخابات، ورغم المفارقة بين الواقعتين، فإن البعض ذهب إلى احتمالية تكرار سيناريو كلينتون – لوينكسي مرة أخرى.
التجارب التاريخية أثبتت أن افتعال أزمات خارجية واللجوء إلى الحروب واختلاق أعداء ولو وهميين كانت البوابة الأبرز والأكتر اتساعًا لعبور الرؤساء والحكام أزماتهم وفضائحهم الداخلية
Wag the Dog”“
أطلق الشارع الأمريكي اسم “ذيل الكلب” – وهو عنوان الفيلم الذي أنتج عام 1997 وقام ببطولته روبرت دي نيرو وداستن هوفمان وأخرجه باري ليفنسون، الذي يحكي قصة افتعال البيت الأبيض حرب زائفة لصرف الانتباه عن فضائحه الداخلية – على الضربات التي شنتها الولايات المتحدة ضد مواقع في السودان وكينيا ردًا على استهداف سفارتيها هناك.
كان التزامن الواضح بين فضيحة كلينتون الجنسية وقرار شن مثل هذه الضربات الجوية مثار تساؤل وتعجب من نسبة كبيرة من السياسيين الأمريكان، وهو ما أثار الشك في نفوس بعضهم بشأن الدوافع الحقيقية وراءه، خاصة أن الضربة جاءت بعد 3 أيام فقط من اعتراف كلينتون في خطاب متلفز بأنه ضلل الجمهور بشأن علاقته مع لوينسكي.
العدو المحتمل الأقرب لشن مثل هذه الحرب هو إيران، خاصة في ظل تصاعد منحنيات التحرش السياسي والعسكري والإعلامي معها بين الحين والآخر
من الصعب إن لم يكن من المستحيل اليقين بأن قرار كلينتون كان الهدف منه التشتيت السياسي بشأن فضيحته ومحاولة استعادة بعض شعبيته المفقودة، غير أن استغلال الرجل للظرف الطارئ وسرعة اتخاذ القرار والعزف على وتر كرامة الولايات المتحدة ومكانتها عند شعبه كان العامل المؤكد الذي لجأ إليه الرئيس المعزول حينها.
ونجحت خطة كلينتون، إذ حصل قراره على دعم كبير من الحزبين في الكونغرس، الديمقراطي والجمهوري، بما في ذلك رئيس مجلس النواب وقتها نيوت غينغريتش الذي قال إن الرئيس فعل الشيء الصحيح تمامًا، وهو – وفق خبراء – ما كان له أثر كبير في تبرئته فيما بعد من كل الاتهامات الموجهة إليه ليكمل ولايته الرئاسية بعدما زادت شعبيته بصورة غير مسبوقة.
التجارب التاريخية أثبتت أن افتعال أزمات خارجية واللجوء إلى الحروب واختلاق أعداء ولو وهميين كانت البوابة الأبرز والأكتر اتساعًا لعبور الرؤساء والحكام أزماتهم وفضائحهم الداخلية، فهل تغري هذه النافذة ترامب على غرار كلينتون خاصة بعد الحصار السياسي الذي فرض عليه مؤخرًا؟
نجح كلينتون في تجاوز فضيحته بضربة عسكرية ضد القاعدة في السودان
ترامب وشبح العزل
مخاطر عدة تعصف بترامب ومستقبله السياسي على ضوء حزمة من الاتهامات الموجهة إليه، بدءًا بالتنسيق مع الروس للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مرورًا بالتهم التي وجهها القضاء الأمريكي للمدير السابق لحملته الانتخابية بول مانافورت، فضلًا عن موقفه الحرج إثر شهادة محاميه مايكل كوهين بخرقه قوانين تمويل الحملات الانتخابية وتقديم رشاوى انتخابية بعلمه الشخصي.
هذا في الوقت الذي يثير الإعلام الأمريكي فيه بعض الشبهات بشأن ترامب على غرار وجود طفل غير شرعي له إثر علاقة مع خادمته السابقة، إلى جانب الشبهات بشأن علاقة غير شرعية مع بعض ممثلات الأفلام الإباحية على رأسهن ستورمي دانيالز وكارين مكدوجال نجمة مجلة بلاي بوي السابقة.
ورغم تصاعد نبرات الحديث عن احتمالية عزله فإن البعض استبعد هذه الخطوة، إذ إن مثل هذه المحاكمات تحتاج بين عام إلى عام ونصف من المحاكمات، كما حدث مع رؤساء سابقين، ما يعني قرب انتهاء ولاية ترامب الأولى، بخلاف ضرورة إعداد أعضاء الكونغرس مشروع قانون لاستجواب أو مساءلة الرئيس، وهذا المشروع يتطلب عددًا كبيرًا من النواب، حيث يشترط للموافقة على إقالة الرئيس موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، وهذا بالطبع صعبًا فمن غير الممكن أن يقبل الجمهوريون بذلك.
رغم المعارضة الداخلية لفكرة شن حرب ضد إيران فإن هذا الاحتمال ولو كان ضعيفًا قد يكون الورقة الأخيرة بيد الرئيس الأمريكي للهروب من شبح الانتحار السياسي
وفي المقابل فإن الانتخابات النصفية للكونغرس والمقرر لها نوفمبر/تشرين المقبل ربما تكون العامل الأبرز في تحديد مستقبل ترامب، ومن ثم تكتسب أهمية كبيرة له، خاصة إن فقد الجمهوريين سيطرتهم على غرفتي البرلمان، حينها ربما يكون الوضع صعبًا جدًا حال تفوق الديمقراطيين الذين سيطالبون بلا شك بعزله على خلفية الاتهامات الموجهة إليه.
على أي حال، إن راود ترامب سيناريو كلينتون وفكر في اللجوء إلى المواجهة العسكرية لتشتيت التركيز وتحسين صورته مرة أخرى لدى رجل الشارع الأمريكي، يبقى السؤال: من الضحية التي من الممكن أن يجهز الرئيس الأمريكي عليها قربانًا لمستقبله السياسي؟
لا تبدو الضربة العسكرية ضد أي جماعات إرهابية أو تنظيمات مسلحة مرضية للأمريكان في الوقت الراهن كما كانت إبان فترة كلينتون، ومن ثم لابد أن يكون المستهدف على قدر كبير من التهديد، لذا تذهب بعض الرؤى إلى أن العدو المحتمل الأقرب لشن مثل هذه الحرب هو إيران، خاصة في ظل تصاعد منحنيات التحرش السياسي والعسكري والإعلامي معها بين الحين والآخر.. ولكن هل توافق المؤسسات السيادية الأمريكية على استخدام ترامب هذا الأسلوب التكتيكي لتشتيت محاولات عزله؟
اعتراف مايكل كوهين أوقع ترامب في حرج كبير أمام القضاء الأمريكي
هل يفعلها؟
التطرف السياسي الذي تميز به ترامب وخرقه للمنطق والتقاليد منذ تنصيبه رئيسًا يناير/كانون الثاني 2017 والذي دفع بلاده إلى خسارة حلفائها واحدًا تلو الآخر بفضل تلك السياسة العدائية التي يتنباها، ذهب بالبعض إلى احتمال إقدامه على توجيه ضربة عسكرية ضد إيران حفاظًا على منصبه الذي هدد قبل يومين من أن دفعه لمغادرته سيكون له آثار وخيمة على بورصات العالم وأسواق مالها.
هذا الرأي يعززه ترحيب بعض أعضاء إدارته المؤيدين لشن حرب ضد طهران، على رأسهم مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي ما زال يعتقد أن حرب العراق كانت فكرة جيدة، إلا أنه في المقابل سيواجه بمعارضة شديدة من الداخل كذلك، من بينهم وزير دفاعه جيمس ماتيس الذي أعرب مرارًا وتكرارًا عن كراهيته لإيران غير أنه يدرك العواقب الناجمة عن مثل هذه الخطوة على المصالح الأمريكية.
وفي المجمل، فإن ترامب ذا الشخصية العنيدة يواجه مأزقًا حقيقيًا قد يكلفه مستقبله السياسي، لكن الرجل وبعقلية التاجر المبنية على ثنائية الربح والخسارة لن يترك منصبه بسهولة، رغم الضغوط الممارسة عليه، كما أنه لن يعيد سيناريو الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون الذي اضطر لتقديم استقالته حين رأى أن المحاكمة في مجلس الشيوخ قد تصل لعزله عام 1974، ورغم المعارضة الداخلية لفكرة شن حرب ضد إيران فإن هذا الاحتمال ولو كان ضعيفًا قد يكون الورقة الأخيرة بيد الرئيس الأمريكي للهروب من شبح الانتحار السياسي.