في عام 1943، نشر عالم النفس الأمريكيّ “أبراهام ماسلو” نظريته الشهيرة “الاحتياجات الإنسانية”. وبشكل أساسيّ، اعتقد ماسلو أنّ البشر كانوا دائمًا مدفوعين لتحقيق احتياجاتهم في الحياة والحفاظ عليها وفقًا لتسلسل هرميّ يمكن التنبؤ به إلى حدٍ كبير.
رأى ماسلو أنّ الاحتياجات الإنسانية الأساسية يجب أن تكون مشبَعة وملبّاة قبل أن يتمكن الأفراد من إتمام أيّ شيء آخر أو القلق بشأنه. ثمّ تأتي لاحقًا احتياجات السلامة والأمان، مما يؤدي إلى تسهيل الطريق لتلبية وإشباع احتياجات الحب والانتماء، إضافةً لمختلف الاحتياجات الروحية الأعلى والأكثر تساميًا.
هرم “ماسلو” للاحتياجات الإنسانية الأساسية- مع تلبية الاحتياجات الأساسية يتحرك الفرد تلقائيًا إلى أعلى الهرم لتلبية الاحتياجات العُليا
تكمن كلمة السر في هذا الهرم في أنّ أيّ حاجة عُليا لا يمكن تلبيتها إلا بعد تلبية الاحتياجات التي تقع أسفل منها في الترتيب. ما يعني أنّه يصعب على الفرد –على الرغم من أنه ليس مستحيلًا- إشباع حاجته في الحبّ/الانتماء على سبيل المثال إلا إذا استطاع أنْ يُشبع ويلبّي احتياجاته الفيسيولوجية والأمنية، وهكذا دواليْك.
في الفئة الأولى من التسلسل الهرميّ تقع “الاحتياجات الفيسيولوجية” كالعطش والجوع والتنفس والجنس، تليها احتياجات الأمان والسلامة. وتتوسع الحاجة إلى الأمان إلى ما هو أبعد من السلامة الجسدية، لتشمل أيضًا الاستقرار السياسيّ والأمان الاقتصادي والوظيفيّ، والحماية من أيّ خطرٍ قد يهدّد وجود الفرد وبقاءه والذي قد يتجسد في غياب وظيفته، أو عدم القدرة على الحصول على الرعاية الصحية إن احتاج الأمر، أو حتى الأخطار السياسية كالحروب والصراعات والنزاعات الطائفية، وغياب الجيش القوي والحاكم الجيد عن المشهد.
السمات التي تسهم في إشباع احتياجات الأمن والسلامة للأفراد يمكن تمثّلها في الحُكم/الجيش القويّ والديموقراطية والاستقرار السياسي والاقتصاديّ.
وفي هذا الصدد، تمثّل الديمقراطية طريقًا آخر يمكن أن يساعد في بناء السلامة والأمان للأفراد في مجتمع معين، نظرًا للاعتقاد الشائع الذي يرى بأنّ الديمقراطية تعمل على تحسين العدالة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي، يشعر الأفراد بالأمان في البيئات التي تنتشر فيها الديمقراطية السياسية. وبكلماتٍ أخرى، يمكننا القول أن السمات التي تسهم في إشباع احتياجات الأمن والسلامة للأفراد في المجتمعات الحديثة يمكن تمثّلها في الحُكم/الجيش القويّ والديموقراطية والاستقرار السياسي والاقتصاديّ.
ثمّ تأتي ثالثًا الحاجة للحبّ والانتماء. فبعد إشباع الحاجتين في المستويين الأوّلين؛ الفسيولوجية والأمان، يسعى الفرد إلى الحب والصداقات والرفقة والمجتمع. وبمجرد استيفاء هذه الحاجة، وفقًا لماسلو، يسعى البشر إلى إشباع الحاجة لاحترام الذات وتقديرها “Self-esteem“، والذي يُمكن تعريفه بالتقييم الشعوري الشخصي لجدارة واستحقاق النفس، أمامها أولًا وأمام الآخرين ثانيًا.
جديرٌ بالذكر أنّ هذه الاحتياجات الأربعة ناشئة عن “الحِرمان منها”، وإذا لم يستطع الفرد إشباعها فسينشأ عنده الدافع لإشباعها وتلبيتها، وبمجرّد حدوث ذلك سيختفي الدافع. أما في حال عجزه عن خطوة الإشباع هذه، يصبح الفرد معرّضًا للاكتئاب والقلق والعزلة الاجتماعيّة، وقد يُبدي بعض ردّات الفعل الخطيرة ضدّ محيطه ومجتمعه.
الحاجة لتحقيق الذات هي الميل الكامن في الفرد للتحرك نحو أن يصبح أفضل ما يمكن أن يكونَ عليه
وهنا تختلف الاحتياجات الأربعة الأولى عن الحاجة الخامسة وذروة التسلسل الهرميّ، وهي الحاجة للنمو وتحقيق الذات “Self-actualization“. ربّما من الصعب الإتيان بتعريف موحّد لهذا المصطلح نظرًا لأنه يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين، لكن وبشكلٍ عام يتعلّق الأمر بتحقيق أقصى قدر من إمكانياتك الخاصة في المجالات التي تهمّك شخصيًا.
وبكلماته أخرى، يمكن القول أنه الميل الكامن في الفرد للتحرك نحو أن يصبح أفضل ما يمكن أن يكونَ عليه، الأمر الذي قد يتجلى في القدرة على القيام بالعمل الذي يرغب فيه والذي ينسجم مع مهاراته وقدراته العقلية وخبراته وطموحاته في بيئة مناسبة تساعده على التفوّق والنموّ. وتختلف هذه الحاجة عن اللواتي دونها بكونها لا يُمكن إشباعها تمامًا، وسيبقى الدافع لتلبيتها وإشباعها موجودًا طوال الوقت.
وهكذا، يسعى البشر باستمرار لتلبية احتياجاتهم، ومع تلبية الاحتياجات الأساسية فسيتحرّكون تلقائيًا إلى أعلى الهرم لتلبية الاحتياجات ذات المستوى الأعلى. وبطبيعة الحال، فيحقّق البشر المختلفون مستوياتٍ مختلفة من الإشباع. أمّا أولئك الذي يُشبعون حاجتهم لتحقيق الذات فيشكّلون 2% من البشر فقط، على الأقل هكذا يعتقد ماسلو نفسه.
العالم العربيّ في أسفل التسلسل الهرميّ
قد تبدو هذه النظرية مقتصرة على المستوى الفرديّ وحسب، لكنّ “أبراهام ماسلو” وعلى النقيض من غيره من علماء النفس، كان مهتمًا للغاية بالعلاقة بين علم النفس والسياسة. وخلال خمسينات القرن الماضي، حاول تعريف الديموقراطية بوصفها جزءًا لا يتجزأ من تعريف الصحة العقلية والنفسية للأفراد، واختبار مدى جدواها في تمجيد الكرامة الفردية والتسامح وتعزيز حرية الاختيار، وأثر ذلك كله على الفرد.
وبالتالي، فقد رأى ماسلو أنّ الاحتياجات الخمسة في هرمها المتسلسل لا تقتصر على الفرد نفسه وحسب، وإنما تتأثر بعوامل السياسة والديموقراطية والسلطة والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد. وعلى الرغم من كون التسلسل الهرميّ قد يكون قد بالغ فعلًا في تبسيط احتياجات الإنسان، إلا أنه استطاع بطريقةٍ أو بأخرى أن يوضّح كيف يمكن للعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أن تؤثر على صورة الفرد ونموّه العقليّ والنفسيّ. فكيف يمكن أنْ نفهم هذا في ضوء العالم العربيّ؟
يشكو العالم العربيّ من ارتفاع نسب البطالة والفقر والجوع في معظم بلدانه
رجوعًا إلى إحصاءات رصدها الموقع الرسمي لـ”البنك الدولي“، تبيّن أنّ العالم العربي يتصدّر دول العالم التي تعاني من أزمة البطالة، مع وجود تباينٍ واضح في الأرقام بين دول الخليج العربيّ وباقي الدول. كما يشكّل خريجو الجامعات ما يقرب من 30٪ من العاطلين عن العمل في المنطقة. وتتصدّر ليبيا القائمة بنسبة 48.9%، تليها موريتانيا بنسبة 46%، ثمّ فلسطين بنسبة 42.7%. أما في مصر فقد زادت نسبة البطالة خلال العقدين الآخرين بنسبة 12.6% لتصبح 42%.
أما فيما يتعلّق بمؤشرات الجوع، فتتصدّر اليمن قائمة الدول العربية التي يشملها “مؤشر الجوع العالميّ” بنسبة 36.1% من إجماليّ السكّان. تليها جيبوتي بنسبة 31.4%، وموريتانيا 25.2%، والعراق 22.9%، ومصر 14.7%. ويعرّف الجوع وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة على أنه الحرمان من الطعام الذي يجعل الفرد لا يستطيع الحصول على 1800 سعر حراري كحد أدنى يوميًّا.
ولا يغيب عن وعينا أبدًا تطوّرات الأحداث في الدول العربية خلال السنين الأخيرة، من ثورات وما تبعها من قتلٍ ومجازر وسجون وإعدامات. عوضًا أساسًا عن غياب الديموقراطية وانعدام الأمان السياسيّ وسياسات القمع متعددة الأشكال. ما يؤكد غياب أيّ شكلٍ من الأمان سواء من الناحية الجسدية أو السياسية أو الاقتصادية.
الناس بحاجةٍ إلى الحصول على الطعام والمأوى والجنس ليشعروا بالأمان بشتّى أشكاله من جهة ويحققوا قدرًا من احترام الذات وتقديرها
تتكاتف كلّ تلك العوامل، ما بين الأمن والاقتصاد والبطالة والفقر، لتؤثر على معدّلات الزواج والعنوسة. ففي نسبٍ صادمة، تسجّل بعض الدول العربية أرقامًا مخيفة في هذا الصدد، خاصة في ظلّ الإصرار على المبالغة في تكاليف الزواج من منزل ومهور وغيرها من المستلزمات. ووفقًا لإحدى الإحصاءات، فقد بلغت معدلات العنوسة في اليمن 30%، و40% في المغرب ومصر، و42% في كلٍّ من الأردن والسعودية، و50% في الجزائر، و62% في تونس. أمّا سوريا والعراق فقد وصلت النسبة إلى نحو 70%، لتأتي الإمارات ولبنان آخرًا بنسب 75% و85% على التوالي. ناهيك عن معدّلات الطلاق والتفكّك الأسري الأخرى.
مبدئيًا، لا يختلف اثنان على أنّ الناس بحاجةٍ إلى الحصول على الطعام والمأوى والجنس ليشعروا بالأمان بشتّى أشكاله من جهة، وللحفاظ على الروابط الاجتماعية من جهةٍ أخرى، وتحقيق قدرٍ من احترام الذات وتقديرها من جهةٍ ثالثة. ولو حاولنا الاستعانة بهرم ماسلو لقراءة الوضع العربيّ، لوجدنا -دون أدنى شكّ- أنّ معظم أفراده لا يزالون قابعين في في أدنى فئاته، أي في تسلسل الحاجة للطعام والشراب والمسكن والجنس أولًا، والحاجة للأمان ثانيًا.
يمكن للأمر أنْ يكون كالآتي: الوضع الاقتصادي والوظيفيّ الجيد، والذي يتماشى مع الوضع السياسيّ الجيد، يجعل الأفراد أقل قلقًا حيال حاضرهم ومستقبلهم، وحيال أنفسهم وعائلاتهم. أما في حال وجود العكس، فسيبقى القلق سيّد الموقف. وهذا ما يفسّر لنا سبب نجاح الحملات الانتخابية التي تركّز على الوضع الاقتصادي للبلد والأفراد مقابل تلك التي قد تركّز على السياسات الخارجية على سبيل المثال، أو حتى أولئك الذين يسعون لتحقيق الأمن. فما يهمّ الأفراد قبل كلّ شيء هو إشباع احتياجاتهم الأساسية قبيل الانطلاق لما هو بعدها.
الاكتئاب: نتيجة حتمية للعجز عن تلبية الاحتياجات
كانت معادلة ماسلو بسيطة: عجز الفرد عن إشباع احتياجاته سيولّد القلق والاكتئاب. ونظرًا لما افترضناه بأنّ الفرد العربيّ لا يزال عالقًا في أسفل التسلسل الهرميّ، فهذا أحد الأسباب التي يمكن أنْ نلجأ إليها لتفسير النسب المرتفعة للاكتئاب والقلق في المنطقة. إذ كشف إحدى الدراسات أنّ واحدًا من بين كلّ خمسة أشخاص في المنطقة يعانون من الاكتئاب.
وتتفق منظمة الصحة العالمية على أنّ الأوضاع المالية والمادية المتردية، والفقر والبطالة، وعوامل القمع والضغط الشديدة، إضافةً للحروب والفوضى والصراعات السياسية، تُعتبر من أهمّ مسببات الاكتئاب، الذي يمكن أنْ يمتدّ إلى الأمراض الجسدية كالسكري والقلب والضغط، أو قد يتحوّل إلى سلوكيّات غير متزنة أو صحية كمحاولات الانتحار واللجوء إلى الإدمان والتحرّش والعنف والجرائم والقتل، وهي ظواهرٌ باتت في ارتفاعٍ ملحوظ في عالمنا العربيّ في السنوات الأخيرة.
الأجيال العربية هي أجيال مهزومة تعيش وسط واقع خالٍ من المعنى، ويظنّ بالعبثية واللاجدوى في حياته وكلّ ما يفعله، الأمر الذي يتنافى فعليًا مع معنى “النموّ وتحقيق الذات”.
كما أنّ العجز عن الوصول إلى السلسلتين الأخيرتين في هرم ماسلو، أي تحقيق صورة الذات وتحقيق النموّ الذاتيّ، يمكن وصفه أيضًا بأنه نتيجةً لكلّ تلك الاضطرابات والاختلالات النفسية الناتجة وحدوث فجواتٍ كبيرة بين سقف الآمال والتوقعات للأفراد من ناحية وبين واقعهم وتبعياته من ناحية أخرى، ما يؤدي إلى غياب الأمل واليقين، وانتشار القلق الوجودي، أو حتى الشعور باللاجدوى والعدمية. فحين يعجز الفرد عن تحقيق ذاته، فلن يجدَ أمامه سوى ذلك القلق الوجودي الذي قد يتدفّق إلى كافة نواحي حياته.
ويؤدي العحز عن إشباع الحاجات الأساسية بشكلٍ كبير إلى ضعف الثقة بالنفس، وفقدان الإيمان بأيّ مشروع أو مستقبل، ومن هنا تنشأ أفكار الاكتئاب التي قد تتحول إلى أفكار انتحارية مع الوقت، خاصة بعد الهزائم المتتالية التي مرّت على المنطقة خلال العقود القليلة الأخيرة. فلا نبالغ إن قلنا أنّ الأجيال العربية هي أجيال مهزومة تعيش وسط واقع خالٍ من المعنى، وتظنّ بالعبثية واللاجدوى في حياتها وكلّ ما تفعله، الأمر الذي يتنافى فعليًا مع معنى “النموّ وتحقيق الذات” الذي وضعه ماسلو في أعلى هرمه التسلسليّ.