“ليس آيلًا إلى الأفول وغير قابل للحسم بالمستقبل القريب” هكذا يمكن توصيف الواقع الديمغرافي والاقتصادي والاجتماعي الذي أرسته الحرب السورية طوال أكثر من عقد، فالكانتونات المتناثرة على الجغرافيا السورية التي أعادت رسم خريطة البلاد، ورغم خروجها عن سيطرة المركز “دمشق”، فإن قنوات تواصلها مع ذلك المركز والعالم الخارجي فاعلة لأبعد ما يمكن تصوره، إذ باتت تلك الكانتونات بـ”حدودها الجمركية” جزءًا من إطار أمني إقليمي أوسع.
ما تشكله تلك الكانتونات، وقبلها مناطق النفوذ المؤقتة للمعارضة كأحياء حلب الشرقية وحي الوعر والغوطة الشرقية، يشبه هيئة حاكمة، لكنها بقيت سجنًا كبيرًا دون أسلاك أو جدران، بل تلفه نقاط رباط تماسية يخترقها معبر أو نفق تجاري، وخلفه كتلة صامتة معارضة تُجوَّع وتعيش على حافة البؤس في بازار سياسي شكّلت القوى العسكرية رأس حربة فيه، تتربح وتتحكم بهذا الاقتصاد.
اقتصاد المعابر والتجارة بين الأطراف المتنازعة في سوريا ليس حالة فريدة، ففي الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) ظهر اقتصاد المعابر بين الأطراف المتحاربة، كمعبر البربير-المتحف الذي فصل بين بيروت الشرقية والغربية، ومعبر قرية دير القمر بجبل لبنان التي تعرضت لحصار خانق، وساهمت شركات وأفراد محسوبة على قوى لبنانية مختلفة بإدخال الوقود والمواد الغذائية لها بمبالغ مالية ضخمة.
M4 – M5 ثقل جيواقتصادي
قبل الحديث عن المعابر السورية الخارجية والداخلية لا بد من نظرة إلى الطرق الدولية التي باتت تعد نقطة علّام أساسية في الحرب السورية وهدفًا استراتيجيًا للأطراف المتحاربة، وخاصة بالنسبة لروسيا وتركيا اللتان أعادتا ملف الطرق الدولية في الاجتماعات الخاصة بسوريا 2017.
أبرز هذه الطرق طريق M4 (الحسكة-اللاذقية) الرابط بين منطقة البحر الأبيض المتوسط بشمال شرق سوريا، ما يعني المحافظات الأربعة التي يمر بها وهي الحسكة والرقة وحلب واللاذقية.
ويدخل طريق M4 الأراضي السورية من الحدود العراقية من معبر تل كوجر، ويمر من مدن الحسكة والرقة وحلب وإدلب واللاذقية ليصل البحر المتوسط غرب سوريا، ويشترك مع الطريق M5 عند مدينة سراقب شرقي إدلب، ثم ينفصل عنه ويتجه غربًا، نحو أريحا بجبل الزاوية ثم جنوب جسر الشغور فاللاذقية.
بينما الطريق M5 أو الطريق الدولي كما يسميه السوريون، فهو ممر التجارة البرية بين أوروبا والخليج العربي مرورًا بتركيا والأردن، إذ يربط جنوب سوريا بشمالها ما يعني أنه يعبر بالمحافظات الخمسة درعا ودمشق وحمص وحماة وإدلب وحلب.
ويدخل سوريا من معبر نصيب بدرعا على الحدود السورية الأردنية، وصولًا لمعبر باب السلامة في أعزاز الحدودية مع تركيا، ويمر بالعاصمة دمشق من جهة مدينة حرستا، ثم حمص وحماة وإدلب من جهة معرّة النعمان، ليستمر نحو دوار الموت في مدينة حلب، وبعدها نحو الحدود التركية.
ويُعرف هناك باسم طريق حلب-غازي عنتاب الدولي، وهو من أهم الطرق السورية على الإطلاق، كونه يربط العاصمة دمشق بالأردن وتركيا، كما أنّه يصل إلى العراق والساحل عندما يتقاطع مع الطريق M4 في مدينة سراقب بريف إدلب، وقد صبّ كلٌّ من النظام والمعارضة جلّ اهتمامهما على هذا الخط خلال الحرب السورية، كونه الطريق الرئيسي لنقل السلاح والمعدات العسكرية لقمع المناطق الثائرة.
من خلال تتبع اتجاهات الطريقين، فإنه يمكن معرفة كيف تتقاسم القوى المتصارعة على الساحة السورية السيطرة على الطرق الدولية، إذ تسيطر قوات سوريا الديمقراطية الكردية “قسد” المدعومة من التحالف الدولي، على جزء من الطريق M4 الذي يبدأ من معبر اليعربية مع العراق والواقع بمحافظة الحسكة، ويمر هذا الطريق من مناطق سيطرة درع الفرات المدعومة من تركيا بمدينة الباب (أبو الزندين) في ريف حلب الشرقي، وأيضًا يمر بجزء كبير من مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام بريف إدلب، من ريف جسر الشغور غربي إدلب إلى حدود مدينة سراقب شرقي المحافظة، منتهيًا في مدينة اللاذقية والخاضعة لسيطرة النظام.
أما طريق M5 الأكثر أهمية، والذي فقده الأسد تدريجيًا منذ العام 2012، فكانت أثمن الجوائز بالنسبة للنظام إعادته مجددًا لسيطرته، لا سيما مع إحكام قبضته على مدن رئيسية في إدلب عام 2020 كانت تحت نفوذ المعارضة كخان شيخون ومعرة النعمان، وسراقب المدينة الأهم التي تشكل نقطة تقاطع بين M4 وM5، ليبقى منه ما يعرف باسم طريق حلب-غازي عنتاب الدولي “طريق الشط” وهو الأكثر تعقيدًا لتعدد الأطراف المسيطرة عليه، فمن معبر السلامة على الحدود التركية إلى أعزاز يخضع لقوات المعارضة، وفي ريف تل رفعت يخضع لقوات قسد مع وجود روسي، ثم في نبل والزهراء وحريتان وكفر حمرة، وصولًا إلى مركز مدينة حلب، يخضع لسيطرة النظام والميليشيات الإيرانية.
أنفاق ومعابر مؤقتة.. الغوطة وأحياء حلب مثالًا
مع النصف الثاني من العام 2011 سعت جميع الأطراف، ومنذ نشوء خطوط التماس الأولى وخروج المعابر الدولية عن سيطرة النظام عام 2012، للسيطرة على المواقع الرئيسة التي تشكل منفذًا مع خارج مناطق نفوذها.
معبر بستان القصر أو “معبر الموت” كما يسميه الحلبيون، هو المعبر الذي فصل الأحياء الشرقية المحررة في حلب عن الغربية، وبقي شاهدًا على مرور البضائع والمواد الغذائية المختلفة وعبور المدنيين بين قسمي المدينة منذ العام 2013، قبل أن يشتدّ حصار المعارضة للأحياء الغربية وتقطع طرق الإمداد عنها.
ومع ازدياد توافد قاطني الأحياء الغربية محملين بأموالهم لشراء حاجياتهم، اندفعت المعارضة آنذاك لتنظيم إخراج المواد الغذائية الضخم وتحديد الكميات من كل مادة للشخص للواحد، وفرض الرسوم والإتاوات على إخراج المواد الغذائية للتجار والمدنيين أيضًا، والتي أدت بالنتيجة لجني ثروات طائلة ملأت جيوب أمراء الحرب من الفصائل المعارضة وقوات النظام.
أصبح المعبر بالعموم مؤشرًا إلى أسعار السلع في الأحياء الغربية، فيوم إغلاق واحد يرفع الأسعار بنسبة 100%، أما إغلاقه لأيام عدة فيعني ذلك اختفاء السلع من رفوف المتاجر.
في الغوطة الشرقية بريف دمشق التي عاشت حصارًا خانقًا وطويلًا بدأ في أبريل/نيسان 2013 وامتد لأكثر من 5 سنوات، باتت المعابر إحدى علامات البقعة المحاصرة، إذ حفر في ذاكرة قاطنيها مأساة لا تنسى، أول هذه المعابر هو معبر مخيم الوافدين الذي سمي آنذاك بـ”معبر المليون” نسبة إلى ما يتم جنيه كل ساعة، أي بحدود 5000 دولار على سعر الصرف بتلك الفترة، وقد خضع بداية لتنظيم جيش الأمة قبل أن يسيطر عليه جيش الإسلام.
مع مرور الوقت واشتداد الحصار بدأت فصائل المعارضة العسكرية بإنشاء أنفاق تصل ما بين الغوطة المحاصرة وتخوم العاصمة دمشق الواقعة بيد النظام، وكانت بإدارة مباشرة من قادة الفصائل أو بغطاء من مؤسسات مدنية تابعة لها، فرضت أنظمة خاصة وشروطًا لحركة العبور وضرائب أو إتاوات على البضائع ونافست حركة دخول وخروج يشرف عليها النظام، ولاحقًا كانت هذه الأنفاق والمنافذ سببًا رئيسًا في تناحر الفصائل فيما بينها بشكل عنيف في سبيل السيطرة عليها، واندلعت ما سميت بـ”مظاهرات الجوع” ضد تلك الفصائل.
من بين تلك الأنفاق نفق حرستا الواصل إلى غربي الأوتستراد (امتداد بساتين القابون) والواقع تحت قبضة فصيل فجر الأمة، إضافة لنفق الرحمة المخصص للسيارات والواصل بين عربين بالقابون بوابة العاصمة دمشق، ونفق النور المخصص للمشاة بين نفس المنطقتين، وكلاهما معبران يخضعان لفيلق الرحمن وجبهة النصرة، وقد حققت كل تلك المعابر ثروات هائلة للفصائل المشرفة عليها، فامتلأت مستودعاتها بالمواد الغذائية والطبية، لكن بالمقابل كانت سوطًا اقتصاديًا ضُرب به المحاصرون.
ولم يقتصر الخلاف البيني على قوات المعارضة فقط، بل امتد إلى الأفرع الأمنية التابعة للنظام، ففي حالة وادي بردى والوعر وبرزة وببيلا ومناطق أخرى بحمص ودرعا، نجد أن فرع الأمن الذي يسيطر على المنطقة تتبع نقاط تفتيشه نقاط لأفرع أخرى، رغم أنه هو المخول ضمن الاتفاق البيني أو ضمن الاتفاق مع المنطقة التي تفاوض بالتمركز في محيط المنطقة، إلا أن الأفرع الأمنية تضع حواجز إضافية لأسباب عدة، أهمها المكاسب من تلك المعابر، كمعبر جمارك خربة غزالة الذي بدأ العمل به منذ أواخر أبريل/نيسان 2017 على الأوتستراد الدولي (دمشق-درعا-عمان)، مبتعدًا عن درعا نحو 19 كيلومترًا، إذ تمر عبر المعبر إلى مناطق المعارضة، الشاحنات المحمَّلة بالمواد الغذائية والأدوات المنزلية والكهربائية ومواد البناء والمواد الزراعية وقطع الغيار والألبسة، عدا المحروقات، إضافة إلى عبور المدنيين والمواد الإغاثية، أما باتجاه مناطق سيطرة النظام، فتمر عبره السيارات المحمَّلة بالمنتجات الزراعية والمواشي.
خريطة معابر سوريا
المعابر الخارجية
منذ منتصف 2017 وإلى الآن تسيطر قوات المعارضة على معابر سوريا مع تركيا، كما سيطرت على معابر مع الأردن منذ 2015 حتى منتصف عام 2018، أي عام اتفاق التسوية في درعا الذي رعته روسيا، كما سيطرت داعش على كل معابر سوريا مع العراق حتى منتصف عام 2017، وسيطرت قوات قسد على المعابر مع إقليم كردستان العراق، فيما شاركت ميليشيات حزب الله في السيطرة على المعابر السورية مع لبنان لجانب النظام.
من ريف إدلب حتى الريف الحلبي تتربع 6 معابر (مدنية-تجارية) على الحدود التركية، 5 منها تتبع للفصائل الموالية لتركيا وواحد لتحرير الشام وهو معبر باب الهوى في إدلب، أكبر المعابر وأهمها والمعبر الوحيد المعتمد لدى الأمم المتحدة لعبور قوافل المساعدات الإنسانية، وقد بقي مفتوحًا لسنوات أمام المواد التجارية التي استطاعت الفصائل المسيطرة فرض الضرائب عليها أو المتاجرة بها.
أما باقي المعابر فهي: معبر الحمام بريف عفرين، معبر الراعي في الراعي، معبر جرابلس بجرابلس، ومعبر تل أبيض بريف الرقة، ومعبر رأس العين بريف الحسكة، وأخيرًا معبر باب السلامة في أعزاز أهم معبر حتى الآن بريف حلب، حيث استطاع فصيل الجبهة الشامية أن يحصل من خلال السيطرة عليه على مبالغ مالية هائلة، ولما نازعته بقية الفصائل عليه سلمه الفصيل للحكومة السورية المؤقتة المعارضة تسليمًا شكليًا.
في مناطق سيطرة قسد هناك معبران يربطان مناطق نفوذها في الحسكة بإقليم كردستان العراق وهما اليعربية-ربيعة قبالة الحافة الشمالية الشرقية لسوريا وهو مغلق بفيتو روسي وصيني في مجلس الأمن منذ العام 2020، إضافة لمعبر محافظة الحسكة سيمالكا-فيشخابور.
أما المعابر التي تسيطر عليها قوات النظام فهي معبر البوكمال-القائم بدير الزور معقل ميليشيات إيران وهو المعبر الوحيد القابع تحت قبضتها مع العراق، إضافة لمعبري الجمرك القديم-الرمثا، والمعبر الأهم نصيب-جابر مع الأردن بعد إخراجه من سيطرة المعارضة عام 2018، والتي لم تستطع فتحه أبدًا منذ السيطرة عليه شتاء 2014 بسبب رفض الجانب الأردني ذلك، إضافة لمعبر كسب بريف اللاذقية مع تركيا والمغلق منذ عام 2011.
فيما يبلغ عدد معابر النظام مع لبنان 6، وهي معابر: المصنع والدبوسية وجوسية وتلكلخ والعريضة ومطربة الذي افتتح في مارس/آذار 2022 في منطقة الهرمل.
معابر داخلية
المعابر الداخلية هي التي لا صبغة رسمية لها، فدقائقها وطريقة عملها كثيرة وهي معابر لكسب موارد أكثر منها لضبط المنطقة، ومن أهمها:
معبر أبو الزندين قرب مدينة الباب شرقي حلب، وهو خاضع لسيطرة المعارضة السورية ويصل إلى مناطق النظام، وهناك معبران تحت مسمى علني يخضعان لتحرير الشام بإدلب ويرتبطان بمناطق النظام أيضًا، وهما سراقب-ترنبة وميزناز-معارة النعسان.
معبران تجاريان يربطان بين مناطق الجيش الوطني الموالي لتركيا وهيئة تحرير الشام، وهما معبر الغزاوية بين بلدة دير سمعان الخاضعة لسيطرة تحرير الشام وبلدة الغزاوية التي يسيطر عليها الجيش الوطني، أما المعبر الثاني فهو دير بلوط الذي يربط بين بلدة أطمة شمالي إدلب ودير بلوط شمال غربي حلب.
معابر تربط ما بين المعارضة وقسد، كمعبر عون الدادات بين جرابلس ومنبج وهو المعبر الرئيسي لتدفق السلع والمحروقات والأفراد بين الطرفين، إضافة لمعبر التايهة بريف منبج ومعبر الجطل (الشعيب) قرب بلدة الغندورة بريف جرابلس، والحمران الذي يبعد عنه 4 كيلومترات والمخصّص لمرور قوافل المحروقات، ويعد هذا محل صراع بين فصائل الجيش الوطني نفسها وهيئة تحرير الشام التي دفعت بتعزيزات عسكرية كبيرة من إدلب سبتمبر/أيلول الفائت رغبة في احتكار تجارة النفط مع قسد، والاستيلاء على عوائده التي قُدّرت بملايين الدولارات، ولتحرير الشام باع طويل في التعامل مع المعابر فقد حرصت منذ العام 2017 على السيطرة كل معابر التجارة والأفراد، إذ انتزعت معبر باب الهوى مع تركيا وتفردت بمعبر أبو دالي ومورك وسيطرت على منافذ رئيسية عند معبر قلعة المضيق، وفي مفاوضاتها مع حركة نور الدين الزنكي كانت مسألة المعابر حاضرة، فطلبت مقابل وقف القتال تسليم معبر الراشدين (مغلق حاليًا).
معابر قسد مع النظام تنحصر بـ4 معابر وهي: الطبقة والبوعاصي والهورة بالرقة، ومعبر العكيرشي ومعبر الصالحية الوحيد الذي يربط بين الحسكة ودير الزور القسم الخاضع لسيطرة النظام والميليشيات الإيرانية، كما يربط بين ضفتي الفرات بدير الزور، عدا عن المعابر المائية التي تصل بين ضفتي الفرات التي يصل عددها لـ10، وقد بقيت هذه المعابر بالمجمل بعيدة عن التوترات الميدانية وعرضة للتحولات السياسية والإدارية فقط، على عكس المعابر والأنفاق والمنافذ الواقعة في مناطق سيطرة المعارضة التي شهدت حروبًا طاحنة بغية إدراتها.
المعابر بوابة لزيادة الاقتتال
يخشى البعض من أن افتتاح المعابر التي ستكون محدودة، بدلًا من خطوط تهريب متعددة، سيؤدي إلى إشعال فتيل النزاع بين الفصائل للسيطرة على الموارد، بمعنى آخر فإن عدد نقاط التهريب الكبير يسمح بتفتيت الإيرادات ويخفف من حدة الصراع، في حين أن معبرًا واحدًا أو 3 معابر يعني في ظل غياب آلية توزيع واضحة تركُّز الموارد في يد فصيل أو اثنين وحرمان البقية، حيث تعطي الاشتباكات التي حصلت في محيط معبر أبو الزندين وفي محيط سراقب مؤخرًا، مؤشرًا لما هو قادم، وانعكاسه على حركة النشاط الاقتصادي الرديئة أصلًا في مناطق المعارضة.
وبالنظر إلى أهمية المعابر التي شكّلت نقاطًا محورية في اقتصاد الحرب المبني على خطوط التماس وأداة احتكار بيد الفواعل المحلية، فإنه يمكن الذهاب إلى أن المعابر باتت شرطًا لبقاء الفصائل وديمومتها، إذ تحولت لواحدة من أكبر مصادر الدخل والعائد المادي للجهة التي تسيطر عليها، وأصبح المعبر مؤسسة قائمة بذاتها، وبالتالي فإنه من المتوقع أن تطلّ نُذر الصراع من تلك المعابر في المنطقة مجددًا، لترسيخ واقع الاحتكارات الكبرى.
حسب دراسة قدمها مركز “جسور” للدراسات، فإن المعابر المفتوحة ظلت محلًا للصراع بين الأطراف المختلفة، كما لعبت التنقلات بين هذه المعابر المختلفة والسير على الطرقات قبل وبعد هذه المعابر، دورًا مهمًا في تشكيل اقتصاد نقل خاص من نوعه، تلعب الجماعات المتصارعة فيه دورًا جديدًا لتحقيق المزيد من المكاسب.
مكاسب من الطبيعي أن تضيّق أكثر على الحاضنة المدنية التي ترزح تحت خط الفقر، فالمعابر التي تخضع تحت سيطرة الفصائل المعارضة سواء المفتوحة مع قسد أم النظام ،شهدت تجاوزات وفسادًا مستمرًا نتيجة سوء الإدارة وغياب جهة موحدة، وبالتالي لن تنعكس الإيرادات وعوائد هذه التجارة السوداء على النفع العام، بل على العكس ستثقل كاهل المدنيين.
ورقة تفاوضية مستقبلية
يبدو أن الأطراف المتصارعة قد خلقت مساحات للتفاهم من خلال التجارة وذلك لأهداف اقتصادية أو سياسية، فاستمرار تدفق السلع والخدمات بين جميع الأطراف كلّ حسب ما تتميز به المنطقة الواقعة تحت سيطرته، وخاصة مناطق قسد التي تطفو على بحر من النفط، فماذا تفعل بالنفط المستخرج الفائض أو المحاصيل الاستراتيجية كالقمح إن لم تحوله إلى موارد مالية، وكذلك المعارضة التي تستورد بضائع متنوعة من تركيا كالسكر والطحين وتعاني فائضًا بإنتاجها الزراعي، فيما يمكن ملاحظة حجم البضائع التركية والسورية المصنعة في مناطق النظام داخل الأسواق الكردية، وهي منتوجات تأتي في معظمها من المعابر مع المعارضة والنظام.
بالمقابل فالاستفادة حاصلة للأطراف قاطبة من فروقات الأسعار وضرائب الدخول المفروضة على التجار، إضافة لما يشكله المعبر من قوة تفاوضية وخاصة للنظام في أكثر من ملف، واعتباره شريان حياة له ليلتفّ على العقوبات المفروضة عليه.
افتتاح معبر أبو الزندين خطوة أولى لاختبار التفاهمات.. من المستفيد؟
وفق تقرير لمركز “الحوار السوري”، فإنه في ظل الظروف الحالية التي تمر بها مختلف مناطق النفوذ، وحالة الجهات الحاكمة فيها، يملك نظام الأسد هامشًا تفاوضيًا أكبر في استغلال هذه المعابر لمصلحته ماليًا واقتصاديًا، في حين تأتي هيئة تحرير الشام بالمرتبة الثانية، تليها مناطق انتشار الجيش الوطني بالدرجة الثالثة والأخيرة.
ومع حجم العلاقات البينية لمناطق النفوذ فُتح باب الإغراء للأطراف الدولية المتحاورة حول الملف السوري، لا سيما روسيا وتركيا، لخلق تفاهمات اقتصادية، تكون مدخلًا لتطبيع سياسي وأمني، كما يجري الآن الحديث عن معبر أبو الزندين، الذي عاد مؤخرًا بالتزامن مع الحديث عن التطبيع ما بين أنقرة ودمشق، فالسيطرة على المعبر والتحكم به تعني القدرة على فرض الشروط والتحكم في التدفقات الاقتصادية والإنسانية، ولاحقًا الصفقات السياسية، ولطالما كان ملف المعابر لا سيما في أستانة، حاضرًا في المفاوضات بين الأطراف.
من اللافت للنظر أن بعض الفصائل تشارك المدنيين قلقهم من افتتاح المعبر بشكل رسمي، ليس من باب أن ذلك يشكل خطوة للتطبيع مع النظام، أو من باب ما يشكله فتح المعبر من اختراق أمني وانتشار المخدرات، وإنما من باب خوف تلك الفصائل في حال فتح المعبر، من خسارة مواردها جراء توقف خطوط التهريب المنتشرة بكثافة.
ختامًا.. يمكننا القول إن ظروف الصراع في سوريا استطاعت تكريس نمط اقتصاديات المعابر، وما تبعها من صراع دموي لإحكام القبضة عليها من الأطراف قاطبة، طمعًا في بناء إمبراطوريات مالية ضخمة، واستخدامها كعصا غليظة تلوح بها عند أي خطر يهدد مصالحها بإعادة رسم الخريطة التجارية.