الـ23 من شهر أغسطس/آب الماضي، كتب المستشار السياسي لحركة “نداء تونس” برهان بسيس، تدوينة انتقد فيها ما وصفه فشل حكومة يوسف الشاهد في كل المجالات حتى في فبركة القضايا، تعليقًا على قرار محكمة التعقيب التي أقرت بعدم اختصاص القضاء العسكري وعدم توافر أركان جريمة التآمر على أمن الدولة ووضع النفس على ذمة جيش أجنبي في ملف قضية أحد أهم ممولي حزبه رجل الأعمال شفيق جراية.
الـ2 من أكتوبر/تشرين الأول، قبضت قوات الأمن التونسي على بسيس، هذه المرة القضية ليست ملفقة ولا مفبركة، بل قضية قديمة تتعلق بالفساد والحصول على منافع وامتيازات عينية دون وجه قانوني زمن حكم الرئيس المخلوع بن علي، إلا أن المثير للتساؤل سرعة القبض على المستشار السياسي لحركة “نداء تونس”، فلم تمر ساعات قليلة على صدور الحكم حتى تم القبض عليه، وأيضًا لم تم تجاهل القضية طيلة السنوات الماضية والعودة إليها الآن؟
تساؤلات عدة بقيت في مخيلة التونسيين عقب القبض على برهان بسيس، غير أن العديد منهم أجمع بأن تونس تشهد عودة استعمال الماسكين بالحكم لأجهزة الدولة للقضاء على الخصوم السياسيين، وتحوّل الحرب على الفساد التي أعلنها الشاهد قبل سنتين إلى حرب بين الفاسدين.
بسيس اليد اليمنى لنجل الرئيس
في الـ15 من شهر مارس/أذار 2017، أعلنت حركة نداء تونس انضمام الإعلامي والسياسي “برهان بسيس” للحزب، وتعيينه مكلفًا بالشؤون السياسية له، وقد عرف بسيس الذي عمل قبل ثورة يناير 2011، موظفًا في الوكالة التونسية للاتصال الخارجي، بمساندته لنظام “بن علي” ودفاعه عنه في المنابر الاعلامية.
انضمام بسيس لنداء تونس في ذلك الوقت الذي عرف فيه الحزب أزمة داخلية حادة أدت إلى انقسامه، جاء لدعم شقّ نجل الرئيس حافظ قائد السبسي في معركته ضد من يسعون لإقصائه وإبعاده عن الحزب الذي أسّسه والده الباجي قائد السبسي صيف سنة 2012.
منذ ذلك التاريخ، أصبح بسيس اليد اليمنى لنجل الرئيس، ومدافعًا شرسًا عن خيارات السبسي الابن في خصوماته داخل الحزب وخارجه، حيث تكفّل بدور الناطق الرسمي لحافظ في أكثر من مرة، وقد خاض بسيس منذ ذلك التاريخ معارك عدة مع المستقلين من الحزب ما جعله عرضة لعديد من الهجمات.
هذه الحادثة أعادت لأذهان العديد من التونسيين كيفية استعمال أجهزة الدولة للقضاء على الخصوم السياسيين
تقول مصادر داخل نداء تونس، إن بسيس كان صاحب فكرة ترشح حافظ للانتخابات البرلمانية الجزئية في دائرة ألمانيا، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي تم العدول عنها في اللحظات الأخير وتعويض حافظ بفيصل حاج الطّيب للمشاركة في هذه الانتخابات، بعد تيقنهم من الهزيمة.
وكثيرًا ما يكتب برهان بسيس بلاغات وتدوينات حافظ قائد السبسي، فهذا الأخير لم يسمع له يومًا صوتًا ولم يعقد يومًا اجتماعًا سياسيًا علنيًا، ولا يتواصل مع الناس إلا عبر تدوينات بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، يكتبها له المستشار السياسي للحزب.
وفي الفترة الأخيرة، عرف بسيس بتصريحاته الحادة المنتقدة لحكومة يوسف الشاهد، والمطالبة بضرورة إقالته واستبعاده عن قصر القصبة لفشله في تسيير الحكومة وتسببه في تعميق الأزمة التي تعيشها تونس منذ سنوات على العديد من الأصعدة.
أجهزة الدولة للقضاء على الخصوم السياسيين
ظهر أمس الثلاثاء، قضت الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف بتونس، بتأييد الحكم الابتدائي القاضي بسجن برهان بسيس عامين مع النفاذ من أجل تهمة استغلال موظف عمومي لصفته لتحقيق فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره ومخالفته التراتيب الجاري بها العمل والإضرار بالإدارة فيما يعرف بقضية صوتيتال.
وكانت المحكمة الابتدائية في ولاية أريانة قد حكمت على بسيس بداية شهر فبراير/شباط الماضي بالسجن لمدة عامين، إثر ثبوت انتفاعه بمبلغ مالي قدره 198 ألف دينار من شركة الاتصالات “صوتيتال” التي ألحق بها في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، بتعليمات من الأخير، من دون أن يمارس فيها أي عمل فعلي.
ساعات قليلة على صدور هذا الحكم، حتى تم إيقاف بسيس من دورية قارة للأمن العمومي، على مستوى محطة تونس البحرية بتونس العاصمة، وذلك بعد عرض هويته على الناظم الآلي حيث تبيّن أنه مفتش عنه، وفق ما أكد الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، سفيان الزعق في تصريحات إذاعية، وتم على إثر ذلك اقتياد بسيس إلى السجن لقضاء عقوبة السجن.
يقود السبسي الابن حربًا ضد الشاهد لدفعه للاستقالة من منصبه
هذه اليقظة والنجاعة لدى قوات الأمن التونسي التي أدت إلى سرعة القبض على برهان بسيس، كانت مفقودة وما زالت على نفس النحو في خصوص وزير الداخلية التونسي الأسبق ناجم الغرسلي الذي يواجه تهمة “التآمر على أمن الدولة الخارجي والخيانة والمشاركة في ذلك ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم”، والصادرة ضده برقية تفتيش وجلب.
ويرجع تواصل هروب ناجم الغرسلي وعدم تمكّن الوحدات الأمنية التونسية من إلقاء القبض عليه، إلى الحماية التي يتمتّع بها من بعض أجهزة الدولة، ويرتبط الغرسلي بشبكة علاقات أقامها في أثناء توليه منصب محافظ محافظة المهدية وسط البلاد، وأيضًا في أثناء توليه منصب قاضٍ، ويستعين الغرسلي الآن بهذه الشبكة لتسهيل هروبه وعدم القبض عليه من الأمن التونسي.
حادثة القبض على بسيس بهذه السرعة دون غيره، أعادت لأذهان العديد من التونسيين كيفية استعمال أجهزة الدولة للقضاء على الخصوم السياسيين، الأمر الذي كان معتمدًا كثيرًا زمن حكم المخلوع بن علي، فإما أن تكون معي أو أن تكون ضدي وإن كنت ضدّي فترقب مصيرًا أسود جزاء قرارك.
يقول العديد من التونسيين، إن بسيس يستحق السجن كونه أذنب في حق البلاد والعباد بحصوله على امتيازات مالية دون وجه حق له، لكنهم في الآن ذاته يرون أن المستشار السياسي لحركة نداء تونس كان ضحية معركة سياسية بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد ونجل الرئيس حافظ قائد السبسي.
وتعرف تونس، مؤخرًا، أزمة سياسية عميقة نتيجة الحرب الدائرة بين يوسف الشاهد ونجل السبسي الذي يصر على رحيل الشاهد بدعوى إخفاقه في إنعاش الاقتصاد المنهك ووصول المؤشرات الاقتصادية إلى مستويات “كارثية”، وهو ما ينفيه الشاهد متهمًا السبسي الابن بتهديد النموذج المجتمعي لتونس.
ما يحصل اليوم، لا علاقة له بالفساد ومكافحته حتى وإن مس بعض الفاسدين
ليس دفاعًا عن برهان يقول بعض التونسيين، إنما دفاعًا عن دولة القانون والمؤسسات التي تحترم الجميع ولا يتم الالتجاء فيها إلى مؤسسات الدولة لتصفية حسابات سياسية بين خصوم سياسيين تكون فيها الغلبة للأقوى وللمتحكم في الأجهزة.
ويدين عديد من التونسيين استعمال بعض الجهات الرسمية إجراءات انتقامية وانتقائية ضد المخالفين بشكل يتماهى مع رغباتهم، وتسخير أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية للانتقام من الخصوم السياسيين، كونه يقوض سلطة الدولة وسمعتها لدى غالبية الشعب.
ما يدعم موقف هؤلاء أن برهان بسيس ليس المتهم الوحيد في هذه القضية، فمعه الرئيس المخلوع ومتهمين آخرين وهم الهادي الفريوي ومحمد الهادي الدريدي ومنتصر والي، إلا أنه تم إيقاف المحاكمة في حقهم جميعًا باستثناء بسيس.
وفي الفترة الأخيرة، أقدم القطب القضائي المالي على استدعاء عديد من القيادات في حركة نداء تونس للتحقيق معهم في قضايا فساد وتهرّب مالي، وما يلاحظ في هذا الشأن أن أغلب القيادات التي تمّ استدعاؤها تدعم حافظ في معركته ضد الشاهد.
حرب بين الفاسدين
القبض على بسيس، يقول بعض التونسيين خاصة من الموالين ليوسف الشاهد، إنه يتنزّل ضمن حرب الحكومة على الفساد التي دشّنها رئيسها يوم الـ24 من شهر مايو الحاليّ، حين خرج على التونسيين بتصريح أشاد به غالبية المواطنين، قال فيه: “أنا ككل التونسيين في الحرب على الفساد ولا خيار لي إما الدولة وتونس أو الفساد وأنا اخترت تونس”.
هذا الرأي لا يشاركهم الكثير فيه، فأغلب التونسيين يرون أن الحرب على الفساد التي أعلنها الشاهد سابقًا أضحت حربًا بين الفاسدين، فبعد أن بدأ الشاهد بتقليم ممولي نداء تونس واستهداف جناحه المالي للترويج لشخصه على حساب الحزب، ها هو الآن يتحوّل إلى الجناح السياسي والإعلامي للنداء.
يُتهم يوسف الشاهد باستعمال أجهزة الدولة في معركته ضدّ نجل السبسي
يتبيّن هنا أن الحرب التي أطلق عليها “حملة مكافحة الفساد”، وجلبت الأنظار واستطاع من خلالها الشاهد الترفيع في نسبة الثقة فيه، لم تكن يومًا حربًا على الفساد بل حرب بين الفاسدين باستعمال أجهزة الدولة، كلّ يسعى لإعادة بسط نفوذه في البلاد وإحكام قبضته عليها بعد أن ضعفت وكادت تذهب لغيره.
ما يحصل اليوم، لا علاقة له بالفساد ومكافحته حتى إن مس بعض الفاسدين، فما هو إلاّ صراع بين منظومة الفساد المتحكمة في تونس تاريخيًا وحلفائهم من الخارج وبارونات الفساد الموازين الجدد الذين برزوا حديثًا وأرادوا افتكاك البلاد منهم، فالساحة لا تقبل الاثنين معًا ووجب التخلص من شق على حساب آخر وإن كان الشق الذي أوصله للحكم.
تظهر قضية برهان بسيس وفقًا لعديد من المتابعين للشأن التونسي، ما وصلت إليه ظاهرة استخدام الحاكمين للدولة وأجهزتها المختلفة لتصفية الحسابات واستهداف السياسيين المناوئين لهم ولسياساتهم، وخطورة ذلك على الانتقال الديمقراطي الذي تشهده تونس منذ يناير 2011.