“لماذا يكره الصهاينة والدي إلى هذا الحد؟” سؤال سألته ابنة الحاخام اليهودي الأمريكي موريس لازارون (Morris S. Lazaron) لعمتها زوجة الحاخام الصهيوني أبا هيليل سيلفر (Abba Hillel Silver)، فردت الأخيرة: “لأنه كان صهيونيًا ثم ترك المعسكر الصهيوني وأصبح ضده، فاعتبروه خائنًا”.
الحاخام موريس لازارون من قادة الجيل اليهودي الأول الذي عارض “إسرائيل”، وكشف ما اعتبره زيف قادة الصهاينة، الذين استغلوا المأساة اليهودية في أوروبا لهدف سياسي استعماري في فلسطين، وهو الأمر الذي كان سببًا في إجباره على الاستقالة من عمله كحاخام.
ولعل خطورة لازارون بالنسبة للصهاينة تكمن في أمرين: أولهما أنه كان صهيونيًا في البداية ثم انقلب على الصهيونية، فهو بالتالي يعرف عن قرب نوايا وأهداف الصهيونية، والأمر الثاني أنه حاخام ورجل دين مشهود له بالمتانة في الدين اليهودي، وبالتالي فإن معارضته لـ”إسرائيل” هي أمر ديني، وهي معارضة كاشفة لزيف الادعاءات الدينية التي قامت على أساسها “إسرائيل” عام 1947.
لازارون كان صهيونيًا ثم تخلى عن دعمه للصهيونية قبل قيام “إسرائيل”، وظل مُصرًا على موقفه حتى وفاته عام 1979 بعد أن صارت “إسرائيل” أمرًا واقعًا، أي أنه بنى قناعته على مبادئ فكرية، لا على موقف نفعي، ورغم انتصار الفكرة المضادة بتأسيس “إسرائيل” ودعم الغرب بقيادة الولايات المتحدة غير المحدود لها، فإنه ازداد اقتناعًا برأيه، أي أنه لم يكن يبحث عن معسكر منتصر ينضم له، بل كان مؤمنًا بما يقول.
كيف تبنى موريس لازارون الصهيونية؟ وما الصهيونية التي كانت في ذهنه؟ وكيف ولماذا كفر بها وتحول إلى معارض لها؟ وكيف كانت رؤيته لفلسطين من الناحية الدينية والسياسية واقتراحه للسلام؟ هذا ما نلقي الضوء عليه.
الشاب اليهودي المتدين
وُلِد موريس صموئيل لازارون في سافانا بولاية جورجيا الأمريكية، في 16 أبريل/نيسان 1888، بحسب الأرشيف اليهودي الأمريكي، الذي نستعين به في هذه السطور كمصدر أساسي لنا.
أمضى طفولته في سافانا، حيث التحق بالمدارس العامة الأساسية، ثم قرر والداه تعليمه تعليمًا دينيًا أدبيًا يهوديًا، فانتقل إلى سينسيناتي بولاية أوهايو، للدراسة بكلية الاتحاد العبرية (المعهد اليهودي للأديان) بجامعة سينسيناتي.
في عام 1909 حصل على درجة البكالوريوس في الآداب اليهودية، ثم الماجيستير في نفس التخصص عام 1911، وأخيرًا جرى ترسيمه حاخامًا من كلية الاتحاد العبرية.
تولى لازارون الحاخامية في أكثر من ولاية أمريكية، ثم خدم في الجيش الأمريكي خلال فترة الحرب العالمية الأولى (1914 : 1918) ووصل إلى رتبة رائد، وظل في فيلق ضباط الاحتياط حتى عام 1953، وكان يتولى أعمالًا دينيةً مثل مراسم الدفن داخل الجيش، ثم أسس ومعه 20 رجل دين جمعية القساوسة العسكريين، والتي تضم رجال دين من طوائف مختلفة.
قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى كان وعد بلفور قد صدر عام 1917 بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، وتسللت لأذهان اليهود الفكرة، وكان لازارون وقتها قد مال إلى الصهيونية بشكل كبير.
يسرد لازارون عددًا من الأشياء التي أثرت فيه وجعلته صهيونيًا، حسبما ذكر في مقال مطول بعنوان “لماذا كنت صهيونيًا ولما لست كذلك الآن – Why I Was A Zionist And Why I Now Am Not”، والذي حفظه الأرشيف اليهودي الأمريكي.
أول من أثر فيه كان جاكوب دي (هاس Jacob de Haas) الصحفي اليهودي البريطاني الذي كان من قادة الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وبريطانيا، وكان سكرتيرًا عامًا للمؤتمر الصهيوني الأول.
كان جاكوب جذابًا وخطيبًا مفوهًا، ويتحدث بعاطفة وحماس عن القومية اليهودية خلال خطاباته في الولايات المتحدة التي كان ينظمها للدعاية للصهيونية، فاستمع إليه لازارون في سافانا وكان لا يزال مراهقًا، فتأثر بحماسه خاصة مع ما كان يحكيه عن مآسي اليهود في العالم.
وقتها كانت قضية دريفوس في فرنسا ذات صدى كبير، وكانت من الأشياء التي يستغلها جاكوب دي هاس لجذب التعاطف مع اليهود، بجانب إثارة مشاعر اليهود أنفسهم في الولايات المتحدة وتشجيعهم على اعتناق الصهيونية الداعية إلى تأسيس وطن قومي لليهود.
قضية دريفوس التي شغلت العالم اليهودي في الفترة من 1894 وحتى 1905، تتلخص في اتهام الضابط اليهودي الفرنسي ألفريد ديفوس بالخيانة العظمى والتجسس لصالح ألمانيا، وأدت القضية إلى انقسام شديد في فرنسا بل وصراعات واضطهاد لليهود، ثم ثبتت براءة الضابط فيما بعد، وتبين أن المجتمع الفرنسي يكن كراهيةً شديدةً لليهود ظلمًا ودون مبرر.
زعيم صهيوني آخر التقاه لازارون في شبابه وأثر فيه، وهو حاييم وايزمان، حيث يحكي موريس أن حاييم زار بيته وهو شاب، فسأله ببراءة وحماس الشاب المتدين: لا يعجبني الطابع العلماني لقادة الحركة الصهيونية.. هل تؤمن بالله؟
فرد حاييم وايزمان الزعيم الصهيوني بشكل غير مباشر، سحر لازارون، قائلًا: “أود أن أحكي لك قصة.. كنت بالقدس في الليلة التي تلت دخول قوات ألنبي (القائد الإنجليزي الذي احتل فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى)، مشيت وحدي إلى قمة جبل الزيتون، وجلست على حجر ونظرت في صمت إلى المدينة المقدسة.. لا أعرف كم من الوقت جلست هكذا، ولكن كان لدي تجربة غريبة وصوفية”.
ويكمل وايزمان: بدا لي كأنني أرى شخصيات في كل مكان حولي، تبتسم وتشجع، فعرفت غريزيًا أنهم أنبياء شعبنا، ونطقوا بكلمات التشجيع والأمل. سألتهم: ماذا أفعل؟ فرد صوت يقول: “افعل ما فعله بن زكاي، أنشئ مقرًا لتعليم اليهود، هذه هي مهمتك الأولى”. ولهذا السبب كان أول عمل لإعادة بناء “إسرائيل” الجديدة هو وضع حجر الأساس للجامعة العبرية.. هذا هو جوابي عن سؤالك”.
في هذه الأثناء كانت تتدفق على أمريكا هجرات كبيرة من اليهود، وبدأت تتشكل جماعات صهيونية تغذي الروح القومية لليهود، فكان من السهل أن تتسلل الأفكار الصهيونية للازارون كيهودي متدين درس العلوم الدينية.
دعم هذا التسلل أيضًا ميل لازارون للعمل الخيري كحاخام متدين، وفي هذه الفترة بعد صدور وعد بلفور واطمئنانهم إلى دعم بريطانيا العظمى لفكرتهم، قرر الصهاينة التركيز أكثر على اكتساب شعبية بين اليهود ليزداد إيمانهم بالصهيونية بشكل غير مباشر، فقرروا تقليل جرعة السياسة والتركيز على العمل الخيري بين أوساط اليهود.
صارت الصهيونية أمرًا واقعًا في الولايات المتحدة، حتى إن كلية الاتحاد العبرية التي كان يدرس فيها لازارون كثيرًا ما شهدت انقسامًا بين المؤمنين بالصهيونية والتيار الإصلاحي اليهودي، الذي يدعو إلى اعتبار اليهودية ديانة فقط وليست قومية أو وطنًا.
كل ذلك جعل لازارون يجد نفسه صهيونيًا بشكل لا إرادي، حيث قال: “وجدت هذا الشعور (الصهيونية) ينبعث في أعماقي بلا وعي”.
الصهيونية التي أحبها
الحقيقة أن لازارون لم يترك الصهيونية، بل ترك الصهاينة، أو أنه فهم الصهيونية بشكل غير الذي أراده قادة الصهيونية أنفسهم، فلما تبين له اختلافه عنهم تركهم.
يوضح توماس كولسكي (Thomas A. Kolsky) أستاذ التاريخ الأمريكي أن لازارون كان في البداية مقتنعًا بالطبيعة السلمية والروحية للصهيونية، مفتونًا بالرؤية الرومانسية للحركة، على عكس ما بدا له بعد ذلك، حسبما ذكر في كتابه “يهود ضد الصهيونية: المجلس الأمريكي لليهودية 1942-1948 – ews against Zionism: The American Council for Judaism1942-1948”.
ذهب لازارون إلى القدس عام 1921 وأثرت فيه الزيارة روحيًا، وترسخ لديه أن فلسطين يجب أن تكون مركزًا روحيًا ثقافيًا لليهود، لكنه اقتنع أيضًا أن هناك شعبًا فلسطينيًا (مسلمًا ومسيحيًا) يعيش هناك، وبالتالي استبعد فكرة أن تكون فلسطين دولة لليهود بالمعنى الإداري السياسي.
في خريف عام 1922 تبنى لازارون هذه الفكرة وعرضها على الكونغرس الأمريكي، حيث عقد اجتماع مشترك بين مجلس النواب والشيوخ الأمريكيين لمناقشة مدى إمكانية دعم تنفيذ وعد بلفور، فاستدعي لازارون كحاخام للمشاركة في الجلسة.
تحدث لازارون عن ترحيبه بوعد بلفور، لكن عن تنفيذه قال نصًا: “أنا غير مقتنع بفكرة تأسيس دولة صهيونية، بقدر اقتناعي بضرورة أن تكون فلسطين مركزًا روحيًا لليهود”.
وقتها كان لازارون قد صار قياديًا صهيونيًا معروفًا، حيث انضم إلى لجنة التوزيع اليهودية الأمريكية المشتركة JDC، وصار المتحدث الرسمي باسمها، وهي منظمة خيرية تعمل لصالح اليهود، والأهم أنه انضم إلى المنظمة الصهيونية الأمريكية.
ورغم ذلك لم يكن لازارون ملتزمًا بالأهداف السياسية الصهيونية بقدر ما كان مسحورًا بفكرة شعب “إسرائيل” ومركزه الروحي في فلسطين، وكان في كل لقاءاته من خلال عمله كمتحدث باسم JDC يتحدث عن فلسطين كوطن ثقافي لليهود لا كوطن سياسي ودولة، وكانت المنظمة تجمع تبرعات لصالح إعادة إعمار فلسطين لهذا الهدف.
وفي أحد خطاباته قال لازارون:
“إن مفهوم الشعب اليهودي، أو القومية اليهودية، ليس له أي غرض سياسي أو مادي، إنها ليست سوى الوسيلة التي يمكننا من خلالها، الوفاء بالتزامنا بأن نكون بركة للشعوب”.
وخلال نفس الخطاب تحدث لازارون بوضوح عن وضعية اليهود في فلسطين وقال: “الحكم الذاتي المحلي لليهود في فلسطين هو كل المرغوب فيه، وهذا لا يتعارض مع الولاء الوطني أو مع المواطنة هنا في أمريكا أو أي بلد آخر”.
أي أن حلمه لم يكن ابتلاع كل أراضي فلسطين، أو بناء وطن استعماري توسعي هناك، وإنما مجرد تهجير عدد من اليهود للإقامة هناك، وتحقيق حكم ذاتي لهم، كطائفة داخل فلسطين، لا كدولة سياسية.
ويشدد لازارون في كتابه “نسل إبراهيم: عشرة يهود على مر العصور – Seed of Abraham : ten Jews of the ages”، الصادر عام 1930، أن الوجود اليهودي في فلسطين لا يتطلب دولة وإنما سماح العرب الفلسطينيين لليهود بالإقامة فيما بينهم، ولكن بلا تدخل في شؤونهم، لا سيما الروحية والثقافية، مؤكدًا: “لا ينبغي لقوميتنا أن تعبر عن نفسها من خلال التوسع الاقتصادي والمجد العسكري”.
وينبع موقف لازارون هنا من قناعته الرافضة للقومية بشكلها الكلاسيكي، حيث يقول في نفس الكتاب: “نحن نعيش في عالم شديد التعصب للقوميات، حيث تستخدم الولاءات العميقة غير المعقولة للقومية كقوة دافعة لمعظم الحروب التي تدمر الأرض وحياة البشر”.
لكنه يرى أن القومية فكرة لا يمكن القضاء عليها، بل يجب السيطرة عليها وضمان عدم تغولها، وذلك بممارستها روحيًا لا سياسيًا، حيث يقول: “لا يمكن استبعاد القومية من العالم، فهي موجودة وستبقى، لكن يجب أن نسيطر عليها وإلا ستهيمن علينا.. يمكننا ويجب علينا أن نجعلها روحانية”.
التبرؤ من الصهاينة والصهيونية
خلال فترة الثلاثينيات تضاءل حماس لازارون للصهيونية تدريجيًا، رغم أنها كانت تنتشر وتزداد شعبية، حتى تبرأ منها بعد ذلك، حين تأكد أن الصهاينة يستغلون اضطهاد اليهود ويتاجرون بقضيتهم لتحقيق مصالحهم السياسية الاستعمارية، حسبما يرصد توماس كولسكي.
وفي مقاله “لماذا كنت صهيونيًا ولم لست كذلك الآن”، يقول لازارون إن خيبة أمله في الصهاينة جاءت تدريجيًا مع مراقبته لممارساتهم، وكان يعيش في صراع بين تصديق عقله، ومحاولة التماس العذر أو إيجاد مبررات لممارسات الصهاينة وأحاديثهم، خاصة مع مراوغاتهم وعدم صدقهم، لا سيما مع من يحاولون الحصول على تبرعات منهم.
وبانفعال عاطفي كتب لازارون: “توصلت إلى استنتاج مفاده أن الصهاينة كانوا يستخدمون الحاجة اليهودية لصالح أهدافهم السياسية، كل شعور مقدس لليهودي، كل غريزة إنسانية، كل قلق عميق الجذور على الأسرة، كل ذكرى عزيزة أصبحت أداة تستخدم لتعزيز القضية الصهيونية.. وإذا لم تكن مع الصهاينة، بحكم الأمر الواقع، كنت ضدهم”.
بجانب ذلك سافر لازارون إلى ألمانيا النازية مرتين عامي 1934 و1935، وهناك وتحت وطأة الظروف الصعبة التي يعيشها اليهود، وجد لازارون أنهم ليس لديهم إلا الإلحاح والدفع بقوة نحو فكرة واحدة “لا وطن سوى فلسطين”، بكل ما تعنيه العبارة مع معان سياسية قومية.
ما سبق جعل لازارون يتأكد أن فكرته الروحية عن فلسطين لن يكون لها مستقبل مع الصهاينة الذين نجحوا في ترسيخ فكرتهم الاستعمارية السياسية، بضرورة استيطان فلسطين وتأسيس “إسرائيل” ورفض فكرة تعايش اليهود بين مجتمعاتهم في دول العالم.
وفي عام 1937 بدأ لازارون في المعارضة الصريحة العلنية للصهيونية، حيث ألقى خطابًا أمام المؤتمر السنوي لاتحاد الطائفة العبرية الأمريكية في نيو أورليانز، حيث قال إن هناك فكرتين تروج لهما الصهيونية: أولهما محنة اليهود الألمان كدافع للتحرر اليهودي، والثانية هي أن فلسطين هي وطن اليهود.
وأكد لازارون أنه يرفض الفكرتين، مؤكدًا أن تحرر اليهود لا ينبغي أن يكون انتحارًا والأولى أن يندمج اليهود في مجتمعاتهم.
وتابع لازارون معلنًا تبرؤه من الصهيونية:
“إنني لا أخضع لأحد، وخاصة المنظمة الصهيونية الأمريكية، فأنا ضد استعمار فلسطين بالشكل المطروح، لكن أؤمن بإعادة بناء وطن اليهود هناك بشكل ثقافي روحي خيري.. إن إنقاذ الشعب اليهودي يجب أن يكون بإشعال نور الإيمان في قلبه، بشوق المرتلين، وعاطفة الأنبياء، وحبهم”.
النضال ضد الصهيونية
هذه الأفكار فعَّلها لازارون إلى نضال باندماجه في حركة يهودية مناهضة للصهيونية عام 1942، وهي حركة المجلس الأمريكي لليهودية، وفي أغسطس/آب من نفس العام أصدرت الحركة بيانًا اعترفت فيه بأهمية فلسطين للحياة الروحية اليهودية، لكنها تبرأت من الصهيونية السياسية الاستعمارية.
ويوضح توماس كولسكي في كتابه الذي أشرنا إليه سابقًا أن هذا البيان قوبل بعاصفة غضب شديدة من الصهيونية بقادتها وصحافتها، وصدر بيان مضاد له وقع عليه 757 حاخامًا بعنوان: “الصهيونية: تأكيد لليهودية”، يؤكد على فكرة “إسرائيل” وتأسيسها في فلسطين.
خلال هذا الجدل وحرب البيانات بين الصهاينة ورافضيها بزعامة المجلس الأمريكي لليهودية، أعد لازارون دراسة مطولة بعنوان “فلسطين: الحلم والحقيقة.. مسح للقومية اليهودية – Palestine: The Dream and the Reality.. A Survey of Jewish Nationalism”.
تناول خلال الدراسة وجهتي النظر، لكنه بالتأكيد انتصر لفكرة أن اليهودية دين وليست قومية، وأن فلسطين وإن تعلق بها اليهود روحيًا، لكن فكرة تأسيس وطن قومي لليهود بها على الطريقة الصهيونية لا يصح.
كذلك حقَّر لازارون من التعصب العرقي الذي تتبناه الصهيونية وتتخذه دافعًا لتأسيس “إسرائيل”، حيث يقول: “أنا أرفض الأساس العرقي للحياة اليهودية.. لقد التقط اليهودي المعاصر جرثومة القومية من العالم المحيط به، ونتج عنها وعيه العرقي المزعوم”.
كانت هذه الدراسة على رصانتها جزءًا من حرب البيانات والسجالات الدائرة بين اليهود الصهاينة ورافضي الصهيونية، لكن التيار الصهيوني كان أقوى، وهوجم لازارون بقوة حتى من داخل الجماعة العبرية في بالتيمور والتي كان حاخامًا بها، الأمر الذي اضطره إلى الاستقالة منها عام 1946، بحسب الأرشيف اليهودي الأمريكي.
وأمام تبلور فكرة الصهيونية السياسية والعمل عليها على قدم وساق في فلسطين خلال السنوات القليلة الأخيرة التي سبقت تأسيس “إسرائيل” عام 1947، كان المجلس الأمريكي لليهودية وفي قلبه لازارون يصدر بيانات تتعامل مع الواقع، وتدعو إلى ضبط الأمور في فلسطين، وكبح جماح العصابات الصهيونية وطموحاتها.
وكانت الفكرة المركزية التي تدعو إليها البيانات هي زوال الاحتلال البريطاني من فلسطين، وإنشاء دولة ديمقراطية واحدة يعيش فيها اليهود بجانب المسلمين والمسيحيين، بتمثيل عادل للطوائف الثلاثة في الحكومة وأجهزة الدولة، مع تدويل الأماكن المقدسة لضمان أن يمارس الجميع طقوسهم.
مع التأكيد بإلحاح على أن اليهودية ديانة وليست قومية بالمعنى الصهيوني، وأن كل يهودي عليه أن يندمج في الدولة التي يعيش بها ويخلص لها، حتى ولو تعلق قلبه بالأماكن المقدسة في فلسطين، بحسب كولسكي.
في هذه الفترة أيضًا وقبيل إعلان قرار التقسيم أعد لازارون دراسة أخرى بعنوان “Compromise in Palestine – التسوية في فلسطين” واستعرض خلالها وجهات النظر المختلفة، وقدم وجهة نظره للحل، والتي تؤكد على رؤيته المشار إليها، وهي أن فلسطين أرض مقدسة لليهود والمسيحيين واليهود، وبالتالي يجب أن تكون لهم جميعًا، ومع إقامة دولة ديمقراطية تعددية سينسى الجميع دياناتهم ويذوبون في وطنهم الواحد وهو “فلسطين”، ويجب أن يتم ذلك بالتفاوض السلمي.
انهارت أحلام لازارون بعد صدور قرار التقسيم من الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، وصارت “إسرائيل” دولة تبتلع أغلب الأراضي الفلسطينية.
لكنه ظل على رأيه، وفي هذه الفترة أعاده مجلس أمناء الجماعة العبرية للعمل، لكن كحاخام فخري، فوافق، ولكن مع تكرار هجومه على الصهيونية طلِب منه عدم التحدث عنها في خطاباته، خاصة خلال الأعياد الكبرى، فرفض لازارون واستقال للمرة الثانية عام 1949، بحسب الأرشيف اليهودي.
قل نشاط لازارون المناهض للصهيونية بعد ذلك، وربما فقد الأمل بعد حرب 1948، خاصة بعد تقاعده عن العمل، وعاش بين فلوريدا وكارولينا الشمالية، واهتم بممارسة الرسم الذي كان موهوبًا به، حتى إن لوحاته كانت تعرض في معارض لندن وباريس ونيويورك وبوسطن، حتى توفي في 5 يونيو/حزيران 1979 بإنجلترا، عن عمر ناهز 91 عامًا.
ربما كانت الروح الصوفية الانعزالية داخل لازارون هي المحرك له في اعتزاله الصراع السياسي مع الصهيونية، ففي كل كتاباته نلمس بقوة روحًا متدينة تكافح الكراهية، وتسعى للسلام النفسي، وربما هذه الروح هي التي جعلته يكافح الصهيونية، فلما صارت “إسرائيل” أمرًا واقعًا فضل العيش داخل نفسه.
لكن كلماته عن السلام كيهودي متدين تظل دليلًا على أن الديانة اليهودية بريئة من الصهيونية ومن المجازر التي ترتكبها “إسرائيل” بحق الفلسطينيين، فهو القائل: “نحن لا نتمنى أي سلام عقابي قائم على الكراهية، لأننا نعلم أن مثل هذا السلام لن يدوم، ولذلك نعمل من أجل أمن واستقرار جميع البشر.. نصلي إلى الله بعمق ونحن نكافح من أجل السلام المبني على البِر، لأننا تعلمنا أن “عمل البِرِّ هو السلام”.