ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ ظهورها في السبعينيات في دول الخليج، حققت الصيرفة الإسلامية تقدما كبيرا. يُعرّف بنك انجلترا الصيرفة الإسلامية بأنها “طريقة لإدارة الأموال وممارسة الأعمال التجارية وفقا للمبادئ الإسلامية”. وقد ظلت الصيرفة الإسلامية لفترة طويلة محط أنظار الرأي العام.
استفادت الصيرفة الإسلامية من الترتيبات الضريبية في فرنسا منذ سنة 2008 ومن المزايا التي قدمتها مقاطعة بيرسي في ذلك الوقت بهدف “جذب المستثمرين من الشرق الأوسط” وسيولتهم النقدية لإنعاش خزائن الدولة الفرنسية بعد أزمة الرهن العقاري. في فرنسا كما هو الحال في العالم، فإن هذا النمط المالي غير المنتشر في عالم الأعمال آخذ في الازدهار ويظهر نموًا مطردا سنة بعد سنة.
يتفوق النمو المطرد للصيرفة الإسلامية اليوم على نمو العملات المشفرة، برغم الصعود الملحوظ للعملات الرقمية في السنوات الأخيرة. في الوقت الراهن، تشير التقديرات إلى تراوح إجمالي الأصول في الصيرفة الإسلامية عالميا بين 3100 و3600 مليار يورو، في حين لا يتعدى حجم سوق العملات المشفرة 2300 مليار دولار. في هذا الصدد، يقول أنور حسونة، أستاذ المالية الإسلامية: “هذا يعادل 35 مرة حجم الناتج المحلي الإجمالي للمغرب… أو الدين العام الفرنسي”.
مستندة الى النص القرآني والشريعة والمبادئ الأخلاقية التي تحكم المجتمع المسلم، تنتشر الصيرفة الإسلامية بخطوات هادئة في فرنسا وأوروبا، بعد أن غزت البلدان في الشرق الأوسط وآسيا لتمثل 70 بالمئة من إجمالي حجمها.
بالإضافة إلى دعمها من قبل مؤسسات دولية مثل البنك الإسلامي للتنمية وبعض البنوك العالمية التقليدية الكبرى، تستفيد الصيرفة الإسلامية من دعم اجتماعي قوي خارج دوائر الجاليات المسلمة، لا سيما من الجامعات المرموقة مثل جامعة باريس دوفين، التي افتتحت سنة 2009 ماجستير تطبيقي مخصص بالكامل للصيرفة الإسلامية، مما يعكس بشكل واضح تزايد عدد الفاعلين الراغبين في الانخراط في الصيرفة الإسلامية.
إن تنامي قوة هذا الفرع المالي المتفرد للغاية أمر ملفت للنظر. وعلى الرغم من كونه لا يمثل حاليا سوى 1 بالمئة من حجم التمويل العالمي، غير أن الصيرفة الإسلامية سجلت نموا مذهلا ناهز نسبة 603 بالمئة بين عامي 2006 و2022.
في هذا الصدد، يقول أنور حسون نائب الرئيس السابق لخدمات المستثمرين في وكالة “موديز” والمدير المساعد السابق في ستاندرد آند بورز: “سنة بعد سنة، شهدت الصيرفة الإسلامية نموا مذهلا، تجاوز 10 بالمئة في المتوسط”.
من جانبه، يقول قادر مربوح، وهو المدير الحالي لقسم الصيرفة الإسلامية في كلية إدارة الشؤون المصرفية بباريس: “هذا أداء متواصل”.
الركائز الخمس للصيرفة الإسلامية
طرح فكرة الصيرفة الإسلامية في الأربعينيات من القرن الماضي، المفكر والداعية الباكستاني أبو العلاء المودودي، في كتابه الذي يحمل عنوان “معضلات الإنسان الاقتصادية وحلها في الإسلام”، وقد تطرق خلاله إلى الصيرفة الإسلامية باعتبارها خيارا ثالثًا، بين الرأسمالية والشيوعية.
تعتبر الصيرفة الإسلامية نظاما اقتصاديا أكثر عدالة، يمكن تحقيقه بفضل خمس ركائز محددة بوضوح، وهي تحريم الربا، وتحريم المضاربة، وتحريم الاستثمار في القطاعات التي يعتبرها الإسلام محرمة (على غرار الكحول والأسلحة والمال والمواد الإباحية وغيرها)، والالتزام بدعم جميع المعاملات المالية بأصل ملموس، وتقاسم الأرباح والخسائر.
يوضح أنور حسون أن المحظورات الثلاث والالتزامين تجعل الصيرفة الإسلامية “تمويلاً مقيداً” تنظمه الأحكام الشرعية.
هذه المبادئ مستمدة من التسلسل الهرمي لقواعد الشريعة الإسلامية. ويضيف أنور حسون: “الإشارات إلى القضايا الاقتصادية موجودة في القرآن، ولكنها قليلة مقارنة بما ورد في السنّة، أي ممارسات النبي محمد”. ثم يأتي إجماع الفقهاء والاجتهاد، وتفسير النصوص الشرعية، لوضع قواعد التمويل الإسلامي الحديث. ولذلك يحرم الإسلام الإثراء غير المشروع.
يضرب أنور حسون مثالا: “المضاربة هي لعبة قيمتها صفر. هذا لا يعني خلقا للثروة بل نزعا للملكية”، مضيفًا أن حظر الفائدة موجود أيضًا في الديانة اليهودية والأعراف المجتمعية في اليونان القديمة.
بشكل ملموس، توجد في فرنسا منتجات الصيرفة الإسلامية. يتابع أنور حسون: “إذا رغبت أسرة مسلمة في اقتراض أموال من بنك تقليدي ذي طابع إسلامي، فهذا ممكن. والأمر ذاته إذا كانت هذه الأسرة ترغب في الادخار بطريقة تتفق مع تعاليم الإسلام. ويمكن للشركات أيضًا إصدار سندات إسلامية”.
ويضيف حسون: “مع ذلك، فإن مجموعة المنتجات الإسلامية المتاحة ليست شاملة ولا يمكن مقارنتها بإمكانيات التمويل التقليدي”.
إن المستفيد من القرض الذي يقدمه بنك يوفر منتجات إسلامية لا يدفع فائدة بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن يدفع تكلفة إضافية محددة مسبقًا يوافق عليها الطرفان، تحل بحكم الواقع محل فوائد القرض.
إمكانات كبيرة في السوق الفرنسي
لا تزال الصيرفة الإسلامية في فرنسا سوقاً قيد الإنشاء، ويستغرب حسون غياب مؤسسة واحدة قادرة على تقديم كل مزايا المالية الإسلامية دفعة واحدة قائلا: “إن بلدنا موطن لأكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا، فلماذا لا يوجد بنك إسلامي فرنسي؟”.
وحسب رأيه، فإن الجواب يكمن في صورة الصيرفة الإسلامية في فرنسا. يوضح حسون: “لم تقم أي من المؤسسات المصرفية الفرنسية الخمس الكبرى بالبدء في أنشطة مصرفية إسلامية مباشرة في فرنسا خوفا من خسارة العملاء التقليديين على الرغم من أنها تفعل ذلك في الخارج”.
ويؤكد عز الدين غلام الله، الأستاذ والباحث في الصيرفة الإسلامية ومؤلف كتاب (الإسلام. أخلاق الأعمال الاقتصادية والمالية. من الأسس اللاهوتية إلى دستور النظام الاقتصادي والمالي): “هؤلاء بشكل رئيسي هم رواد الأعمال والشركات الناشئة وشركات التأمين التي اتبعت نهجا قائما على الحاجة لتوفير المنتجات المختلفة المعروضة اليوم”.
ويوضح غلام الله أن معظم عملاء المصرفية الإسلامية الفرنسيين هم من المسلمين، مضيفا: “لا شيء يمنع غير المسلم من استهلاك المنتجات المالية الحلال”. ويعتبر غلام الله أن إمكانيات الصيرفة الإسلامية تفوق ما توفره السوق الفرنسية وما زال هناك مجال كبير للاستثمار في هذا المجال.
من جانبه، يقول قادر مربوح: “قبل كل شيء، الربح هو ما يهم المستثمر، ولن يتوجه جميع المسلمين نحو الصيرفة الإسلامية، مثلما أنه لا يستهلك جميع المسلمين المنتجات الحلال”.
حسب أنور حسون، تنقسم الجالية المسلمة التي تبلغ خمسة ملايين مسلم فرنسي إلى ثلاث فئات، 20 بالمئة من بينهم، أي ما يعادل مليون شخص، مهتمون بالصيرفة الإسلامية، وهؤلاء هم العملاء الأساسيون الذين يستهلكون المنتجات الحلال مهما كان الأمر، والذين يعتبرون الالتزام بمبادئ الإسلام أمرًا ضروريًا مهما كان النشاط الذي يقومون به.
ويوضح أنور حسون: “100 ألف فقط منهم اقتنوا منتجات عن طريق الصيرفة الإسلامية”. بالنسبة للفئة الثانية والتي تمثل 50 بالمئة، فهي لن تستهلك الحلال إلا إذا كانت المنتجات تنافسية من حيث الثمن والجودة.. تفضل هذه الفئة دائمًا فوائد الرهن العقاري للتمويل التقليدي، بنسبة 2 بالمئة، على التمويل الحلال بنسبة 4.5 بالمئة. أما الفئة الثالثة، والتي تمثل 30 بالمائة من مجموع المسلمين، فلا يوجد علاقة بين الإسلام والنشاط الاقتصادي”.
مستقبل الصيرفة الإسلامية
إذا كانت الإمكانات في السوق الفرنسية أمراً مفروغا منه، فإن الصيرفة الإسلامية ككل تعتمد بشكل أكبر على الدول الإسلامية، ودورها مهم للغاية.
تقترض قطر وحتى السعودية بطريقة موافقة للشريعة الإسلامية وتشارك في رؤوس أموال المؤسسات الإسلامية.
ويتابع حسون: “في الوقت الراهن، تصدر ماليزيا حاليا سندات حلال حصرا. الشيء ذاته ينطبق على دول الخليج وتركيا التي تصدر نصف سنداتها وفقا لشريعة الإسلام”.
لم يبق سوى أن نرى ما إذا كان التمويل الإسلامي قادرا في يوم من الأيام على تجاوز نظيره التقليدي. في هذا الشأن، يقول أنور حسون: “في حالته الحالية، لا يمكن أن يهيمن التمويل الإسلامي في المدى القريب، لكن ربما على المدى البعيد. إن تأثير الصيرفة الإسلامية من حيث الحجم، حتى لو كانت القيمة الإجمالية كبيرة جدًا، محدود للغاية اليوم.. لا يزال تأثير دول منظمة التعاون الإسلامي في الاقتصاد العالمي محدودًا، رغم قوتها إقليميا، فهي لا تؤثر بشكل كبير في تقدم العالم”.
المصدر: لوفيغارو