يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، شوهد الصحفي السعودي جمال خاشقجي على قيد الحياة للمرة الأخيرة قبل دخوله إلى مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول للحصول على ورقة تمكّنه من إتمام إجراءات زواجه، لكنه لم يخرج أبدًا، فقد كانت في انتظاره بالداخل خطة لم يتوقعها أبدًا، لتبدأ بعدها عاصفة مستمرة حتى اليوم.
وبعد 6 سنوات من جريمة الاغتيال الوحشية التي تردد صداها في جميع أنحاء العالم، لا يزال الطريق إلى العدالة مسدودًا تمامًا، ولم يتم إجراء تحقيق جنائي مستقل ونزيه في الدور الذي لعبه كبار المسؤولين السعوديين، وبدلًا من ذلك تواصل السلطات السعودية حملتها القمعية ضد المعارضين مع الإفلات التام من العقاب.
التمهيد للإفلات من العقاب
في اليوم الذي شهد جريمة القتل المروعة، انتظرت خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي، خارج مبنى القنصلية لأكثر من 3 ساعات، وفي اليوم ذاته غرّدت إحدى المؤسسات الإعلامية التركية عن اختفائه فيما صمتت الرياض، وكثر الحديث عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بصفته الحاكم الفعلي للمملكة، وسط مطالبات بإقصائه أو تقليص صلاحياته.
وبعد مرور يومين، خرج أول بيان سعودي رسمي حول الحادث، مدعيًا خروج خاشقجي من مبنى القنصلية التي غابت الحقيقة خلف جدرانها، حيث منحت الموظفين الأتراك إجازة مفاجئة، ولم تسجّل كاميرات المراقبة شيئًا أو هكذا قال القنصل السعودي محمد العتيبي، وهو ما أكده محمد بن سلمان لوكالة “بلومبيرغ” في اليوم الخامس من اختفاء خاشقجي.
بعد أسبوع من الاختفاء، بثت وسائل إعلام سعودية تقارير ادّعت فيها أن الأشخاص الذين تم ربطهم بحادث الاختفاء هم مجرد سياح، وأن وجودهم في إسطنبول في الوقت نفسه هو محض صدفة، وأعلنت بعض الشركات العالمية، في اليوم ذاته، انسحابها من “مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض” على خلفية اختفاء خاشقجي، ما شكّل ضغوطًا دولية على المملكة لأجل كشف الحقيقة.
بدأت الشرطة التركية تحقيقاتها في حادث الاختفاء، ثم خلصت إلى أن الصحفي السعودي قُتل في قنصلية بلاده، ومع تقدم التحقيقات قالت السلطات التركية إن خاشقجي قُتل بأوامر عليا من الديوان الملكي، على يد فريق مكون من 15 سعوديًا من بينهم مدير الطب الشرعي بالإدارة العامة للأدلة الجنائية في الأمن العام السعودي الدكتور صلاح الطبيقي.
وصلت فريق التعذيب والاغتيال إلى إسطنبول قادمًا من الرياض على متن طائرتين خاصتين، وغادر في اليوم ذاته بعد تنفيذ مهمة خاصة استمرت ساعتين منذ وصول خاشقجي إلى القنصلية، واستخدم فيه الفريق السعودي منشار عظام لتقطيع أوصال الجثة وفق ما نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن مصدر تركي رفيع المستوى تحدث عن تفاصيل “سيناريو قتل مرعب”.
لكن هذه الاستنتاجات أنكرتها الرياض، وتمسكت بروايتها الأولى، متوعّدة الجميع “ألا يختبروا صبرها”، لكن القصة اتخذت منحى مختلفًا في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، مع اعتراف الرياض بمقتل خاشقجي داخل القنصلية، لكنها قالت إن ذلك حدث بعد اندلاع شجار واشتباك بالأيدي مع الأشخاص الذين قابلوه دخل القنصلية، وهي الرواية التي رفضها المدعي العام التركي، الذي قال إن خاشقجي تعرّض للخنق بمجرد دخوله القنصلية وجرى تقطيع جثمانه.
ومع مرور الوقت، برز اسم مستشار الديوان الملكي سعود القحطاني المقرب من ولي العهد السعودي، كأحد المتورطين في القضية، وصدر على إثر ذلك قرار ملكي بعزله رفقة شخصيات ومسؤولين بارزين، وبعدها بدأت وسائل الإعلام السعودية في مدح الخطوات التي اتخذتها المملكة في التحقيقات، حتى أنها أقرّت أن السياح المزعومين كانوا قد قدموا لإقناع خاشقجي بالعودة إلى المملكة، وبررت روايتها السابقة بأنها بُنيت على معلومات خاطئة.
وكما تدرّجت الروايات السعودية وتناقضت، كان الموقف الأمريكي كذلك، فقد تبدل موقف ترامب من الإقرار إلى التشكيك والحديث عن خداع، وطالب بكشف الحقيقة الكاملة التي باتت واضحة في ضوء الإقرار السعودي بمقتله، إلا أن التساؤلات ما زالت عن مكان الجثة أو بقاياها، وعن الجهة التي أصدرت الأمر.
وبعد كشف حقيقة مقتل خاشقجي داخل القنصلية، علّق محمد بن سلمان للمرة الأولى مدعيًا أن “بلاده تتخذ كافة الإجراءات القانونية، وتعمل مع الحكومة التركية للوصول إلى نتائج وتقديم المدنين للمحاكمة”، لكن ذلك لم يخفِ علامات التململ والانزعاج التركي من إحجام السعودية عن التجاوب معها بشأن جريمة خاشقجي وكأنها بلغت ذروتها، وبأنه لم يعد أمام أنقرة سوى المضيّ بعيدًا بموضوع تدويل التحقيق الذي أصبح يصدر من جميع الأطراف الدولية، وعلى رأسها الأمين العام للأمم المتحدة.
وأثار رفض السعودية مطالب تركيا بتسليم المتهمين باغتيال خاشقجي واستمرار مماطلتها في التجاوب، وتكرار اتهامها بعدم التعاون لكشف ملابسات الجريمة، تساؤلات حول السبب الذي يمنع السعودية من محاكمة منفّذي الجريمة، وما إذا كان الجانب السعودي يخشى من كشف هوية المسؤول الرفيع الذي أصدر الأمر بإنهاء حياة خاشقجي بتلك الطريقة الوحشية.
ومع تزايد الضغوط الدولية لمحاسبة المسؤولين، وجّهت النيابة العامة السعودية للمرة الأولى، في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، اتهاماتها رسميًا ضد 11 متهمًا في القضية، وشملت قائمة المتهمين الذين لم يتم الإفصاح عن هوياتهم معظم فريق الاغتيال، ووجوهًا كانت معروفة في الحكومة، لكن غاب عنها القحطاني الذي اعتقدت وكالة الاستخبارات الأمريكية أنه لعب دورًا رئيسيًا في مقتل خاشقجي، الأمر الذي قوبل باستهانة من داخل المملكة.
وكان القحطاني موضوع تحقيق من نوع آخر، فقد علّق موقع تويتر (إكس حاليًا) حسابه بشكل دائم لتلاعبه وخداعه للمستخدمين بحسب قواعد المنصة، كما كان أحد الدوافع الرئيسية وراء إطلاق مشروع “النحل الإلكتروني” الذي يعتبر في نظر متابعيه إرث خاشقجي، ويهدف لمحاربة الحسابات الوهمية “الذباب الإلكتروني” التي يعتقد أنها تحت سيطرة الحكومة السعودية من أجل حشد الرأي العام.
أما ولي العهد السعودي فعاد ليؤكد مرارًا وتكرارًا ألّا علاقة له بمقتل خاشقجي، وقال في لقائه مع برنامج “ستون دقيقة” الشهير للمرة الأولى، بعد مرور عام تقريبًا، إنه يتحمل مسؤولية مقتل خاشقجي بحكم منصبه كقائد للبلاد، لكنه أصرَّ عى نفي ضلوعه في أمر القتل.
أحكام تناقض العدالة
في مطلع عام 2019، وبالتزامن مع تحول أنظار العالم صوب واشنطن لمتابعة بدء أعمال الكونغرس الأمريكي الجديد بمجلس شيوخ بأغلبية جمهورية ومجلس نواب بأغلبية ديمقراطية، انشغل الإعلام السعودي بإذاعة مضمون بيان صادر عن النائب العام، يعلن فيه انعقاد أولى جلسات محاكمة 11 شخصًا وصفهم بـ”المدانين في قتل خاشقجي”.
لم يكن تزامن الحدثَين من قبيل الصدفة، فبالعودة أسابيع قليلة إلى الوراء، وتحديدًا إلى منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2018، كان الكونغرس المنتهية ولايته قاب قوسين أو أدنى من فرض عقوبات على محمد بن سلمان، حين تبنّى مجلس الشيوخ بالإجماع قرارًا يحمّله مسؤولية قتل خاشقجي، ويطالب بمحاسبة كل من يثبت ضلوعه في الجريمة.
لم تجد صحيفة “واشنطن بوست” تعبيرًا سوى “المهزلة” لتصف بها المحاكمات التي أعلنت عنها السلطات في الرياض لثلّة من المشتبه في أنهم ضالعون في اغتيال خاشقجي، وكانت الصحيفة الأمريكية أحد أصوات كثيرة شكّكت في الإجراءات القضائية التي أعلنتها الرياض لمحاكمة قتلة خاشقجي، فلا الأسماء معروفة ولا المناصب، ولا شهد العالم جلسة يُعرض فيها المعنيون على هيئة محلفين.
ويعدّ ما فعلته المملكة ضعيفًا بشكل يدعو للشفقة، في محاولة منها لعرقلة المسار القضائي للقضية، ودرء أي إجراءات عقابية ضدها قد يقدم عليها الكونغرس الجديد أسوة بسابقه، فالمحاكمات لم تكن علنية، ولم تكشف السعودية أسماء الأشخاص الذين جرت محاكمتهم، ولا هويات المتهمين الخمسة الذين تطالب النيابة بإعدامهم كجزاء شرعي لقتلهم خاشقجي.
وسبق أن شكّكت الأمم المتحدة في شفافية المحاكمات السعودية، لأنها تجري خلف أبواب مغلقة، وبناء على تحقيقات سعودية خالصة، ومن دون الكشف عن هويات من تتم محاكمتهم، حتى إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المتهمة بالتستُّر على ولي العهد السعودي، انتقدت المسار القضائي الذي تسلكه المملكة في قضية خاشقجي.
وخلص تقرير أممي أعدّته المقررة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء أنييس كالامار، في يونيو/ حزيران 2019، إلى أن خاشقجي كان ضحية “قتل متعمد خارج نطاق القضاء تتحمل السعودية مسؤوليته”، مؤكدة وجود أدلة موثوقة تستوجب التحقيق مع مسؤولين سعوديين كبار، بينهم ولي العهد السعودي نفسه.
وبالنظر إلى المعطيات، فإن مسؤولين كبارًا في المملكة كانوا ضالعين وبشكل مباشر في إصدار الأمر بقتل خاشقجي، أبرزهم سعود القحطاني الذي يوصف باليد اليمنى لولي العهد، ونائب رئيس الاستخبارات السابق أحمد عسيري، وقد أعفيا من منصبيهما، والطبيب الشرعي صلاح الطبيقي المتهم بتولي تقطيع جثة خاشقجي، والذي أكّدت صحف تركية أنه يعيش حاليًا حياة طبيعية مع عائلته بمدينة جدة.
جريدة الصباح التركية: صلاح الطبيقي مازال يعيش حرا مع عائلته في #جدة وقد طلبت السلطات #السعودية منه ان يكون بعيدا عن الأضواء. وعدد اخر من المتهمين في قضية #خاشقجي يعيشون بحرية ولكن معزولين عن محيطهم. pic.twitter.com/RDm2SAUIZ9
— عاجل السعودية (@3ajel_ksa) December 29, 2018
بهذه السبل، حاول القضاء السعودي طيّ القضية، في الوقت الذي كانت فيه محاولات أخرى لتحقيق بعض العدالة لخاشقجي، فقد مضى القضاء التركي في فتح القضية بعد مسار طويل خاضته تركيا لمحاكمة الجناة، كون الجريمة نُفّذت على أراضيها.
وفي 3 يوليو/ تموز 2020، بدأت محكمة العقوبات المشددة في إسطنبول أولى جلسات محاكمة غيابية لـ 20 مسؤولًا سعوديًا بتهمة قتل خاشقجي مع سبق الإصرار أو إتلاف أدلة، بحضور خطيبته بصفة “المشتكي” والمقررة الأممية أنييس كالامار، لكن الرياض رفضت التعاون مع الإجراءات القانونية التركية وتسليم المتهمين إلى السلطات التركية، وأصرّت على إخفاء القضية كما أُخفيت الجثة.
وتتهم لائحة الاتهام التي قبلتها المحكمة التركية بعد أن أصدرها المدعي العام في إسطنبول قبل 3 أشهر من المحاكمة مسؤولين سعوديين كبارًا، على رأسهم أحمد العسيري وسعود القحطاني، بالتحريض على القتل العمد، وتوضح أن بقية المتهمين الـ 18 نفذوا عملية القتل بخنق خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول بعد أن اشتدت وتيرة انتقاداته لولي العهد، وتجرّأ على انتقاد حكومة بلاده، وأخبر العالم بحقيقة وحشيتها تجاه أولئك الذين يرفعون صوتهم، وقُتل في سبيل ذلك.
نتيجة لذلك، لم تسهم محاكمة غاب عنها المتهمون في إحقاق العدالة وإيجاد طريق جديد يدعم القانون الدولي ليأخذ مجراه في محاسبة وكشف وتعقُّب القتلة، وبدلًا من ذلك أرادت السلطات السعودية لهؤلاء جميعًا الإفلات من العقاب، وعوضًا عنهم وضعت في قفص الاتهام مجموعة صغيرة من رجال الأمن، يراد أن يكونوا أكباش فداء حتى لولي العهد نفسه.
وفي 23 ديسمبر/ كانون الأول 2019، أصدرت المحكمة السعودية حكمًا أوليًا بإدانة 8 أشخاص من بين المتهمين الـ 11 في محاكمة مغلقة تفتقر إلى المصداقية والشفافية، وقضت بإعدام 5 أشخاص منهم، وعاقبت 3 مدانين بأحكام سجن متفاوتة وصلت إلى 24 عامًا بتهمة “التستر على الجريمة ومخالفة القانون”.
لكن المحكمة قضت بتبرئة المتهمين الرئيسيين، ونفت وجود نية مسبقة للقتل، وهي مفارقة أثارت انتقادات عديدة للتناقض الصارخ لتلك الأحكام، مع وجود أدلة واضحة تثبت أن فريق الإعدام توجّه إلى إسطنبول مسلحًا بأدوات قتل وتخدير وتقطيع للجثة التي لم يُكشف مصيرها بعد.
حتى هؤلاء المدانين بأحكام هزلية لم يكن من بينهم القنصل السعودي محمد العتيبي في إسطنبول، الذي يفترض أن يكون محترفًا، لكنه بدا -خلال اصطحابه مراسل وكالة “رويترز” خلال جولة داخل مبنى القنصلية- مرتبكًا كأنما يخشى من أن يفاجَأ بما يدين ويجرّم، وكشف تحقيق بثته قناة “الجزيرة” قبل شهور من حكم المحكمة السعودية ما إذا كان القنصل جزءًا من اغتيال خاشقجي بالعلم ربما، أو التواطؤ بعد التفاجؤ بما حدث له، أو التورط المباشر في الجريمة عبر التخلص من الجثة في فرن تمّ بنائه داخل بيته القريب من القنصلية قبل أشهر قليلة من الجريمة.
وفي 7 سبتمبر/ أيلول 2020، واصل القضاء السعودي محاكمته الصورية حتى أغلق قضية اغتيال خاشقجي بشقَّيها العام والخاص، بإصدار أحكام مخففة على المدانين الثمانية في القضية، مع التراجع عن أحكام الإعدام الصادرة بحق 5 متهمين منهم، وتخفيفها إلى أحكام بالسجن لمدة 20 عامًا بعد إعلان أبناء خاشقجي العفو عن قتلة والدهم، لكن قرار العفو صدر تحت التهديد والضغط.
جاءت هذه الإجراءات السعودية التي لم تقنع أي أطراف حقوقية أو سياسية لطيّ صفحة سوداء، وإنهاء اللغط حول القضية، لكنه جاء أيضًا بنتائج عكسية مع تولي التعليقات المستنكرة لقرار القضاء السعودي، فقد أعدّت خطيبة خاشقجي هذه الأحكام غير المرضية “استهزاءً بالعدالة”، واعتبرتها كالامار مفتقدة للشرعية القانونية والأخلاقية، ورأت تركيا التي كانت تأمل ولو في قليل من التعاون من السلطات السعودية لكشف ملابسات الجريمة أن الأحكام لم ترقَ لمستوى توقعاتها.
ومن الجرائم الأخرى التي تمّ توثيقها على المستوى الدولي تورُّط القاضي عوض الأحمري الذي عُرف بمقدار قربه وإخلاصه لابن سلمان، في التستر على جريمة قتل خاشقجي، فبحسب كالامار كان الأحمري ضمن الوفد المرافق للنائب العام السعودي في إسطنبول عام 2018، وأنه تم إرساله لتنظيف أدلة جريمة الاغتيال وإعاقة السلطات التركية من التحقيق في مباني القنصلية، وتضليل الادعاء التركي عبر تقديم معلومات كاذبة حول ما حدث.
بعد ذلك، جرى تكليف الأحمري بتولي التحقيق مع القحطاني والعسيري، ولم توجِّه إليهما النيابة أية اتهامات “لعدم ثبوت إدانتهم في القضية في الحق العام والحق الخاص”، وعمل على تبرئتهم عبر طرح أسئلة محدودة ولا علاقة لها بالتحقيق، رغم حديث الأمم المتحدة ومكتب مدير المخابرات الأمريكية عن أنهما العقل المدبّر لعملية الاغتيال، وتأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن أوامر القتل صدرت من أعلى المستويات في الحكومة السعودية.
بعد كل تلك الخدمات، وعلى ضوء وشاية قام بها الأحمري ضد قضاة في المحكمة الجزائية المتخصصة ومحكمة استئناف الإرهاب والمحكمة العليا، كافأه ابن سلمان وحوّله من ضابط تحقيق بسيط في النيابة العامة إلى رئاسة أبشع محكمة للإرهاب في تاريخ المملكة رغم عدم حصوله على تدريب قضائي، وعيّن زمرة من المحققين في أمن الدولة، والمرتبطين بعلاقات وثيقة بالديوان الملكي وولي العهد السعودي، كقضاة بدلًا من أولئك الذين تمّ اعتقالهم، ليقوم من كان يعذب ويحقق مع المعتقلين بالأمس بإصدار الأحكام اليوم.
ويضاف إلى مساعي تحقيق العدالة التي عجزت عن تحقيقها السلطات السعودية، إقامة خطيبة خاشقجي ومنظمة “الديمقراطية الآن للعالم العربي” (داون)، التي تسعى لتحقيق رؤية خاشقجي/ دعوى قضائية في الولايات المتحدة، لكن القضية رُفضت في نهاية عام 2022، وقضت الحكومة الأمريكية بأن ولي العهد السعودي يتمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية بعد تعيينه في منصب رئيس الوزراء، لكن وفقًا لمنظمة هيومان رايتس واتش تبيّن حصانة ابن سلمان التقاعس الأمريكي عن تحقيق العدالة.
ورغم مساعي السلطات السعودية الحثيثة لطيّ صفحة خاشقجي إلى الأبد، يواصل نشطاء سعوديون ومنظمات حقوقية نضالهم لتحقيق العدالة وتسليط الضوء على الانتهاكات الحقوقية في المملكة، والدعوة إلى إجراء تحقيق دولي مستقل ونزيه في مقتل خاشقجي لتحديد جميع المتورطين في الجريمة، مهما كانت رتبهم أو مكانتهم، وضمان تقديم المشتبه في مسؤوليتهم إلى العدالة في محاكمات عادلة، وهو ما لا تلقي له المملكة بالًا.
المصالح قبل حقوق الإنسان
ألقى مقتل خاشقجي الضوء على الطبيعة الحقيقة لولي العهد السعودي “الأمير المبتسم”، كما وصفته مجلة “التايم” التي اختارت الصحفي المغدور الذي أراد قاتلوه محوه من الوجود فخلدوه، ليكون رفقة زملاء آخرين له في مهنة المتاعب شخصية العام 2018، فهو في نظرها الأيقونة الجديدة لأولئك “الحراس” الذين قدّموا تضحيات كبيرة في خضمّ ما أسمتها “الحرب على الحقيقة”.
وبقدر ما كان هذا الاختيار وكأنه يدق المسمار الأخير في نعش محاولات الرياض تسويق صورة محمد بن سلمان داخل الساحة الأمريكية، فإنه ألقى بظلاله الثقيلة على البيت الأبيض في ظل الاتهامات الموجهة إليه، بالتعامل مع قضية خاشقجي بمنطق الصفقات والمصالح الاقتصادية.
وكادت الإدارة الأمريكية أن تستغلَّ نفوذها على السعودية بالنظر إلى الجهود التي بذلها رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، السيناتور الجمهوري بوب كوركر، للتصويت على مشروع قرار يحمّل ولي العهد السعودي المسؤولية عن قتل خاشقجي، كما دعا مشروع القرار إلى وقف سياسات سعودية عدوانية أخرى كالحملة العسكرية في اليمن واعتقال نشطاء حقوق الإنسان.
ورغم أن هذا الإجراء غير ملزم، إلا أنه يمثل توبيخًا لترامب الذي هدد بتوقيع عقوبات رادعة على المتورطين في جريمة الاغتيال، لكنه كان حذرًا في إلقاء اللوم على الإدارة السعودية، رغم استنتاجات وكالة الاستخبارات الأمريكية التي خلصت إلى ضلوع ولي العهد في مؤامرة قتل خاشقجي، لكن ترامب قال إن استنتاجات الوكالة غير حاسمة، وآثر الحفاظ على صفقات الأسلحة التي أبرمها مع ولي العهد السعودي، وفشلت إدارته في معاقبة السعودية، بل على العكس عززت العلاقات معها.
وعلى الساحة الدولية أيضًا، مرَّ ابن سلمان بعاصفة قوية، بدايةً من تركيا التي استمرت في الضغط عن طريق لعبة التسريبات لمقاطع تصف التسجيلات الخاصة بأحداث القنصلية، لكن في أبريل/ نيسان 2022، وعلى وقع المصالحة التركية مع السعودية، أوقفت السلطات التركية محاكمة المتهمين السعوديين المتورطين في جريمة الاغتيال، وأحالت القضية إلى السعودية، في خطوة أثارت انتقادات حقوقية، ويعتقد أنها كانت شرطًا سعوديًا أساسيًا للبدء في ترميم العلاقات التي تكلّلت بتوقيع اتفاقيات استثمارية ودفاعية تشمل شراء مسيّرات تركية.
واتخذت دول غربية أخرى في بداية الأزمة بعض الإجراءات، مثل ألمانيا التي أوقفت تصدير السلاح للرياض كردّ فعل على مقتل خاشقجي، وتنفيذًا لوعود سابقة بتعليقها بسبب التدخل العسكري السعودي في اليمن، وتمّ تمديد الحظر مرارًا وتكرارًا، لكن المصالح تغلبت على القيم مرة أخرى مع تجدد صادرات الأسلحة الألمانية إلى السعودية في النصف الأول من عام 2023.
كما قاطعت الشركات الكبرى مؤتمرًا اقتصاديًا استضافته الرياض في عام 2018، لكن تلك العاصفة سبقت الهدوء الذي يتمتع به ولي العهد منذ سنوات في ظل دعم البيت الأبيض له، فبعد أن تعهّد الرئيس الأمريكي جو بايدن، قبل أن يصل إلى البيت الأبيض وخلال حملته الانتخابية عام 2019، بتحويل السعودية إلى “دولة منبوذة” بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، تعمّدت الإدارة الأمريكية تجاهل هذه الانتهاكات إعلاءً لمصالح مع أكبر منتج للنفط في العالم.
متحدثة البيت الأبيض ردًا على سؤال صحفي يرى أن بايدن خضع للسعودية بعدما تعهد أن يجعل السعودية دولة منبوذة :
نعم تعهد بايدن لا يزال قائم حتى اليوم .
——
بعد ساعات ..
بايدن :
أشكر قيادة السعودية الشجاعة لجهودها في تمديد الهدنة في اليمن .
—
— حسين الغاوي (@halgawi) June 2, 2022
ومنذ ذلك الحين، تهافت مسؤولو البيت الأبيض على الرياض، ولم تنقطع الزيارات المكوكية بين واشنطن والرياض، فقبل أيام من ذكرى اغتيال خاشقجي الثالثة في عام 2021، التقى مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بولي العهد السعودي المتهم بإصدار أوامر اغتيال خاشقجي، وهو ما دأب مسؤولون سعوديون على نفيه.
وبعد أن كانت مخاوف الرياض مكشوفة للعيان، وتنم تصريحات سياسييها عن خوف من قطع علاقاتها مع حلفائها، يبدو أن ولي العهد سعى لشراء حريته وتعزيز فرص بقائه في السلطة، وإنهاء عزلته السياسية والعودة إلى المشهد الدولي بعد ما ألمّ بصورته من تبعات اغتيال خاشقجي.
ورغم أن الروايات المتضاربة التي قدمتها السعودية، والإجراءات القضائية التي اتخذتها لم ترقَ إلى مستوى المصداقية، لم يقدم الديمقراطيون الذين تولوا رئاسة مجلس النواب بعد أشهر قليلة من اغتيال خاشقجي إجراءات جديدة تفضي إلى فرض عقوبات على جميع المسؤولين عن الجريمة، بمن في ذلك محمد بن سلمان.
وبدلًا من أن تدعم الولايات المتحدة قيمها بالإصرار على تحقيق العدالة في قضية خاشقجي، سمحت واشنطن بأن تكون المحاكمات العبثية التي أجرتها السلطات السعودية المشهد الأخير من مأساة خاشقجي، التي أظهرت غياب الأخلاق في العلاقات السعودية الأمريكية.
ورغم أن اختفاء خاشقجي القسري وتعذيبه وإعدامه خارج نطاق القضاء يمثل جرائم بموجب القانون الدولي، تركز اهتمام العالم خلال الفترة الأخيرة على قضايا أخرى في المملكة، مثل الاتفاق الأمني المرتقب مع الولايات المتحدة، وأيضًا إعلان شركة “لوسيد” لصناعة السيارات الكهربائية عن تدشين أول مصنع عالمي لها في جدة.
وبدلًا من الإحجام عن التعامل مع حكام المملكة والضغط لتحقيق العدالة على وجه السرعة، ومقاضاة مرتكبيها من قبل أي دولة من خلال الولاية القضائية الدولية، تغاضى المجتمع الدولي عن الأمر ضمنيًا، ومدَّ السجادة الحمراء لقادة السعودية في أي فرصة، ووضع المصالح الدبلوماسية والاقتصادية قبل حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية الأساسية.
نحو مزيد من القمع
منذ مقتل خاشقجي، كثفت السلطات في المملكة بقيادة محمد بن سلمان حملتها القمعية المروعة على نطاق غير مسبوق، خصوصًا بعدما احتكر عملية صنع القرار، وسيطر على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في المملكة، وعزز قبضته على السلطة، واستبعد جميع معارضيه، وأعطى الضوء الأخضر لاستخدام تدابير عنيفة لإسكات المعارضين.
وأثّر غياب الخيارات المتوفرة لإحقاق العدالة وملاحقة ومحاسبة الآمرين والمنفذين، على استمرار النظام السعودي في ملاحقة المعارضين في الداخل والخارج، حيث قوبلت بوعود رسمية سعودية بمحاسبة الفاعل.
وعلى مدى العامين الماضيين، وثّقت منظمة العفو الدولية حملة قمع متصاعدة في السعودية، ففي عام 2022 وحده حُكم على 15 شخصًا بالسجن لمدد تتراوح بين 10 و45 عامًا لمجرد ممارسة أنشطة سلمية عبر الإنترنت، بما في ذلك أطول عقوبة سجن يعتقد أنها فُرضت على امرأة سعودية على الإطلاق بسبب التعبير السلمي عبر الإنترنت.
واستخدمت المحكمة الجزائية المتخصصة أحكامًا غامضة بموجب قوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية ومكافحة الإرهاب والتي تساوي بين التعبير السلمي والنشاط عبر الإنترنت و”الإرهاب” لمقاضاة هؤلاء الأفراد الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت للتعبير عن آرائهم.
وتعرض هؤلاء الأفراد لمجموعة من انتهاكات حقوق الإنسان أثناء احتجازهم، بما في ذلك احتجازهم بمعزل عن العالم الخارجي وفي الحبس الانفرادي، غالبًا لعدة أشهر في كل مرة، وحرمانهم من الوصول إلى محامٍ طوال فترة احتجازهم قبل المحاكمة، كما تعرض بعضهم لحظر سفر تعسفي، في انتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وتعدّ السعودية أحد أكثر دول العالم في تنفيذ أحكام الإعدام، ففي عام 2022 أعدمت 196 شخصًا، وهو أعلى عدد سنوي لعمليات الإعدام التي سُجّلت في المملكة في السنوات الـ 30 الماضية، وهذا الرقم أعلى بـ 3 مرات من عدد عمليات الإعدام التي نُفّذت في عام 2021، وأعلى بـ 7 مرات على الأقل من عام 2020.
ولا يزال الخوف من الاستهداف موجودًا لدى الأصوات المعارضة، ففي حلقة جديدة في مسلسل ملاحقة المعارضين السعوديين في الخارج، سعت السعودية كذلك إلى تجاوز قضية أخرى أثارها ضابط المخابرات السعودي السابق سعد الجابري، الذي ادّعى أمام محكمة أمريكية ضد ولي العهد السعودي، متهمًا إياه بإرسال فريق لاغتياله في كندا.
وبالنسبة إلى أصدقاء خاشقجي، فإنهم غير بعيدين عن آلة القتل السعودي، فالناشط الفلسطيني المقيم في النرويج إياد البغدادي يقول إنه تحت الردار السعودي منذ اغتيال خاشقجي، بسبب مبادرات بدأت قبل وفاته، ما دعا المخابرات النرويجية إلى التواصل معه، مؤكدة أنه مستهدف بالفعل، ووضعته تحت الحماية.
بموازاة ذلك، أنفقت السلطات السعودية مليارات الدولارات في محاولة لإعادة تأهيل صورتها، لكن هل يمكن لأي مبلغ من المال أن يمحو مدى القمع الذي وصلت إليه البلاد؟ كان هذا سؤال فيليب لوثر مدير الأبحاث والمناصرة في منظمة العفو الدولية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وبعد مرور 6 أعوام، ليس من الواضح متى وكيف ستتمكن السعودية من محو وصمة العار التي تلاحقها، لكن من الواضح رغم علامات الاستفهام الكثيرة حول العدالة المغيّبة، أن جريمة مقتل خاشقجي نقطة فارقة لن ينساها كثيرون، ولا يُستبعد أن ترتكب مرة أخرى.