في 27 سبتمبر/أيلول الماضي، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ليلقي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، رافعًا خريطتين، الأولى أطلق عليها اسم “خريطة البركة” والثانية “خريطة اللعنة”.
تظهر الخريطة الأولى الملوّنة بالأخضر، ما أسماه نتنياهو “محور إسرائيل وشركائها العرب”، الذين حسب قوله “يشكّلون جسرًا بريًا يربط آسيا وأوروبا بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط”، بينما تشير الخريطة الثانية الملوّنة بالأسود، إلى خط يمتدّ من إيران للبنان، قال نتنياهو إنه يمثّل “قوس الإرهاب الذي أنشأته إيران وفرضته من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط”.
ربما يكون حديث نتنياهو عن “الشرق الأوسط الجديد” ليس جديدًا، فقد ذكره على نفس المنصة العام الماضي في سبتمبر/أيلول أيضًا، قبل أيام من عملية “طوفان الأقصى”، وعرض حينها خريطة واحدة فقط، شملت مناطق مكسية باللون الأخضر الداكن، للدول التي تربطها اتفاقات سلام مع “إسرائيل” أو التي تخوض مفاوضات معها، وهي –حسب الخريطة -: مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن.
ثنائية الحرب والسلام
تأتي خريطة نتنياهو “الجديدة” في وضع مختلف جذريًا، فإذا كانت خريطته الأولى تشير إلى مفهوم “السلام” فقط، فإن خريطته الثانية تتحدث عن مسارين اثنين قد يطبعان مستقبل المنطقة القريب بوقائع دراماتيكية، تمضي بشكل متسارع أكثر مما ينبغي، وهما مسارا: الحرب والسلام.
المسار الأول، فإن ما يجري حاليًا في لبنان ومواقع من سوريا واليمن، يُعدّ التفسير الأوضح له، أما المسار الثاني اعتبر نتنياهو أن “عبر هذا الجسر (البري)، سنضع خطوط السكك الحديدية، وخطوط أنابيب الطاقة، وكابلات الألياف الضوئية، وهذا سيسهم في تحسين حياة ملياري شخص”.
ومما لا شكّ فيه أن خريطتَي نتنياهو تتعلقان بتعهّده – بعد يومين فقط من عملية “طوفان الأقصى” – بـ”تغيير منطقة الشرق الأوسط”، وذلك خلال اتصال هاتفي مع رؤساء المجالس المحلية الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة، حيث قال لهم: “أطلب منكم أن تقفوا بثبات لأننا سنغيّر الشرق الأوسط”، ولم يفهم أحد حينها أنه هدفه فقط كان القضاء على حركة حماس في غزة، الهدف الذي لم يتحقق حتى اليوم.
وبعد يومين من خطابه في الجمعة العامة للأمم المتحدة كرر نتنياهو الحديث عن تغيير الشرق الأوسط بزخم أكبر ونبرة أقوى، مع إعلانه انضمام رئيس حزب “أمل جديد” جدعون ساعر، إلى حكومته، حيث قال في مؤتمر صحفي إن “تغيير موازين القوى يجلب تحالفات جديدة لإسرائيل لأنها تنتصر”.
وأضاف: “كما هو مكتوب في التوراة سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم.. قلت بالأمس إننا نمر بأيام عظيمة، لكنها في الوقت نفسه أيام مليئة بالتحديات.. أيام كبيرة لأننا نقوم بتغيير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط”.
تتشابه أحداث التاريخ في استثمار الفرص بهدف إطلاق عملية تغيير في الشرق الأوسط، فعقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وجد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش فيها إذنًا صارخًا ببدء عملية التغيير التي أرادها في الشرق الأوسط، وأطلق على إثرها عمليتي غزو أفغانستان 2001، والعراق 2003، وتزامن ذلك مع وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي المدعوم من المحافظين الجدد إرييل شارون، من حزب الليكود الذي يؤمن بحلم “إسرائيل الكبرى”، وحينها استثمر شارون هذه الفرصة وأطلق العنان لسياسة القبضة الحديدية ضد الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وفي تكرار شبه حرفي للتاريخ، أصبحت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول ضد “إسرائيل” الحدث الموازي لهجمات سبتمبر، وتزامنت مع فترة رئيس حكومة يمثل أشرس تيار لدى المحافظين الجدد، وهو نتنياهو، الذي ينتمي أيضًا إلى حزب الليكود، ويلحّ اليوم ألا يكون الردّ على “طوفان الأقصى” واقعًا ضمن حدود غزة فقط، إنما يريد مشهدًا جديدًا لا وجود فيه لإيران في محيط دول الطوق، وهو يكرر بشكل ضمنيّ العبارة الشهيرة التي أطلقها بوش عقب هجمات أيلول: “من ليس معي، فهو ضدّي”.
المرحلة الثانية لـ”التغيير”
فعليًا، بدأ نتنياهو عملية التغيير بالمنطقة قبل هجمات 7 أكتوبر، وتحديدًا يوم أطلق – برعاية أمريكية – “اتفاقات أبراهام للسلام”، التي أدّت إلى تطبيع العلاقات مع عدة دول عربية هي نفسها التي ضمّتها “خريطة البركة” الأخيرة، وبين العامين 2020 و2023 ساد اعتقاد بأن موجة التطبيع ستغطي معظم المنطقة العربية، ولا سيّما بعد أنباء دخول تل أبيب في مفاوضات سرّية مع السعودية للدخول في تلك الاتفاقات.
وفي خضم ذلك جاءت عملية “طوفان الأقصى” بمثابة ضربة كبيرة لمشروع اتفاقات السلام، وواجهت إيران اتهامات إسرائيلية صريحة بالوقوف وراء الهجوم.
ومثلما شكّلت هجمات سبتمبر تحدّيًا كبيرًا للولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة وبدء مرحلة “القطب الواحد”، شكل كذلك هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول تحديًا لجهود نتنياهو في إقناع المنطقة باتفاقات السلام، وبات الهدف الأول لحكومته الأكثر تطرفًا في تاريخ “إسرائيل” هو: فرض “السلام” عن طريق “الحرب”، لا سيما أنه مدعوم بموقف أوروبي أمريكي يتجاوز مفاهيم السياسة والحرب نحو مفهوم الاقتصاد.
وضمن ما سبق عزف في كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، على وتر حساس جدًا لدى القوى العظمى، يتعلق بـ”خطوط أنابيب الطاقة، وكابلات الألياف الضوئية”، وأن هذا “سيسهم في تحسين حياة ملياري شخص”، في مقابل سعي إيران وحلفائها – وفق قوله – لإغلاق الممرات المائية الدولية، وقطع خطوط التجارة، والراجح أن الغرب لا يريد أبدًا تكرار نموذج “روسيا” جديدة، تتحكم بخطوط الطاقة والغذاء، وخصوصًا بعد الأزمة العالمية التي أعقبت الحرب في أوكرانيا 2022.
وفي قراءة متأنّية لما يجري على الأرض من جهة، وفي سياق التصريحات من جهة ثانية، يتبدّى أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” بدأتا فعليًا في مرحلة يمكن تسميتها بـ”خلق واقع جديد مضادّ لواقع ما بعد 11 سبتمبر/أيلول”، عبر تغيير الواقع العسكري والسياسي وخرائط النفوذ في عدة مناطق بالشرق الأوسط، بدءًا من سعيها لإبعاد حماس تمامًا عن حكم غزة، مرورًا بإبعاد حزب الله عن التحكم والسيطرة في لبنان، و”خلق نظام جديد” وفق تعبير الناطق باسم الجيش الإسرائيلي لشبكة “سي إن إن“.
وصولًا إلى إيران نفسها كما يظهر في الخطاب الذي وجّهه نتنياهو للشعب الإيراني قبل أيام، والذي قال فيه: “لا تسمحوا لحفنة من الحكام الدينيين بسحق تطلّعاتكم وأحلامكم.. عندما تتحرّر إيران أخيرًا – وسوف تأتي تلك اللحظة أسرع بكثير مما يتصوّره الناس – فإن كلّ شيء سيكون مختلفًا”.
أما موقف الأنظمة العربي، لا يبدو لديهم أيّ خيارات لقبول أو رفض الانعكاسات التي تؤدّي إليها تلك التطورات، في سيناريو شبيه بما حصل بعد غزو العراق عام 2003، بل إن دولة الإمارات التي يمكن اعتبارها “قائدة محور التطبيع” مع “إسرائيل”، أبدت مؤخرًا على لسان المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة “أنور قرقاش”، ترحيبًا ضمنيًا بالمشهد الحالي.
وشدد قرقاش في تغريدة على حسابه بمنصة “إكس”، على “ضرورة استعادة مفهوم الدولة الوطنية” كحلّ وحيد لمواجهة التحديات الأمنية التي تهدّد المنطقة العربية، موضحًا أن “زمن الميليشيات.. كلّف العرب كثيرًا”، في إشارة ضمنية إلى “حزب الله” وحركة حماس من جهة خصوصًا، ومجمل الفصائل الإيرانية في المنطقة من جهة ثانية.
في ظل الحروب والأزمات التي تهدد الأمن العربي والإقليمي، لا خيار أمامنا إلا باستعادة مفهوم الدولة الوطنية واحترام استقلالها وسيادتها. زمن المليشيات بأبعاده الطائفية والإقليمية كلف العرب كثيرًا وأثقل كاهل المنطقة
المستقبل للأمن والسلام والازدهار بمشروع عربي مستقل ومتصالح مع محيطه
— د. أنور قرقاش (@AnwarGargash) October 4, 2024
فرص النجاح والفشل
نظرًا للتفوق العسكري والتكنولوجي والدعم الغربي السخي لـ”إسرائيل”، يمكن القول إن نتنياهو لن يتراجع عن تحقيق “حلمه التوراتي” في التوسّع شمالًا بلبنان وأجزاء من سوريا، والقضاء على أي تهديدات تجعل الكيان في خطر، إما بالقوة وإما عن طريق اتفاقات التطبيع.
غير أن تيارًا كبيرًا حتى داخل الولايات المتحدة، يرى أن نتنياهو يغامر بجرّ المنطقة إلى حرب شاملة، ولا سيما أن محور المقاومة لن يرفع الراية البيضاء في الوقت الحالي ولا يزال قادرًا على المجابهة، وفقًا لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، التي اعتبرت أن “تصرفات إسرائيل على مدى الأسابيع القليلة الماضية كانت إنجازًا تكتيكيًا مذهلًا”، لكنها شكّكت بأن هذه “الإنجازات التكتيكية” تُمكّن نتنياهو من قلب الطاولة وتحويل ميزان القوى الإقليمي لصالح “إسرائيل” إلى الأبد.
ويشبّه المقال سياسة نتنياهو حاليًا بسياسة جورج دبليو بوش في مطلع الألفية الجديدة، مشيرًا إلى أن الحملة التي شنّها المحافظون الجدد للإطاحة بصدام حسين في العراق، كانت مستوحاة جزئيًا من الرغبة في جعل “إسرائيل” أكثر أمنًا، وهو السبب الذي دفع لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية وزعماء إسرائيليين مثل نتنياهو، إلى مساعدة إدارة بوش في الترويج للحرب.
وتشير “فورين بوليسي” إلى نقطتي تحوّل مهمتين في مشروع نتنياهو، ستكون الأولى حال بدأت الولايات المتحدة في خسارة جنودها أو بحّارتها في حرب أخرى في الشرق الأوسط، فسوف يُنظَر إلى هذا على نطاق واسع وبحق باعتباره تعريضًا للأمريكيين للخطر “نيابة عن دولة عميلة جاحدة للجميل على الدوام، تتلقى الأموال والأسلحة من الولايات المتحدة ثم تفعل ما يحلو لها”.
أما نقطة التحوّل الثانية، فهي خسارة كامالا هاريس للانتخابات بسبب سياسة بايدن ووزير خارجيته بلينكن، إذ سيُعتبر ذلك رد فعل صريحًا من قبل الشعب الأمريكي برفض الانجرار وراء سياسة نتنياهو التدميرية التوسّعية، ليبقى حينها السؤال الجوهري: هل يستطيع نتنياهو تغيير الشرق الأوسط بمفرده؟