ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ وقت ليس ببعيد، توجه لي أحد الصحفيين الفرنسيين بسؤال: “ما هو السؤال الفلسفي الأكثر إلحاحًا لهذا القرن الجديد؟”، متسببا بذلك في شعوري بغضب مستمر منذ ذلك الحين. في الواقع، لستُ بفيلسوف، بل إنني كاتب وصحفي، أي أنني رجل معني بمتابعة الأحداث الجارية وتغطيتها، لكنني لا زلت رجلا يشعر بالقلق إزاء الفترة المتبقية من حياته ومعنيا بالبحث عن الأجوبة المحتملة لحل أحجية وجوده في الحياة.
الآخر
لفترة طويلة من الزمن، اعتقدت أن الموت كان لغزا يجب على المرء أن يكرس تفكيره للنظر فيه، لكنني علمت مؤخرا أنني كنت مخطئا، إذ أن العيش هو اللغز. ومن هذا المنطلق، تعد المصادفة بين كوني عاديا بصفة أساسية، وبين صدفة ولادتي وبين التفرد المطلق لحياتي لغزا كبيرا.
إن الأمر يعتبر بمثابة حل جريمة قتل، حيث أنك تقود تحقيقا ما على نحو لا يهدف لمعرفة هوية القاتل، بل يطمح لمعرفة من يكون على قيد الحياة وما هي أسباب ذلك. وفيما يتعلق بسؤال الصحفي الفرنسي، فقد تجاوبت معه بشكل تلقائي وقلتُ إن السؤال الأكبر يتمحور حول الآخر من منظور فلسفي. وحسب رأيي، إن أكبر سؤال في هذا القرن هو: “ما الذي يمكنك صنعه من الآخر؟”. وفي أوقات السلم والسلطة، يمكننا الاستجابة من خلال الفضول الغريب أو الاستشراق أو القيام برحلات السفاري أو السفر أو التعدد والتعاطف. وفي أوقات الأزمات، ستختلف الإجابات وتتمحور حول الإنكار أو القتل أو اللامبالاة أو الرُهاب.
يستخدم بعض الناس في بلدي الجزائر مفهوم الهوية كذريعة لرفض الانفتاح على العالم
أثناء كتابتي لهذه السطور، تبادرت لذهني أفكار تحثني على الحديث معك حول الهوية وأوجه قصورها وعجائبها. وتلخص كلمة “هوية” الحاجة إلى الاختلاف والحفاظ عليه بهدف إثراء كل لقاء نقوم به مع الآخرين، لكنها تحتوي أيضا على أثر للأنانية ورفض للآخر وإجماع من شأنه اكتساب صبغة متطرفة أو انتحارية. وتعتبر الهوية تلك الأمور التي تمثلني حتى أتمكن من مشاركتها، لكنها تمثل أيضا ما أنا عليه عندما أرفض الاختلافات. وعندما يتعلق الأمر بالفن، تكون الهوية ما أعرضه على الآخرين، في حين يختلف تعريف الهوية عندما تكون في إطار الخوف، لتصبح المكان الذي ننسحب إليه ونختبأ فيه. ويمكن للهوية أن تكون مشتركة أو أصولية، وهو ما يجعلها غامضة مثل الثروة، فتصبح بذلك مكانا للتناقص.
الهوية: مكان للتناقض
يستخدم بعض الناس في بلدي الجزائر مفهوم الهوية كذريعة لرفض الانفتاح على العالم، في حين يُستخدم هذا المفهوم في بعض البلدان الغربية كسبب يبرر رفضهم لرفض العالم بكل تنوعه. لذلك، تعتبر كلمة هوية قريبة من الأصولية والتفرد في آن واحد. وفي حال عدنا للنظر في الأساطير والقصص القديمة، يمكن للمرء أن يتحدث عن الآخر من خلال قصص ذائعة الصيت، على غرار قابيل وهابيل، فضلا عن رواية “الغريب” للكاتب الفرنسي ألبير كامو، التي تضمنت قتل الشخصية الرئيسية ميرسولت لمواطن عربي، بالإضافة إلى شخصية جمعة وروبنسون كروزو وقصة أندريه جيد التي تروي حكاية شاب عربي. وبشكل عام، هناك ألف نوع من هذه القصة.
تكون هذه القصص في بعض الأحيان سعيدة، لكنها تكون في أحيان أخرى بائسة وتزخر بمفردات الازدراء والتعالي. ويمكن القول إن الاستعمار يعد قصة حول الآخر، لكن الحب يتمحور أيضا حول الآخر في الحياة اليومية. ويعد الآخر المرآة المشوَّهة للذات، فيمكن لنا بذلك كسر المرآة ورفض هذا الانعكاس ومحاولة خلق صورة معدلة ونابعة عن طبيعتنا النرجسية، أو يمكننا التأمل في أسرار ذواتنا. وفي روايته التي تحمل اسم “الجمعة، أو الجزيرة الأخرى”، يستكشف الكاتب الفرنسي ميشيل تورنييه أكثر جذور الآخر إثارة وفلسفية.
يمكننا التحدث أيضا عن الآخر في سياق الأحداث الجارية في البحر الأبيض المتوسط، حيث تطرح الهجرة اليوم شكلا مأساويا من سؤال القرن: “ما الذي ينبغي علينا فعله مع الآخر؟”.
ترجمات مختلفة لرواية الكاتب التي تحمل عنوان “تحقيق ميرسولت” في منزله بمدينة وهران الجزائرية
لذلك، يمكن لأحدهم أي يقوم بإطلاق النار على أحد المهاجرين بالقرب من الحدود، ثم الاستلقاء تحت أشعة الشمس أثناء مشاهدته لغرقه، ومساعدته خلال المخاطرة بالإخلال بالتوازن الهش للدول المضطربة فعلا، واعتباره مصدرا للإساءة والشعور بالذنب، وهو ما يخلق مشهدا مأساويا نحن لسنا مسؤولين عن مجرياته، أو خطرا محدقا بإمكانه قض مضجع الجميع تحت وطأة الضغط المسلط من العالم.
في غالب الأحيان، تُوجّه لي بعض الأسئلة التي تتعلق بالهجرة، فضلا عن سؤال “ما الذي سنفعله إزاء المهاجرين؟” و” ما الذي يريده الإسلاميون؟” و”لماذا تكتب؟”. وعندما نعود للنظر إلى الأساطير الواردة في الإنجيل، نجد تلك القصة الرائعة لسيدنا يونس، النبي الذي عرف بمروره بكرب وإلقائه في البحر ثم التوبة على نحو غير مسبوق. وفي البداية، يأمره الله بإنقاذ مدينة لا يعتنق الناس فيها ذات الديانة التي يعتنقها هو، فيمتنع عن ذلك ويغادر.
تأثرت بسبب امتناع سيدنا يونس عن طاعة خالقه بشدة، حيث قال إنه يشعر بالتعجب حول السبب الذي سيدفعه لإنقاذ مدينة يسكنها أشخاص مختلفون عنه ولا يبالون به، ويختلفون عنه فيما يتعلق بعرقه ولون بشرته، فضلا عن جهله لسبب كون مسألة الخلاص تمتد لأشخاص غرباء. وعقب ذلك، رحل سيدنا يونس ثم عاد إلى الموقع الذي شهد امتناعه في السابق. وخلال رحلته بين مدينة نينوى التي ضمت هؤلاء الغرباء ومدينة ترشيش على متن سفينة بحرية، قادت الإرادة الإلهية البحارة إلى رمي سيدنا يونس في البحر، ليبتلعه حوت عملاق في وسط هذه العاصفة.
في نهاية المطاف، يعود النبي يونس إلى نينوى، التي أنقذها الله في ذلك الوقت، وتُختتم القصة بإظهار الله لدرس لا يزال يؤثر في، وهو إنبات نبتة خروع عند رأس نبيه يونس ثم يُميتها بسرعة. وتدفع هذه العملية سيدنا يونس عليه السلام للبكاء.
غياب الضمير
تأثر سيدنا يونس بموت الشجرة أو ما يعرف باسم الالتزام البيئي، لكنه لم يتأثر بالمدينة المهددة بالنار والانتقام. وتفيد الأسطورة بأن سيدنا يونس كان ينعى موت شجرة كان قد استلقى تحت ظلها، والتي جعلها الله تنمو ثم عجل بموتها بملء إرادته، لكنه لم يكن يشعر بالأسى إزاء الضحايا المحتملين في أماكن أخرى. وبذلك، أظهر سيدنا يونس في البداية أنه غير حساس تجاه موت شقيقه الإنسان.
لا يمكنني الجزم بشأن الغرب واعتباره عادلا أو غير عادل، فأنا لا أستمتع بانتظار العدالة أو انتظار تصرف أحدهم بسخاء معي أو منحي هدية ما
إن غياب هذا الضمير، الذي يكون في بعض الأحيان عن حسن نية، يعتبر أحد التهم الموجهة نحو الغرب، حيث يعتبر متهما باقتراف هذا الذنب نظرا لماضيه الاستعماري وسرقته لأراضي المستعمرات وثرواتها وكرامة أهاليها. وفي الوقت الحالي، لا يزال الغرب متهما باسم الماضي واللامبالاة المعقدة التي يمكنها دفع شعب بأكمله للبكاء بسبب نهاية فيلم تايتانيك، في حين يصرف نظره عن غرق مئات الأشخاص في مياه البحر الأبيض المتوسط. بموجب ذلك، يمكننا التأكيد على أن الغرب مذنب.
لكنني أنا اعتبر مذنبا أيضا
من المرجح أن العبارة الأكثر فظاظة للتعبير عن سخطي تجاه شعبي هي القول إنهم يمتلكون القدرة على اتهام الغرب بجميع الشرور التي تصيبنا أثناء تملصنا من مسؤوليتنا كل يوم، وذلك عند مواجهة أي فشل. وفي بلدي، غالبا ما أتعرض للتوبيخ بسبب كلماتي الفَضّة، وبسبب ممارستي لحقي في الوضوح، وغالبا ما يفسر ذلك بشكل خاطئ ويُنظر إليه على أنه كراهية ذاتية، لكن هذا الوضوح يتطلب مني أن أكون متطلبا تجاه نفسي وسكان بلادي بشكل استثنائي.
بالنسبة لي، لا يمكنني الجزم بشأن الغرب واعتباره عادلا أو غير عادل، فأنا لا أستمتع بانتظار العدالة أو انتظار تصرف أحدهم بسخاء معي أو منحي هدية ما. أنا مسؤول عن عالمي، ولا يمكن حجب هذه المسؤولية عن طريق الخطاب المعتاد ما بعد الاستعمار، والذي أصبح يمثل صراعا أيديولوجيا على الرغم من أنه كان في وقت من الأوقات نداء من أجل التعويض والاعتراف بالخطأ.
فصل دراسي في الجزائر.
يمتد هذا الشرط لنا جميعا، ولكل واحد منا. وأنا رجل تعب من سماع أننا ضحايا وأن الغرب هو جلادنا، ناهيك عن كونه المسؤول الوحيد عن أزمتنا الحالية. لقد طالبت قدر المستطاع أن نقوم بتحمل ثقل العالم ونعيد إحياء ضمائرنا، والتي أصبحت متصلبة بسبب النشاط الذي عفا عليه الزمان.
كيف يمكنني أن أكون واضحا في ملاحظاتي؟ في كثير من الأحيان أنت تدعوني إلى الحديث عن مأساة المهاجرين، حيث يتوقع قسم كبير من الأشخاص الذين يسألونني حول هذا الموضوع مطالبتي بمحاكمة المسؤولين عن ذلك أو إدانتي للهجرة. لذلك، يعتبر شعورنا بالغضب نابعا عن عدم تضامننا في مواجهة مآسي العالم، فأنت تطلب مني توجيه أصابع الاتهام إلى المسؤولين وإصدار الأحكام، في حين أقبل بهذا الأمر. في المقابل، أنا أقوم بذلك باعتماد نهج مختلف، وذلك بإلقاء اللوم علينا بصفة مستمرة، على أمل التوصل إلى خلاص نكون جميعا قادرين على كتابة أطواره.
لا زلت أتذكر هذا الحدث، خلال معرض فرانكفورت للكتاب، حيث كان من المفترض أن أتحدث عن المهاجرين وكان الأمر أشبه بالتحدث عن جريمة ارتكبها الغرب. لقد أجبت من خلال التأكيد على أحد أشكال اللامبالاة في المعاملة التي تعرض لها المهاجرون بمجرد وصولهم. إن ما يهمني أكثر، كساكن في الجنوب، ليس ظروف وصولهم ولكن أسباب مغادرتهم؛ فكيف يمكن تغيير هذه الظروف، ومواجهتها وعكسها؟
إن غياب الضمير لدى الغرب، الذين يخيرون راحتهم على إنقاذ المهاجرين الغارقين، هي نفس السياسة التي نمارسها نحن أيضًا في الجنوب، خاصة في موقفنا تجاه تدفق المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى
إن هذا الأمر لا يتوافق مع التقاليد الثقافية طويل الأمد خلال فترة ما بعد الاستعمار، لكن هذه هي الحقيقة. أنا أترك للآخرين المهمة المشروعة المتمثلة في الدعوة إلى الترحيب بالمهاجرين بطريقة إنسانية، ولكن عوضا عن ذلك، أحتفظ لنفسي بالحق في استنكار الأسباب غير الإنسانية لرحيلهم. أنا أرفض منع ضميري السماح لبلادي باستضافة محاكمة الغرب دون افتراض معاملتي اللاإنسانية تجاه المهاجرين في بلدي.
الخلاص للغرباء
بطبيعة الحال، الأمر لا يتعلق بالعفو عن الغرب لإرضائهم، فأنا لا أعيش هناك كما أنني لست من محبي المساومات الأخلاقية والإنكار. لقد كان الاستعمار عبارة عن جريمة، لكن إخفاقاتنا الحالية كانت كذلك أيضا. ويجب على النخبة من “الجنوب” قبول هذه الإخفاقات والتوقف عن إنكارها من خلال اتهام أولئك الذين لا يفكرون في أن يكونوا خونة مثلهم. لقد دفعنا إنكار المسؤولية، في الجنوب، إلى الدفاع عن غياب الضمير في كل كارثة كتغاضي عن الجريمة.
في كل يوم في بلدي، أقرأ وأعيد قراءة المقالات في الصحف المحافظة أو الإسلامية التي تصف المهاجرين من جنوب الصحراء بالأفارقة كما لو كنا نحن سكان منطقة المغرب العربي، يابانيين. وتدّعي هذه الصحف أن هؤلاء المهاجرين هم مجرمون عنيفون، يحملون الأمراض كما أنهم يشكلون تهديدا، أي بعبارة أخرى، نفس الجرائم التي يُتهم بها المهاجرون غير الشرعيون من المغرب العربي في أوروبا.
الضمير الفكري والأخلاقي في الجنوب ليس أكثر تعاطفا من الضمير الغربي الذي سيعرض على المحاكمة، والمتهم بارتكاب جميع المآسي التي تحدث في العالم
إن غياب الضمير لدى الغرب، الذين يخيرون راحتهم على إنقاذ المهاجرين الغارقين، هي نفس السياسة التي نمارسها نحن أيضًا في الجنوب، خاصة في موقفنا تجاه تدفق المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى. وفي نفس الصحف الآنف ذكرها، يمكنك قراءة مقالة يقع فيها انتقاد عملية الترحيل الوحشية للمهاجرين الجزائريين في فرنسا إلى جانب جملة قصيرة تقول إن 500 مهاجر من جنوب الصحراء قد تم ترحيلهم من مدينة جزائرية ظنا بأن أحدهم قد ارتكب جريمة.
إن الضمير الفكري والأخلاقي في الجنوب ليس أكثر تعاطفا من الضمير الغربي الذي سيعرض على المحاكمة، والمتهم بارتكاب جميع المآسي التي تحدث في العالم. ويجب التذكير والتنديد بذلك في حال أردنا إحداث تغييرات على إنسانيتنا وعالمنا. وقد كان النبي يونس مذنبا عند رفضه تقديم الخلاص للغرباء. وبعض التيارات الأيديولوجية والناخبين في أوروبا مذنبون لارتكابهم هذا الأمر، كما أن المثقفين وشعب الجنوب مذنبون أيضا.
الجزائر، المعروفة باسم بلد العبور، وهي أيضاً بلد مضيف، حيث يختار المهاجرون الاستقرار والعثور على وظيفة
كي تكون قادرا على اتهام الغرب، يجب أن تكون يداك نظيفتين، وأنا يداي ليست كذلك. كل واحد منا يشبه يونس في بعض الأحيان، ففكرة تقديم الخلاص للغرباء والحاجة إلى إيجاد أخلاقيات التضامن التي تتجاوز هذه الاختلافات مهمة كثيرا بالنسبة لي. ويمكننا أن نتحدث إلى ما لا نهاية عن الهوية والاستعمار والغرب والجنوب، لكننا لا نتحدث عنها أبداً، خاصة عندما نعيش الشر والألم بأنفسنا.
لدي ابن يبلغ من العمر سنة واحدة كان يعاني في الماضي من مرض خطير. فجأة، ومن وراء أفكاري، وكتبي وآرائي، ظهرت فكرة الاغتراب، وهذه المرة كان الأمر جديا وجديا للغاية. فلإنقاذ ابني، كنت على استعداد للمغادرة، والذهاب إلى المنفى، رغم أنني كنت دائماً أرفض فكرة المغادرة. والسبب واضح جدا، حيث أنني أرغب في إنقاذ طفلي. إنه حق وواجب ومطلب يتجاوز تفكيري ويغرق في جذور الغريزة النقية. في الواقع، يصبح هذا الأمر ضروريا بالنسبة لآلاف الأشخاص الذين يريدون إنقاذ حياتهم أو أطفالهم.
هرقل وأنتايوس
أنا جزائري، من وهران، ومشاهدة المهاجرين الأفارقة على بعد بضع مئات من الأمتار من منزلي يؤلمني أيضاً. لا أعرف كيف أوازن بين خوفي وعدم اكتراثي من ناحية، وبين إنسانيتي وكرمي من ناحية أخرى. وأخشى أن أفقد هذه الراحة التي أشعر بها داخل منزلي، الذي أمضيت سنوات في بنائه، كما أخشى كذلك على سلامتي، وأنا أشعر بكل ذلك في نفس الوقت. أنا أمثلك أنت وأمثل المهاجرين أيضا، القادمين من الغرب ومن جنوب الصحراء الكبرى. هذا هو العالم اليوم، إنه للجميع. ولا أعلم كيف سأتخذ القرار، فأحيانا أجد الشجاعة في محاولة تخيل الأمر، لكنني لا أستطيع القيام بذلك. وأنا أفهم الأسباب وراء رفض بعض الأشخاص الترحيب بالقادمين والمغادرين.
نحن أيضا، يجب أن نتعامل مع الشر والتطرف ونحمله على ظهورنا لنتخلص منه
يملك اليونانيون أسطورة رائعة تروي قصصهم عندما حارب هرقل الوحش “عنتي” المعروف باسم أنتايوس لمدة طويلة. فكلما رمى هرقل الوحش أرضا يعود إلى الحياة من خلال الاتصال بأمه الأرض. تجدر الإشارة إلى أن هرقل تغلب عليه فقط عندما أدرك أنه يجب أن يرفعه ويقلبه على ظهره ثم يخنقه.
نحن أيضا، يجب أن نتعامل مع الشر والتطرف ونحمله على ظهورنا لنتخلص منه. والأمر المهم فيما يتعلق بالأيديولوجية الراديكالية هو أنها تعود للحياة عندما نرميها على الأرض بدلا من حملها، والاستماع إليها، وتحليل خطاباتها، واستعادة قدرتها على وصف مخاوفنا بشكل أفضل مما نستطيع نحن أنفسنا. لذا، لا يمكن هزيمة أنتايوس إلا من خلال تحمل المسؤولية، وليس عن طريق الإنكار.
في مقال حول “أحداث كولونيا” نشرته قبل سنتين، خلُصت إلى القول إن هناك حاجة ماسة إلى تقديم المساعدة الإنسانية كما ركزت أيضا على واجب اللاجئ في الحفاظ والدفاع عن هذه الحرية، التي قدم إلى الشمال ليحصل عليها. في هذا السياق، لا يمكن للرجل أن يسير آلاف الأميال كي يكون حراً، ثم يرفض حصول زوجته على الحرية على الرغم من أنها سارت كل ذلك الطريق خلفه. لقد فكرت، وما زلت أفكر، أنه لا يمكن للمرء أن يحلم بالحرية ويدمرها، وأن المرء يجب أن ينشأ هذه الحرية من خلال الأخذ بعين الاعتبار لاختلافاتنا، ولكن أيضا من خلال التنازلات، والتضحية، والعطاء، والقبول، وبالحفاظ على جذورنا وتقاليدنا.
إن المغادرة وطلب رعاية ابني أمر حتمي، ولكن إدانة ما يحدث في مستشفياتنا في الجزائر على غرار القذارة وغياب الأخلاق، واليأس والفشل المدوي، هو واجب أخلاقي. وفي إحدى المرات القليلة في حياتي، تأملت في مسألة الاغتراب، ومنذ أن عشت هذا الألم، أصبحت أنظر لكل طفل في الصحراء الكبرى حملته أمه عند معابر الشوارع في وهران بشكل مختلف. كما صرت أدرك واجباتي ومسؤولياتي، وخوفي، بالإضافة إلى حقي في الحياة.
تغييب الضمير عن طريق الإنكار
في الآونة الأخيرة، أثناء انتظار الإشارة الخضراء على الطريق في إحدى ضواحي مدينة وهران، لاحظت ملصقا على أحد الأعمدة ورد فيه “استفد من هذه الدقائق القليلة في الاستغفار”. تجدر الإشارة إلى أن الأشخاص المتشددين دينيا نشروا مثل هذه الملصقات في كل مكان.
أنا أحلم بالأخلاق المرتبطة بالمسؤولية التي تكون غير مشروطة من قبل ما بعد الاستعمار، أو النحيب، أو رفض الشفافية، أو الرفاهية، أو من قبل الشرق أو الغرب، أو دين ما أو عكسه
لقد أزعجني هذا الأمر بشكل كبير، حيث أنه بإمكاننا تبين وجود امرأة تنتمي لإحدى البلدان الإفريقية جنوب الصحراء بصدد الانتظار رفقة طفلها، ليتمكن هذا الضمير الديني بموجب ذلك من استحضار تبعيتي المفترضة تجاه الله وليس تجاه الإنسان. وخلال السنوات المتبقية من حياتي، أريد التحدث عن هذا الإنكار، فأنا أتصرف بشكل مماثل لنبي الله يونس.
أنا أحلم بالأخلاق المرتبطة بالمسؤولية التي تكون غير مشروطة من قبل ما بعد الاستعمار، أو النحيب، أو رفض الشفافية، أو الرفاهية، أو من قبل الشرق أو الغرب، أو دين ما أو عكسه. ومن الصعب للغاية الدفاع عن هذا الموقف الذي يسعى إلى فهم الخوف من جانب واحد بينما يتم قبول حق الآخر في الحياة. أنا أحلم بالنبي يونس، نوعا ما، الذي لا يُضيّع وقتا في الهرب، أو الغوص في البحر، أو العودة إلى الأرض، أو إعلان الحداد على شجرة. أنا ألتمس المسؤولية.
نساء مسلمات يؤدين الصلاة في جامع في ألمانيا
في النهاية، أود أن أختتم بالحق في الكفاح من أجل مستشفيات كريمة وإنسانية في بلادي، وبواجب كل فرد في إنقاذ أرواح أبنائه. إن هذا هو القانون الأساسي لقصتنا: السفر والأمل والفوز والقتال، فضلا عن الموت وإعطاء الحياة. إن رؤيتي هي جنوب وشمال مسؤولان ويتحملان المسؤولية. إن المهاجرين لا يأتون من دون ثقافتهم الخاصة ويستطيعون تقرير ما إذا كانوا سيشاركون هذه الثقافة بدلا من جعلها ملاذا ينسحبون إليه.
أما البلد المضيف، فسيجعل ثقافته بمثابة قيمة إنسانية بدلا من كونها ذريعة للتقوقع. إن الأرض مستديرة وليست مسطحة، على الرغم مما يقوله منظّرو المؤامرة، ما يعني أنه حين نسافر نعود إلى أنفسنا، بغض النظر عن الطريق الي نسلكه. ويعتبر الاستشراق فكرة ميتة نوعا ما، منذ نصف قرن تقريبا. وقد وصلنا في خضمها إلى ذروة سوء الفهم على الرغم من أنه كان يحمل خيارا سلميا، مهما كان فوضويا أو محدودا، لفهم بعضنا البعض.
اليوم، لم يتبق أي شيء من هذه الفكرة، حيث أن الخطاب عن الذات يزعمه الاختلاف الجذري والعرقي، في حين يقترب الخطاب من الفوبيا وليس الفضول، وبالتالي نحن نقصي أنفسنا. ومجددا، لدي حلم مرتبط بوظيفتي نوعا ما، وهو أن أتوجه إلى “الاستغراب”، أي أن أفكر بالغرب، وأشرّح تصوراتي في هذه الجغرافيا، وتنقاضاتي، واضطراباتي، وأعيد سرد أسفاري لشعبي وأواجه اختلافاتي.
إن الغرب هو الفضاء الخيالي بالنسبة للغموض الذي يراود الجنوب. نحن نحلم بالذهاب إلى هناك ولكن لتدميره أيضا، ولنعيش هناك وللقضاء عليه، ولتغيير دينه ولكن للاستمتاع هناك بإمكانية الحرية. إن الغرب هو الجنس والجسد والحرية والقصة، ولكنه أيضا ذكرى العنف، ومكان تناقضاتنا، والحدود، ومكان الإنكار. ويحلم المهاجر بالقدوم للعيش هناك ويحلم طوال الوقت بالحفاظ على اختلافه هناك. والإسلاميون الذين يتعرّضون لقمع النظام في بلادهم يذهبون بحثا عن ملجأ هناك، ومع ذلك، فهم يوجهون رفضهم للغرب كذلك.
على الرغم من أنه مكان للتناقضات، إلا أن الغرب يتصيّد المثقفين الأحرار من الجنوب
يستغل النظام الذاكرة الاستعمارية من أجل “نحت” شرعيته في عيون الشعوب المحرومة، في إطار شعبوية ما بعد الاستعمار، ومع ذلك، فهم يرسلون لهذا الغرب أطفالهم ويذهبون للتسوق ويلوذون إليه في حالة الفوضى والثورة. إن الغرب يُوظَف لكل شيء، خاصة لعدم تحمل أحدهم المسؤولية عن عالمه الخاص.
السؤال الشهير “ماذا نفعل؟”
على الرغم من أنه مكان للتناقضات، إلا أن الغرب يتصيّد المثقفين الأحرار من الجنوب. ونحن هنا مُتّهمون، من المغرب إلى عُمان، بجميع الشرور لأننا ندافع عن القيم الإنسانية من قبيل الحرية أو النشوة أو الجسد أو الديمقراطية أو المساواة، التي لا تعتبر رايات يحملها التغريب بل قيم الخلاص للجميع. ولأن هذه القيم هي أيضا غربيّة، فإن أي شخص يجعلها قضية حياته يجد نفسه يواجه الإقصاء، ويطلق عليه “المغرّب” وبالتالي فهو خائن. وقد منح المحافظون، على غرار المتدينين، أنفسهم دور الأمناء، الذين يشرفون على قيمة الأصالة فيما يسمى “بالعالم العربي”، وقيم التقاليد والوطنية، ويدفعون بنا إلى الهوامش ونحو الموت.
يواجه المثقف الجنوبي الذي يثور ضد الديانات والأنظمة معضلة النبي يونس: فهل يبقى ويضحي بنفسه من أجل خلاص شعبه، مع إمكانية خلاص جيلين أو ثلاثة أجيال؟ أو أن يغادر وينقذ حياته وجسده وأولاده؟ هل تعمل لما فيه صلاح الشعب الذي قد يكون غير مبال بحجتك وكتبك ومقالاتك، أم تغادر؟
رجل مسلم يمر من أمام كنيسة في فرنسا.
لقد رفض النبي يونس إنقاذ مدينة من الغرباء، والأجانب. وقد غادر ومن ثم عاد. وتتمثل إحدى الدروس المستفادة من قصته في توسيع نطاق المسؤولية الفكرية للوصول للآخر المجهول والأجنبي. وهذه إجابة طويلة على سؤال: “ما الذي تفعله من أجل الآخر؟”. فعندما يساعدنا الغرب، فهو يديننا، ولكن عندما يقف غير مبال بالتزاماتنا فهو يحكم على نفسه بالعزلة والهزيمة.
في نظري، تظل الثقافة أفضل مسار لهذا التضامن، إذ أنها تمثل هذا المجال الواسع من المعنى والإبداع والجهد والمطالبات إلى الأبدية. إن الثقافة هي التي تتهجم عليها أولا الفاشية والراديكالية والجنون المتكرر. إن الثقافة تؤكد ما هو أساسي ألا وهو الاختلاف، حيث تجعل المعتقدات نسبية وتذكر بقيمة الفرد إلى ما وراء المدينة الفاضلة، وتقدم الأسفار واللقاءات لمن لا يمتلكون الوسائل، وتجعل الآخر ينفتح على الذات الحميمة وتقلص المسافة لصالح الفضول.
لذلك، لا بد لنا من تعزيز تعميم الثقافة، في كلا الاتجاهين، وفي جميع الاتجاهات الممكنة. ومن جهتي، أحب الدعوة إلى الترجمة وتصدير الكتب وغيرها من الأعمال، من أجل تبادل اللغات والروايات. وأنا أرى في ذلك فرصة لإنقاذ العالم من خلال الترجمة. فهل يستطيع الأدب إنقاذ العالم؟ وهل يمكن لكتاب أن يعطي الحياة؟ غالبا ما أجيب بنعم. فباعتبار أن بإمكان أحدهم أن يقتل باسم كتاب، أنا أحب أن أتخيل أنه يمكننا أيضا إنقاذ الحياة من خلال الكتب. إن علاقتي بالأدب هي علاقة إيمان، حيث تقدم لي القراءة العالم، هذه الحميمية العالمية بعصور وجغرافيات مختلفة، حتى عندما كنت أعيش في قرية منفصلة عن العالم الأوسع.
القراءة هي التهدئة
قادتني القراءة إلى السفر ومشاركة ألف حياة، فضلا عن التأمل في اختلافاتي ليس بصفتها حقائق بل كمفاوضات سعيدة وواثقة. إن القراءة عبارة عن تمرين رائع كي يعطي أحدهم من ذاته، والتأكيد على تفرّد شخص ما، وهو مركز هوية الفرد المعطاءة والمرحة بشكل مثالي. ومع التقدم في السن، تظل القليل من معتقداتي، لكنني أتمسك بالفكرة التالية بحماس: الأدب هو الحوار العالمي الوحيد تقريبا الذي نكون قادرين عليه والذي يعطينا الامتياز الفريد لإجراء حوار مع الغرباء والبعيدين والموتى، ومع أولئك الذين لم يُولدوا بعد والذين لا يحبون بعضهم بعض. إن القراءة تعني التهدئة وليس السفر فحسب.
علاوة على ذلك، يساعد الأدب على تحويل الهوية إلى تضامن ويجعل البشر منفتحين على ظروفهم المقلقة، وبالتالي، نكون متساويين ومتشاركين، ومتفرّدين ومتميزين. كما نتناوب على احتلال مركز العالم، وقلبه المتغير. إن هذا هو الحوار الذي يجب علينا تبنيه من خلال الكتب والأعمال الأخرى. إن الأدب يمكن أن يشفي الانسحاب نحو الذات أو شخص واحد، ويقدّم العالم كمشهد للجميع. لقد ساعدني الأدب على البقاء على قيد الحياة، وأرغب في مشاركة قصة البقاء هذه الآن ولاحقا، وأن أدافع عنها وأدعو قليلا إلى إمكانية الكتابة والقراءة.
نحن نعرف جميعا هذا السؤال الشائع: “ما هي الكتب التي ستحملها معك في جزيرة صحراوية؟” حيث أن الجميع لديهم بالفعل قائمة بهذه الكتب. لكن هذا السؤال يعتبر مذهلا إلى ما لا نهاية، ولا يعود ذلك إلى الخيار الذي يفرضه، ولكن بسبب الاستعارة التي ينطوي عليها. ويوضح هذا السؤال أن الطريقة الوحيدة لعلاج جزيرة من صحراويتها وعزلتها، والثقل الموازن الوحيد لهذا السجن، هي الكتب. فكلما أخذت كتبا أكثر لجزيرة صحراوية، ستصبح صحراويتها أقل. وفي نهاية المطاف، ستصبح الجزيرة قارة أو عالما قائما بذاته.
هذا النص تمت قرائته من قبل الكاتب خلال محاضرة أُلقيت في مسرح فيدي في مدينة لوزان في سويسرا يوم الإثنين 12 تشرين الثاني/ نوفمبر.
المصدر: ميدل إيست آي