صرخات الألم والنجدة تعالت على أسوار القدس، ففي قرية “صور باهر” تستغيث النساء والأطفال لنجدتها من أحرار العالم، ومن داعمي ما يُسمى بثورات الربيع العربي التي جاءت بنتائجها العكسية في ربوع الأوطان، بأن تنحوا بخلافاتكم جانبًا، وتعالوا جميعًا أظهروا انتصاراتكم وبطولاتكم هنا.
ما أقسى هذا المشهد للمرء حين يشاهد أحياء عاصمته تتمزق وتُسلب من حضن العروبة رويدًا رويدًا، أصحاب العقارات والعمارات والشقق، ها هم الآن يفترشون الأرض ويلتحفون بالسماء على أنقاض منطقة “وادي الحُمص” التابعة للعاصمة الأبدية لدولة فلسطين “القدس”، بعد سياسات احتلالية جديدة من نتنياهو وحزبه اليميني المتطرف الساعي لتفريغ القدس ومحيطها من سكانها الأصليين، فقد فشلت بعض مساعيه السابقة في حي “سلوان” الواقع في القدس الشرقية، وفشل أخيرًا في منطقة “الخان الأحمر”، رغم ما أحدثه من دمار هناك، وها هو الآن يحاول تجسيد أي انتصار له على أحد أحياء قرية صور باهر الواقعة في محيط مدينة القدس.
كانت الأسر الفلسطينية في بلدة “صور باهر” على موعد مع أيام هالكة في الأيام الأخيرة من شهر يوليو/تموز لعام 2019، إذ حاصرت قوة كبيرة من وحدات جيش الاحتلال الإسرائيلي في ساعات الفجر الأولى، منطقة “وادي الحُمص” أحد أحياء هذه البلدة، بعدما أعلنت أن البلدة ومحيطها منطقة عسكرية مغلقة، ما أربك الأهالي هناك، إذ لم يتذوقوا طعم النوم وهم في حيرة من أمرهم مما سيتبعه معهم جيش الاحتلال إزاء هذا الحشد، ليتم البدء في اقتحام المنازل وإجبار الأهالي على إخلائها بالقوة، ما أسفر عن عشرات الإصابات في صفوف المدنيين العرب، تمهيدًا لهدم المنازل ابتداءً من الساعة 11 صباحًا في الـ22 من يوليو/تموز 2019.
تقع بلدة “صور باهر” شرقي مدينة القدس المحتلة، وتعاني من انفجار سكاني داخل أحيائها، بسبب القوانين المفروضة عليهم من بلدية القدس التابعة للاحتلال
المواطن علي حمادة يفترش خيمته وهو زوجته وبناته يشاهدون منزلهم المكون من ثلاثة طوابق يتساقط حجر تلو الآخر أمام أعينهم، وكل حجر يسقط كرصاصة تقتل حمادة، وتترك غُصَّة في قلبه وقلوب عائلته، فلم يشفع له صراخه وبكاؤه، ولم تُجد صرخات نسائه نفعًا أمام بطش جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يفقه أي لغة مسالمة في ظل الصمت العربي والدولي تجاه جرائمه وانتهاكاته بحق الشعب الفلسطيني.
فيما سيتم إبعاد عدد آخر من مواطني هذه البلدة خلال الساعات أو الأيام القادمة، وهذا ما يتبعه الاحتلال الإسرائيلي مع سكان القدس بشكل خاص لإفراغها من سكانها الأصليين، كان بدايته ما اتبعه مع الصحفي مصطفى الخاروف، أحد سكان “وادي الحمص” بعد قرار الهدم مباشرة، حيث اُتخذ القرار بإبعاده للمملكة الأردنية، فيما رفضت الأخيرة استقباله عبر الجسر الأردني على معبر العقبة الفاصل بينها وبين الأراضي الفلسطينية المحتلة، مؤكدين بأن الأردن لن يكون ممرًا لتفريغ القدس ومحيطها من سكانها الفلسطينيين، كونه الوصي على الأرض المقدسة التي تتبع لوزارة الأوقاف الأردنية.
تقع بلدة “صور باهر” شرقي مدينة القدس المحتلة، وتعاني من انفجار سكاني داخل أحيائها، بسبب القوانين المفروضة عليهم من بلدية القدس التابعة للاحتلال، بعدم التمدد العمراني وعدم البناء ولو بحجر واحد، كما تُفرض عليهم ضرائب باهظة إزاء إقامتهم بهذه المناطق المقدسية كسياسة ضغط على سكانها للرحيل.
وتعد منطقة وادي الحُمص أحد أحياء هذه البلدة، ولكنها الوحيدة المستثناة من ضمها لبلدية القدس التابعة للاحتلال، حيث تم اعتبارها ضمن المنطقة (أ) التابعة للسلطة الفلسطينية.
أصدرت محكمة الاحتلال في القدس قرارًا بهدم هذه المنطقة، رغم أنها لا تتبع لبلدية القدس، وتم إعطاء مهلة لسكانها لهدم بيوتهم بأيديهم قبل أن تباشر السلطات الإسرائيلية بهدمها
وتنقسم الضفة الغربية حاليًّا إلى ثلاث مناطق: هي (أ، ب، ج)، وتمثل المناطق (أ) نحو 18% من مساحة الضفة، وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية أمنيًا وإداريًا، فيما تمثل المناطق (ب) 21%، وتخضع لإدارة مدنية فلسطينية، فيما العسكري والأمني لـ”إسرائيل”، ومناطق (ج) التي تشكل 61% من مساحة الضفة، تخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية، مما يستلزم موافقة الاحتلال على أي مشاريع فلسطينية بها.
وعلى الرغم من اعتبار منطقة وادي الحمص، ضمن مناطق (أ)، ورغم أنها حاصلة على ترخيص البناء والتمليك من وزارة الحكم المحلي التابعة لدولة فلسطين، كما أن هذه المنطقة مسجلة على أنها تتبع لدولة فلسطين ضمن المرحلة الأولى لاتفاقية “أوسلو” للسلام عام 1993، فإن الاحتلال ما زال يسيطر على هذه المنطقة منذ عام 1967، بينما تديرها السلطة الفلسطينية مدنيًا فقط.
وأصدرت محكمة الاحتلال في القدس قرارًا بهدم هذه المنطقة، رغم أنها لا تتبع لبلدية القدس، وتم إعطاء مهلة لسكانها لهدم بيوتهم بأيديهم قبل أن تباشر السلطات الإسرائيلية بهدمها، وتنتهي هذه المهلة في 18 من يوليو/تموز 2019، وذلك بحجة قربها من الجدار الأمني.
ما الفرق بين أن يهدم الفلسطيني بيته بيديه أو تهدم سلطات الاحتلال بحسب المهلة المحددة؟
الصحفي المقدسي (ي. ق) أوضح في حديث خاص لـ”نون بوست”، أن الاحتلال يسلم إخطارًا مبدئيًا لأصحاب المنازل المنوي هدمها بأن يُباشر بهذا المضمار بنفسه، قبل أن يتكفل جيش الاحتلال الإسرائيلي بذلك، وهنا لا يتحمل الفلسطيني إلا رسوم عمل الجرافة التي ستؤدي هذه المهمة، بينما إذا تجاهل الإخطار وانتهت المهلة المهددة له، فإنه سيتكفل برسوم كل جندي رافق جرافات وآليات الاحتلال، وكذلك رسوم شحن المدرعات التي ستحاصر المكان، وكل ما لزم جنود الاحتلال الإسرائيلي وآلياتهم في طريقهم للهدم.
الطامة تقع على أن الـ100 شقة سكنية، عمل مبدئي لما ينوي الاحتلال هدمه في الأشهر المقبلة، حيث تشمل الخطة 225 بناية سكنية، أي ما يعادل 1400 شقة سكنية أصحابها ينتظرون ساعة الصفر لمبيتهم في الشوارع
وبدأ الاحتلال في 22 يوليو/تموز 2019 بتنفيذ قرار الهدم بسبب قرب هذه المنازل من الجدار الأمني، وهو “الجدار العازل” التي أنشأته سلطات الاحتلال الإسرائيلي حول مدن الضفة الغربية عام 2001، للفصل بين المناطق التي يسيطر عليها الفلسطينيون ومناطق المستوطنات، ورغم أن محكمة الجنايات الدولية اعتبرت بناء الجدار أمرًا غير إنساني ودعت إلى إزالته، فإن الاحتلال ماضٍ بطريقه نحو ذلك، متجاهلاً كل القرارات الأممية والدولية.
قال محافظ القدس عدنان غيث لـ”نون بوست”: “الاحتلال باشر اليوم بهدم 16 منزلاً بين عمارات سكنية وأبراج ومنازل، كلها تأوي الفلسطينيين، تشمل بمجملها 100 شقة سكنية، بمعنى أن 100 أسرة فلسطينية ستُشرد، وهي أكبر عملية هدم في ضواحي القدس منذ احتلالها عام 1967”.
الطامة تقع على أن الـ100 شقة سكنية، عمل مبدئي لما ينوي الاحتلال هدمه في الأشهر المقبلة، حيث تشمل الخطة 225 بناية سكنية، أي ما يعادل 1400 شقة سكنية أصحابها ينتظرون ساعة الصفر لمبيتهم في الشوارع، أي ما يعادل أيضًا 90% من منطقة وادي الحُمص.
وأشار غيث إلى أن سكان هذه المنطقة غالبيتهم من القدس الشرقية، بحيث أن الاحتلال يمنع على الفلسطينيين هناك بناء أي حجر في منازلهم منذ عام 1967، وذلك للضغط عليهم من أجل بيعها للمستوطنين، وبما أن متطلبات التوسعة في البناء أصبحت ضرورية بعد تكاثر المقدسيين، ومن يفرط في بيته لصالح المستوطنين سيعتبر خائنًا وملاحقًا من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فقد سمحت السلطة لأي مقدسي أراد التوسعة في بنائه بالسكن في حي وادي الحُمص كونه تابع لوزارة الحكم المحلي الفلسطينية.
قال محافظ القدس عدنان غيث: “ما يُعطي قوة الدفع للاحتلال الإسرائيلي لممارسة غطرسته في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو الصمت العربي والدولي المريب تجاه هذه الانتهاكات”
ولفت غيث إلى أن الاحتلال الإسرائيلي انتهك كل المواثيق والقرارات الدولية بما فيها قرارات مجلس الأمن الدولي، وكان آخرها قرار (2334) لعام 2016 الذي نص أحد بنوده على عدم اتخاذ أي تدابير إسرائيلية أو استيطانية ترمي إلى إحداث أي تغييرات ديموغرافية على الأراضي المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية وضواحيها، كالهدم والإبعاد والتهجير القسري، وغيرها من التدابير والإجراءات الإسرائيلية المتبعة مع الفلسطينيين في القدس خاصة، وأراضي الضفة المحتلة عامة.
وكشف غيث لـ”نون بوست” المساعي الإسرائيلية من خلال تفريغ منطقة بلدة “صور باهر” من سكانها ابتداءً من حي “وادي الحُمص”، مؤكدًا أن الموضوع لا يقف على حجة قرب هذه المناطق من الحاجز الأمني “جدار العزل” المحرم دوليًا بالأساس، بل إن الأمر يكمن بكون هذه المنطقة فاصلة بين مستوطنتي “معاليه أدوميم” و”غوش عصيون”، حيث يتم ربط هذه المنطقة بالمستوطنات القائمة على أراضي الضفة الغربية، وستكون هذه المستوطنة الجديدة خاصة بالمتقاعدين من الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما عارضته القوانين الدولية كافة.
وتابع غيث “ما يُعطي قوة الدفع للاحتلال الإسرائيلي لممارسة غطرسته في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو الصمت العربي والدولي المريب تجاه هذه الانتهاكات، بالإضافة للانحياز الأمريكي بصف الاحتلال الإسرائيلي الذي بات مكشوفًا وواضحًا أمام العالم أجمع، وكان من قبل قد مارس انتهاكاته في منطقة القدس الشرقية نفسها، كهدم عشرات المنازل والأحياء السكنية في بلدة “سلوان” و”شعفاط”، ونرى ذلك واضحًا إذ تم بناء كتل استيطانية ومشاريع تهويديه على أراضي هذه البلدات”.
وقال غيث “لقد اتخذت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تحت قيادة الرئيس محمود عباس قرارًا بإعادة بناء جميع الشقق السكنية التي سيتم هدمها دعمًا لصمود شعبنا الفلسطيني في وجه الاحتلال الإسرائيلي”، مطالبًا جامعة الدول العربية بتنفيذ وعودها وقراراتها التي نصت على دعم صمود أبناء الشعب الفلسطيني في مدينة القدس والأراضي المحتلة.