أمام التحوّلات الإقليمية المتسارعة، وفي ظلّ ارتفاع وتيرة الأحداث في سوريا، تتجه الأنظار مجددًا نحو حدود العلاقة بين دمشق وأنقرة، والتعقيدات التي تخلط الأوراق في الملف السوري، فتركيا التي تحاول حلّ معادلة صعبة بين طموحاتها الاستراتيجية في سوريا والقيود الدولية والإقليمية، ما تزال حريصة على تعزيز وحدة الأراضي التي تعتبرها ركيزةً أساسيةً للأمن القومي التركي، فتصريحات المسؤولين الأتراك الأخيرة حول التأكيد على وحدة الأراضي، تعكس رؤية تركيا لسوريا كجزءٍ لا يتجزّأ من أمنها القومي.
لكن، ومع ملاحظة مناورة الجانب التركي بعد الضربات الإسرائيلية على قاعدة التيفور ومطار حماة، من خلال تخفيف حدّة التصريحات ضد “إسرائيل”، تتكشّف تحدّيات عديدة تواجهها أنقرة في عرض رؤيتها وسط تصاعد التدخّل الإسرائيلي في شؤون سوريا الداخلية، ودعم الفوضى ضد الحكومة من خلال الأقليات، واستمرار الغارات في محيط دمشق والتوغّل في الجنوب السوري.
هنا تثار أسئلة مهمة، حول حدود التقارب بين الممكن والمعقّد، وتوجّهات البلدين (تركيا وسوريا) مستقبلًا، وملامح العلاقة الناشئة بينهما، إلى جانب كيفية تحوّل استراتيجية تركيا من التركيز على المناطق الشمالية إلى التعامل مع سوريا ككيانٍ موحّد.
ملامح العلاقات مع سوريا الجديدة
شدّد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على ضرورة توخّي الحذر في سوريا جرّاء أحداث العنف الدموية التي شهدها محيط العاصمة دمشق خلال اليومين الماضيين، مؤكّدًا في تصريح للصحفيين على متن طائرته أثناء عودته من إيطاليا: أن أنقرة لن تسمح بفرض أمر واقع في المنطقة، فوحدة أراضي سوريا أمرٌ لا غنى عنه بالنسبة لتركيا.
لكن، في وقت سابق، شهدت التصريحات التركية تذبذبًا دبلوماسيًا، تراوح بين التصعيد والتهدئة، وذلك عقب استهداف “إسرائيل” لقاعدة التيفور ومطار حماة خلال الشهر الماضي، وهما الموقعان اللذان كان من المقرّر أن يتحوّلا إلى قواعد للقوات التركية.
إذا قالت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” الإسرائيلية آنذاك، إنّ الهجوم العسكري الإسرائيلي جاء عقب تقييم تركيا للمواقع السالفة الذكر، بهدف تدشين قواعد جوية فيها، وهو ما ترفضه تل أبيب، على الرغم من تأكيدات أنقرة لواشنطن بأنّ التوسّع العسكري في سوريا لن يشكّل تهديدًا لـ”إسرائيل”.
ورغم تأكيد أنقرة المتكرّر على أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وعلى الترابط الوثيق بين أمنها القومي وأمن العاصمة دمشق، إلا أن تحرّكاتها ما تزال محصورة في إطار التصريحات الدبلوماسية، دون اتخاذ خطوات فعلية على الأرض، في وقت تواصل فيه “إسرائيل” تغلغلها داخل الأراضي السورية، وتكثّف غاراتها حتى على مواقع قريبة من القصر الجمهوري في دمشق.
بالعموم، يمكن استشفاف أن “إسرائيل” متخوّفة من السلطة الجديدة في دمشق، المدعومة من أنقرة، لأنها قد تشكّل تهديدًا للحدود الشمالية، وقد عزّز تلك المخاوف تدهور العلاقات أصلًا بين “إسرائيل” وتركيا بسبب حرب غزة، كما أن أنقرة، التي حملت عبئًا كبيرًا في جعبتها العسكرية والسياسية دوليًا بسبب الملف السوري، لديها مخاوف من اتصال “إسرائيل” بقوات قسد الكردية، وما يمكن أن يشكّله ذلك التواصل من تهديدٍ لأمنها القومي.
لدى سؤالنا الباحث التركي علي الأسمر عن كيفية ضبط تركيا لإيقاع سياستها في سوريا، أجاب قائلًا: لفهم السياسة التركية في سوريا، لا بدّ من التوقّف عند تصريح محوري أدلى به وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، حين قال: “تركيا هي الشريك الطبيعي لسوريا”، فهذه الجملة المختصرة تحمل في طيّاتها رسائل استراتيجية عميقة، لا يمكن لأيّ طرف إقليمي، ولا حتى إسرائيل، تجاهلها.
ويضيف الأسمر، أن “إسرائيل” غير مقبولة من الشارع السوري كفاعل مباشر، عكس تركيا القادرة على لعب دور ميداني فاعل، معترف به ضمنيًا حتى من خصومها بحكم الجغرافيا والتاريخ.
ويتابع: “صحيح أن أنقرة لم تعلن رسميًا عن إنشاء قواعد دائمة في التيفور أو حماة، خاصة بعد استهدافهما من قبل إسرائيل، إلا أن العمل جارٍ على الأرض بهدوء وحذر وتنسيق عالٍ، انطلاقًا من قاعدة ثابتة في العمل الأمني والعسكري، النجاح يتطلّب الكتمان”.
معتبرًا أن الوجود التركي اليوم يُصنَّف في سوريا بوصفه “ضرورة”، لكنه مرشّح خلال الفترة المقبلة لأن يتحوّل إلى وجود استراتيجي دائم، يشكّل رادعًا أمام التغوّل الإسرائيلي ومحاولات تفتيت سوريا، وذلك لما لعضوية تركيا في حلف الناتو من قوّة تمنحها هامش تحرّك دبلوماسي وعسكري.
مع ذلك، ترى تركيا أن تحقيق أيّ هدف داخل الأراضي السورية يتطلّب مراعاة التوازنات الدولية والإقليمية، وتنسيقًا محكمًا مع اللاعبين المؤثرين في الميدان، ومن ضمنهم إسرائيل، وهو ما برز جليًّا في اجتماع وفد سياسي وأمني إسرائيلي بوفد تركي في أذربيجان، لبحث تفادي وقوع حوادث غير مرغوب فيها في سوريا، حيث ينشط جيشا الجانبين.
مع ذلك، ترى تركيا أن تحقيق أيّ هدف داخل الأراضي السورية يتطلّب مراعاة التوازنات الدولية والإقليمية، وتنسيقًا محكمًا مع اللاعبين المؤثّرين في الميدان، ومن ضمنهم إسرائيل، وهو ما برز جليًّا في اجتماع وفد سياسي وأمني إسرائيلي بوفد تركي في أذربيجان، لبحث تفادي وقوع حوادث غير مرغوب فيها في سوريا، حيث ينشط جيشا الجانبين.
حسب ورقة تحليليّة نشرها المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (IISS)، فإنّ سوريا تشهد إعادة هندسة المشهد الأمني الإقليمي، لافتةً إلى أنّ تركيا أصبحت تدير هذه العملية حاليًا، مستغلّةً وجودها ودورها في سوريا لبناء توافق لدعم الإدارة الجديدة، وإخراج القوات الأمريكية.
ويرى المعهد أن أنقرة قد تعيق تعافي سوريا إذا اعتبرتها مجرّد سوق لمنتجاتها، أو إذا سعت إلى تحقيق نصر عسكري على القوات العسكرية الكردية في الشمال والشمال الشرقي، دون البحث عن المصالحة السياسية.
من وجهة نظر الباحث الأسمر، فإنّ العلاقة بين تركيا وسوريا في المرحلة المقبلة مرشّحة لأن تتجاوز البُعد السياسي التقليدي، لتأخذ طابعًا متعدّد الأبعاد: سياسيًا، اقتصاديًا، عسكريًا، واجتماعيًا، انطلاقًا من الموقع الجغرافي المشترك، والتاريخ الطويل الذي لا يمكن تجاوزه.
فسوريا الجديدة بعد انتهاء النظام السابق – حسب حديثه – باتت أمام فرصة لبناء علاقات ندّية قائمة على المصالح المتبادلة، وتركيا، من جانبها، تنتهج في علاقاتها الخارجية قاعدة واضحة: “أنا أربح وأنت تربح”.
حدود الممكن والمستحيل
تُعدّ تركيا الحليف الأبرز للحكومة السورية الجديدة، لكن تصنيف العلاقة بينهما يعتمد على معادلات الواقع الجيوسياسي، والضغوط الدولية، والتوازنات الإقليمية التي ترسم حدود الممكن والمستحيل، خاصة في هذه الفترة.
ورغم اعتماد دمشق على دعم أنقرة، إلا أنها محاطة بضغوط كبيرة لإثبات استقلالها عن أنقرة، خاصة في ظلّ وجود فصائل عسكرية ما يزال ولاؤها لتركيا.
التعاون الأمني ومكافحة داعش، إضافة إلى اشتراك الطرفين في منع إنشاء كانتون كردي في الشمال الشرقي السوري، وما يرافق ذلك من ضبطٍ للحدود، هو أهمّ ما يميّز الممكنات بين الجانبين، إضافة إلى التعاون الاقتصادي والعسكري الذي من المتوقّع أن يكون الأكبر في سوريا.
أما المستحيل، أو الأصعب إن صحّ القول، فيمكن أن يكون في التنازل عن النفوذ في سوريا، ولا سيما في شمالها، إضافة إلى استحالة معاداة إسرائيل عسكريًا ومواجهتها، رغم ما يشكّله التمدّد الإسرائيلي من دعمٍ للفوضى التي تُلقي بظلالها على تركيا، لكن، على رغم الخلافات بين الطرفين، إلا أنه يجب أن يُؤخذ في الحسبان العلاقة التاريخية بينهما، والتي تغلب عليها لغة الحوار والمناورات، لا سيما مع ما يجري الآن من الحديث عن اتفاقية عدم الاشتباك على الجغرافيا السورية.
ورغم صعوبة تصوّر سيناريو المواجهات المباشرة بين أنقرة وتل أبيب، إلا أن منصّة “TWZ”، المتخصّصة في قطاع الدفاع والأمن القومي والتكنولوجيا العسكرية والإستراتيجيات، نشرت تحليلًا أكّدت فيه، أنه بالرغم من صعوبة نشوب قتال مباشر بين “إسرائيل” وتركيا في سوريا، إلا أنّ ذلك قد يتغيّر في منطقة شديدة التقلّب، خصوصًا في ظلّ سعي الطرفين إلى توسيع نفوذهما على الأراضي السورية.
واستشهدت بما ذكرته لجنة استشارية حكومية إسرائيلية، في كانون الثاني/ يناير الفائت، حين حذّرت “إسرائيل” بأنها يجب أن تستعدّ لمواجهة مباشرة مع تركيا.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى المحلّل السياسي درويش خليفة أن الرئيس الشرع، عندما كان يتولّى قيادة جيب صغير خاضع لسيطرة المعارضة في شمال غرب البلاد، كانت تحالفاته أبسط، وقد كانت تركيا داعمةً له، ويعتمد على المعابر البرّية الشمالية في المدخولات لتغطية مصاريف الخدمات.
لكن، منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر، يخوض السيّد الشرع غمار أزمات جيوسياسية أكثر تعقيدًا، ولا سيّما العبث الإسرائيلي، وهذا يتطلّب دعمًا من الحلفاء في أنقرة والدوحة والرياض، لتواصل حكومته تقديم الخدمات وحفظ الأمن.
ومن هذا المنطلق، – حسب خليفة – تغلب الممكنات بين دمشق وأنقرة على المستحيلات أو الملفات الأكثر تعقيدًا، بسبب حرص تركيا على استقرار سوريا، وبناء شراكات معها، وهو ما يؤهّلها للعب هذا الدور، لا سيّما بعد تصريح الرئيس الأمريكي ترامب بهذا الشأن، وتهنئته لنظيره التركي أردوغان بإقدامه على خطوة إسقاط النظام السابق.
من جهته، لا يعتقد الباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، محمد السكري، أن هناك تراجعًا للدوافع التركية تجاه سوريا، لكن من الواضح أن مؤتمر الحوار في أذربيجان قد شكّل برنامجًا خاصًا بالملف السوري، ومدخلًا للتنسيق فيما يتعلّق بقواعد الاشتباك داخل سورية، بجانب التوجّه الأمريكي، وهو ما جعل الموقف الإسرائيلي أكثر ليونةً وتحديدًا، ممّا دفع الجانب التركي للتفاعل الإيجابي مع هذه التطورات بتخفيف حدّة الصدام.
ويعتبر السكري، في حديثه لـ”نون بوست”، أن تركيا تدرك أن العبث الإسرائيلي من الصعب أن يتجاوز الحدود الماضية، بعد وضع إطار عام للفعالية الإسرائيلية في سورية، وهذا يدلّل على نجاعة الدبلوماسية القسرية التي استخدمتها أنقرة ضد “إسرائيل”.
من الشمال إلى كامل سوريا
قبل سقوط النظام المخلوع، اقتصر التركيز الجغرافي التركي على الشمال السوري الذي شكّل محورًا لعمليات واستراتيجية أنقرة، وانطلقت من الشمال نحو تأمين حدودها وإدارة المناطق هناك، مع دعمٍ لا محدود لفصائل المعارضة السورية.
لكن، مع سقوط النظام وتسلّم المعارضة نظام الحكم، اتجهت تركيا نحو سياسة أكثر شمولية، باعتبار اتساع المساحة الجغرافية وتراكم عبء الملفات على الحكومة الناشئة، ممّا جعل التحوّل من دعم الشمال السوري، الذي كان محاصرًا، إلى دعم سوريا ككيانٍ سياديّ أوسع، تحوّلًا لتعزيز دورها بشكل استراتيجي، والانخراط أكثر في إعادة تشكيل المشهد السوري، ومنع أيّ فراغ في سدّة الحكم قد يُرجع الأمور إلى نقطة الصفر.
يشير الباحث السكري إلى أن تركيا لم تَعُد ترى شمال غرب سورية بقعة نفوذ طارئة متعلّقة بتشكيل منطقة آمنة وأمنية فحسب، بل باتت تراها اليوم جزءًا من تعريف نفوذها في سورية الجديدة ضمن معادلة الأمن والتوازن الإقليمي.
مضيفًا أن المنطقة انتقلت من كونها منطقة دخلتها تركيا لأسباب أمنية طارئة منعزلة، لا تعترف بها دمشق، إلى منطقة تتّسم بواقع أمني جديد ينعكس على علاقة “تكاملية” مع دمشق، وبسياق سياسي يعزّز تحالفًا استراتيجيًا في الدولة السورية، ممّا يسمح باستثمار طويل الأمد بمصالح مشتركة سورية-تركية، يعرف فائض القوّة من المداخل الجيوأمنية والجيوسياسية، وبالتالي تدلّل خصوصية هذه العلاقة على تبلور ثقافة سياسية جديدة، غائبة منذ الحرب العالمية الأولى.
ختامًا.. يبدو أن العلاقة ما بين أنقرة ودمشق، ماضية في شراكة متعدّدة الأبعاد، وطويلة الأمد، رغم ما يعترضها من عقبات معقّدة، خاصة في ظلّ التوغّل الإسرائيلي، وهو ما يجعل المسار بين الطرفين محاطًا بالمناورات السياسية والحسابات التقليدية، أكثر من كونه مسارًا مفتوحًا نحو التحالف الكامل.