بينما يحتفل العالم في الثالث من مايو/ أيار من كل عام باليوم العالمي لـ”حرية الصحافة” تئن مصر تحت وطأة الكبت وتضييق الخناق، بعدما تحولت إلى واحدة من أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحفيين، حيث أضحت البلاد بعيدة كل البعد عن آمال الحرية التي حملتها ثورة 2011، وفقًا لتقرير مؤسسة “مراسلون بلا حدود”، وهي منظمة دولية غير حكومة معنية بحرية الصحافة والدفاع عن حقوق الصحفيين.
وكشف التقرير السنوي الصادر عن المؤسسة قبل أيام عن وقوع مصر ضمن أسوأ 10 دول على مؤشر حرية الصحافة، لتحتل المرتبة 170 من بين 180 دولة تضمنها المؤشر، وهو الترتيب الأسوأ والأدنى منذ عام 2014، في ظل اعتقال 20 صحفيًا مصريًا، واستمرار حجب المواقع، وغياب البنية التشريعية القانونية التي تحمي العاملين في تلك المهنة.
ويتزامن هذا التقرير مع انتخابات نقابة الصحفيين المصريين التي جرت الجمعة 3 مايو/أيار الجاري، والتي فاز فيها باكتساح مرشح المعارضة، الصحفي اليساري، خالد البلشي، على منافسه مرشح الحكومة، عبد المحسن سلامة، حيث هزت شعارات الحرية للصحافة والكرامة للصحفيين أركان مبنى النقابة عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات، وسط تفاؤل حذر بشأن إمكانية تحقيق تلك الشعارات في ظل البيئة الحالية للصحافة المصرية.
الأسوأ منذ سنوات
حصلت مصر على درجات سلبية متدنية في المؤشرات الخمسة التي تضمنها المؤشر (السياق السياسي والإطار القانوني والسياق الاقتصادي والسياق الاجتماعي والثقافي والسياق الأمني)، جعلتها تتذيل ترتيب الدول وتتصدر قائمة العشرة الأواخر بين 180 دولة تضمنها التصنيف.
ففي المؤشر السياسي حصدت مصر 13.63 نقطة، وضعتها في المرتبة 173 من بين 180 دولة على المؤشر، وفي المؤشر الاقتصادي، حصلت على درجة 23.26 نقطة، احتلت بها المرتبة 169، وفي المؤشر القانوني، حصلت على 32.65 نقطة، وجاء ترتيبها في المركز 157، أما في المؤشر الاجتماعي، فحصلت على 25.67 نقطة، وجاء ترتيبها في المركز 169، وفي الأخير فقد حصلت في المؤشر الأمني على 28.49 نقطة، وجاء ترتيبها في المركز 161.
وتحافظ مصر بهذا الترتيب الذي هو ذاته ترتيب العام الماضي 2024 على موقعها المتدني على المؤشر والذي هو بدوره الأسوأ منذ سنوات طويلة، حيث احتلت المرتبة 166 عام 2013 مرورًا بالمرتبة 159 عام 2014، ثم 166 عام 2021 و168 عام 2022، الأمر الذي يعكس حالة التضييق التي عليها واقع الصحافة المصرية.
آليات التصنيف
يهدف مؤشر الصحافة الذي تجريه “مراسلون بلا حدود” سنويًا إلى المقارنة بين درجة الحرية التي يتمتع بها الصحفيون ووسائل الإعلام في البلدان الـ180 التي يشملها التحليل، حيث تُعَرِّف حرية الصحافة على أنها “الإمكانية الفعلية للصحفيين، بشكل فردي وجماعي، لاختيار وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية”.
وفق هذا التعريف تطرح المؤسسة استبيانًا مكوَّنًا من خمسة مؤشرات، السياقات السياسية (المكوَّن من 35 سؤالاً)، والسياق القانوني (المكوَّن من 26 سؤالاً)، والسياق الاقتصادي (المكوَّن من 26 سؤالاً)، والسياق الاجتماعي والثقافي (المكوَّن من 22 سؤالاً)، والسياق الأمني (المكوَّن من 15 سؤالاً).
ويعتمد التصنيف على احتساب درجات فرعية لكل مؤشر، بين 0 و 100 درجة، بحيث تُشير الدرجة العالية إلى مستوى عالٍ من حرية الصحافة في هذا البلد، والعكس صحيح؛ ويتم احتساب هذه الدرجات على عنصرين: حجم الانتهاكات ضد الصحفيين ووسائل الإعلام، وتحليل نوعي للوضع في البلد من خلال إجابات الخبراء على استبيان تُقدّمه مراسلون بلا حدود.
وتشير الدولة التي تحصل على معدل درجات ما بين 85 – 100 نقطة إلى الحالة الجيدة التي عليها حرية الصحافة بها، أما ما بين 70 – 85 فهي جيدة نوعًا ما، وما بين 55-70 فهي حالة إشكالية، وما بين 40-55 فهي حالة صعبة، أما الدول الواقعة بين معدلي 0 – 40 نقطة فهي حالة شديدة الخطورة وهي المنطقة التي تقع فيها مصر.
واقع متدني
يكشف التقرير السنوي لـ”مراسلون بلا حدود” عن انعدام التعددية الإعلامية في مصر، حيث تسيطر 3 صحف وطنية مملوكة للحكومة على الساحة، الأهرام والأخبار والجمهورية، أما بقية وسائل الإعلام الأخرى فهي تئن تحت وطأة الرقابة من جهة والملاحقات القضائية من جهة ثانية، في حين بات دور الإذاعة والتلفزيون يقتصر على الدعاية السياسية.
فعلى مستوى السياق السياسي، يقول التقرير إن جميع وسائل الإعلام المصرية تقريباً تعمل تحت الأوامر، حيث الخضوع للسيطرة المباشرة إما من الحكومة أو المخابرات أو من بعض رجال الأعمال النافذين، الذين يستثمرون في الإعلام خدمة لمصالح دوائر السلطة. وفي المقابل، تُحظر وسائل الإعلام التي ترفض الخضوع لسياسة الرقابة.
واتساقًا مع هذا التقييم لا زالت الخريطة الإعلامية المصرية تعاني من تداعيات حجب المواقع الإخبارية والصحفية، فمنذ عام 2017 هناك العشرات بل المئات من المواقع التي لا تزال محجوبة حتى اليوم، وتحتاج لتطبيقات خاصة لفك هذا الحجب، وهو ما يعكس حالة التضييق الممارسة على المنظومة الإعلامية برمتها.
ومن زاوية الإطار القانوني، فهناك بنية تشريعية قانونية تضيق الخناق على العمل الصحفي، وتلاحق الصحفيين بتهمة “الانتماء إلى منظمة إرهابية” أو “نشر أخبار كاذبة”، هذا بخلاف إصدار قوانين تشرعن مراقبة الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي التي تحظى بأكثر من 5000 متابع، بجانب العراقيل الموضوعة أمام قانون الصحافة الجديد الذي يناقش حاليًا وسط اعتراضات ومخاوف حقوقية من تداعياته على حرية الصحفيين والمهنة.
لا يختلف المشهد كثيرًا من حيث السياق الاقتصادي، حيث تمر وسائل الإعلام المصرية بأزمة اقتصادية خانقة، دفعت كثيرًا منها إلى وقف نشاطه أو تقليصه على أحسن تقدير، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على المستوى المعيشي للصحفيين والذي بلغ ذروته جراء السياسات الاقتصادية المتبعة وما نجم عنها من قرارات مثل التعويم وغيرها والتي رفعت مناسيب التضخم إلى معدلات غير مسبوقة.
🔴 الآن عشرات الصحفيين المصريين يتظاهروا أمام #نقابة_الصحفيين بوسط القاهرة للمطالبة بإيقاف حبس الصحفيين والإفراج عن الصحفيين المعتقلين . #الصحافة_ليست_جريمة #لا_لحبس_وتعذيب_الصحفيين pic.twitter.com/15YXt8xAJG
— Ali Bakry (@_AliBakry) August 11, 2024
وكشف استبيان أجرته نقابة الصحفيين المصريين قبل أشهر أن ما يزيد عن 72% من الصحفيين المصريين فيما دون الحد الأدنى للأجور المُحدد من الدولة بـ 7000 جنيه شهريًا (نحو 138.6 دولارًا أميركيًا) منهم 40% يعيشون بأقل من نصف الحد الأدنى، مقابل 28.2 % يلامسون الحد الأدنى أو يزيدون عليه.
وأوضح كذلك أن 40.1% من الصحفيين يلجأون للعمل الإضافي بشكل دائم، للوفاء بالتزامات الحياة، ونحو 24.4 % يضطرون للعمل الإضافي أحيانًا، بخلاف 30% يلجؤون لأعمال غير صحفية لتحسين أجورهم، ما يعني أن قرابة ثلثي الصحفيين المصريين غير قادرين على تلبية احتياجاتهم المعيشية، مما يدفعهم للبحث عن عمل إضافي.
وحول تأثير المستوى الاقتصادي على أداء الصحافة واستقلاليتها يقول مديرة التحرير بمنظمة “مراسلون بلا حدود”، آن بوكاندي، “إن ضمان توفر مساحة إعلامية تعددية وحرة ومستقلة يقتضي ظروفاً مالية مستقرة وشفافة، إذ لا صحافة حرة بدون استقلالية اقتصادية. فعندما يتم إضعاف وسائل الإعلام اقتصادياً، فإنها تنجرف مع تيار التهافت على الجمهور، على حساب الجودة، مما يجعلها عُرضة لأطماع الأوليغارشيين أو الجهات التي تتخذ القرارات ذات الصلة بالشأن العام، حيث تُصبح مثل الدمى في أيديهم. فعندما يتم إفقار الصحفيين، لا تُصبح لديهم الوسائل الكفيلة بمقاومة أعداء الصحافة من جنود التضليل والدعاية”
وفيما يتعلق بالسياق الأمني فرغم الإفراج عن بعض الصحفيين بفضل ضغوط النقابات والناشطين والمجتمع الدولي، إلا أن عمليات التفتيش وإغلاق مكاتب وسائل الإعلام والاعتقالات والمحاكمات الصورية وحالات الاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي لا تزال من المشاهد المألوفة في الحياة اليومية للصحفيين المصريين، وفق ما ذكر تقرير المنظمة.
"محمولا على الأعناق ويهتف عاشت حرية الصحافة"..لقطات عقب إعلان خالد البلشي نقيبا للصحفيين لدورة جديدة#أهل_الميديا#انتخابات_نقابة_الصحفيين pic.twitter.com/WmVxd2Us5f
— أهل الميديا (@AHLELMEDIA) May 2, 2025
وحسب التقرير العام لنقابة الصحفيين عن الفترة من مارس/ آذار 2023 حتى فبراير/ شباط 2024، فهناك أكثر من 19 صحفيًا على قوائم الحبس الاحتياطي (7 منهم نقابيين و12 من غير المقيدين بالنقابة) هذا بخلاف ثلاثة صحفيين صادرة بحقهم أحكام قضائية، في ظل تصاعد الخطاب الصحفي بضرورة منح هذا الملف أولوية قصوى.
يتزامن هذا التقرير مع فوز نقيب الصحفيين المصريين، الصحفي اليساري، خالد البلشي، بمقعد النقيب لولاية ثانية، وسط أمال معقودة عليه ومجلس نقابته في تحسين مستوى الحريات الصحفية، خاصة وأن برنامجه الانتخابي قد وضع ملف الحريات على رأس الأولويات، وهو ما أكد عليه في تصريحاته الأولى بعد الإعلان عن فوزه رسميًا.
حيث هتف قائلًا “عاشت حرية الصحافة” و”عاوزين صحافة حرة”، مضيفًا أن أولوياته تتضمن ضمان قدرة مهنة الصحافة على التعبير، بجانب استكمال جعل النقابة بيتًا لكل الصحفيين، مؤكدًا أن الجمعية العمومية تريد خدمات بكرامة وهو ما يمثل الرسالة الأهم.. فهل ينجح في فك حبال التضييق التي تخنق الصحافة المصرية والدفع بها نحو ترتيب متقدم نسبيًا في مؤشر الحريات؟