“الولايات المتحدة وإسرائيل تناقشان إمكانية تشكيل إدارة أميركية لغزة”.. تحت هذا العنوان، كشفت وكالة “رويترز”، نقلاً عن خمسة مصادر مطّلعة، عن ملامح خطة أميركية إسرائيلية تُجهز حاليًا داخل المطبخ السياسي في البيت الأبيض بشأن “اليوم التالي” للحرب في غزة، وتشير إلى إمكانية تشكيل سلطة انتقالية مؤقتة تتولى إدارة القطاع.
وتتزامن هذه التسريبات مع تصريحات لافتة أدلى بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الأربعاء 7 مايو/أيار، حيث ألمح إلى مقترح جديد يتعلق بالإفراج عن الأسرى ووقف إطلاق النار، قد يُعلن عنه خلال 24 ساعة، قائلًا خلال وجوده في البيت الأبيض، إن بلاده أجرت العديد من المباحثات المتعلقة بغزة، ومضيفًا أن تفاصيل ما جرى “ستُكشف على الأرجح خلال الساعات الـ24 المقبلة”.
وفقًا للمصادر التي استندت إليها وكالة “رويترز” ورفضت الكشف عن هويتها، فإن المقترح المطروح يتضمن تولي الولايات المتحدة بشكل مباشر إدارة السلطة الانتقالية المزمعة في غزة، وأكدت المصادر أن النقاشات لا تزال في مراحلها الأولية، وأن هناك نقاطًا عالقة ما تزال قيد التفاوض، لإخراج المقترح في صورته النهائية الكاملة.. فماذا نعرف عن ملامح تلك السلطة؟
Exclusive: US, Israel discuss possible US-led administration for Gaza, sources say – https://t.co/z5q9lPciCd via @Reuters
— Jennifer Ablan (@jennablan) May 7, 2025
سيناريو “بول بريمر” في غزة
وبحسب ما أفادت به المصادر الخمسة التي تحدثت لوكالة “رويترز”، فقد تركّزت المشاورات على تشكيل حكومة انتقالية برئاسة مسؤول أميركي، تتولى إدارة قطاع غزة إلى حين نزع سلاحه بالكامل، وتحقيق استقرار سياسي كافٍ يمكّن من بروز إدارة فلسطينية جديدة تتماشى مع المعطيات الجديدة، فيما أشارت المصادر إلى غياب أي سقف زمني محدد لعمل هذه الحكومة، التي من المحتمل أن تستمر لفترات طويلة إذا لم تتحقق الشروط اللازمة لتولي سلطة فلسطينية إدارة القطاع.
ومن المقرر أن تُدعى دول أخرى للمشاركة في تلك السلطة الانتقالية، دون تحديد هوياتها، فيما أشارت المصادر أن الإدارة ستستعين بتكنوقراط فلسطينيين، لكنها ستستبعد حركة حماس والسلطة الفلسطينية، مع التنويه على أن المناقشات لا زالت جارية، ولم تحرز تقدمًا بعد حولا من سيتولى الأدوار الجوهرية.
ووصفت بعض المصادر النموذج المطروح بأنه أقرب إلى “سلطة التحالف المؤقتة” التي أنشأتها واشنطن في العراق عام 2003 بقيادة بول بريمر، عقب الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين، تلك السلطة التي كان ينظر إليها العراقيون على أنها قوة احتلال واجبة المقاومة والتصدي لها، وهو ما أدخل البلاد في أتون من المواجهات الدامية.
وعليه، يرى البعض أن هناك مخاطر محتملة على الولايات المتحدة في حال تمرير هذا المقترح بصيغته المٌسربة تلك، ليس فقط لجهة جر واشنطن بقدر أكبر إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل أيضًا لاحتمال أن تُنظر إليها كقوة احتلال مباشر في غزة، الأمر الذي قد يفجّر موجة رفض شعبي ويضعف موقفها أمام الحلفاء والخصوم في المنطقة على حد سواء.
تطوير للمقترح الإسرائيلي الإماراتي
يعد هذا المقترح، الخاضع للنقاش على طاولة المباحثات الأمريكية الإسرائيلية، تطويرًا للرؤية الإسرائيلية والإماراتية إزاء “اليوم التالي” للحرب في غزة، فيما يدور الخلاف الوحيد بين الرؤى الثلاثة حول موقع السلطة الفلسطينية من الإعراب في جملة الواقع الجديد الذي فرضه السابع من أكتوبر، فبينما يميل الإماراتيون لمنحها الفرصة للمشاركة، يرفض الإسرائيليون بشكل قطاع ويتحفظ الإمريكان نسبيًا.
وزير الخارجية الإسرائيلي غدعون ساعر، كان قد قال في وقت سابق إنه يعتقد أن هناك “فترة انتقالية” بعد انتهاء الصراع تشرف فيها على غزة هيئة دولية تضم “دولا عربية معتدلة”، ويعمل الفلسطينيون تحت إشرافها، مضيفًا “لا نسعى للسيطرة على الحياة المدنية لسكان غزة. مصلحتنا الوحيدة في قطاع غزة هي الأمن”، دون تقديم أي تفاصيل بشأن هوية تلك الدول والتزاماتها في الحكومة الانتقالية.
"نتنياهو يريد من نظام ابن زايد إرسال قوات إلى غزة، ودفع تكاليف إعادة الإعمار، وإصلاح النظام التعليمي لإزالة التطرف".. موقع أكسيوس يكشف عن اجتماع سري في أبو ظبي بين #الإمارات و #أمريكا وإسرائيل للتآمر على #غزة، تحت غطاء "اليوم التالي للحرب". pic.twitter.com/dvSUU70Njk
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) July 24, 2024
وهي الرؤية الذاتية التي كانت قد طرحتها أبو ظبي على واشنطن وتل أبيب بشأن تشكيلَ تحالف دولي للإشراف على إدارة غزة بعد الحرب، فيما اشترطت الإمارات مشاركتها بإشراك السلطة الفلسطينية التي تراها قادرة على القيام بهذا الأمر بحكم علاقتها الجيدة بالمعسكر الغربي، ومناهضتها وعداوتها الواضحة لفصائل المقاومة في القطاع.
وقد سبق أن وجهت “رويترز” سؤالًا لوزارة الخارجية الإماراتية حول ما إذا كانت ستدعم إدارة بقيادةٍ أمريكية لا تشمل السلطة الفلسطينية، إلا أنها لم تُجب، في الوقت الذي ترفض فيه القيادة الإسرائيلية رفضًا باتًا أي دور محتمل للسلطة في غزة إذ تتهمها بمعاداة إسرائيل من جانب، وعجزها على القيام بما عليها من التزامات أمنية في الضفة من جانب أخر.
عكس اتجاه المقترح المصري
في منتصف عام 2024، قدمت مصر مقترحًا كانت قد تقدمت به حماس بداية ذات العام، يتعلق بتشكيل لجنة إسناد مجتمعي لإدارة شؤون قطاع غزة في إطار جولات المفاوضات التي قادها الوسطاء، للوصول إلى تفاهمات تقضي بوقف الحرب وتبادل الأسرى وإعادة الإعمار.
تضمن المقترح وقتها تشكيل لجنة تكنوقراط من 10-15 عضوا من الشخصيات الوطنية ذات الكفاءات والمشهود لها بالنزاهة والخبرة والشفافية، التي تمتلك القدرات والتخصصات المتنوعة لإدارة العمل العام في كافة المجالات داخل القطاع لفترة انتقالية حتى إجراء انتخابات لاحقة.
كان هدف القاهرة من تقديم هذا المقترح في ذلك الوقت، سحب ذرائع الحكومة الإسرائيلية، التي ما ملت من العزف على وتر أنها لن توقف الحرب على غزة حتى يتم تقويض حكم حركة حماس، وتُغيّب عن إدارة شؤون القطاع بشكل كامل، وبالفعل قدمت الفصائل الفلسطينية نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي قائمة تضم 6 مرشحين لرئاسة لجنة الإسناد المجتمعية، بالإضافة إلى ترشيح 31 شخصا لشغل 10 مناصب داخل اللجنة، مع إمكانية زيادة عدد المناصب حسب الحاجة.
وكان هناك اتفاق ضمني بين جميع الفصائل بشأن عمل تلك اللجنة، حيث كشفت تقارير إعلامية أن هذا المقترح نوقش بحضور ممثلين عن كل من حركات حماس، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والمبادرة الوطنية الفلسطينية، والتيار الإصلاحي الديمقراطي بحركة فتح الذي يرأسه محمد دحلان.
وبالنظر إلى المقترح الذي تناقشه واشنطن وتل أبيب يلاحظ أنه يسير عكس اتجاه المقترح المصري بشكل كبير، إذ يحاول تجريد الفلسطينيين من سلطة إدارة قطاع غزة، ويمنحها لجهات وأطراف خارجية، دولية وعربية، برئاسة أمريكية وتحت إشراف إسرائيلي، وهو ما يحول الصورة من إدارة انتقالية للقطاع إلى احتلال مقنع.
احتلال ناعم
ليس هناك وصف أبلغ في تقييم المقترح الأمريكي الإسرائيلي – غير المُعلن حتى اليوم – مما وصفته المصادر الخمسة التي نقلت عنها “رويترز” تفاصيل تلك النقاشات، حيث شبهتها بسلطة التحالف المؤقتة في العراق التي أنشأتها واشنطن عام 2003 بقيادة بول بريمر، وهي السلطة التي وصفها العراقيون آنذاك بالاحتلال الأمريكي لبلادهم.
اليوم، واشنطن تريد إعادة ذات السيناريو لكن بمعطيات وأدوات مختلفة، وبمشاركة عربية، ومباركة إقليمية، متناسية أكثر من 20 عامًا شهدت فيهم المنطقة تطورات جذرية كفيلة بإعادة رسم الخارطة السياسية بشكل كبير، محاولة الاستفادة من حالة الانبطاح العروبي غير المسبوقة، والتي تتجاوز عشرات الأضعاف ما كانت عليه عام 2003
يتناغم هذا الطرح مع التصريحات المتشددة الواردة على لسان اليمين المتطرف الإسرائيلي، على رأسه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي لا يتوانى عن التحذير بأن “غزة ستدمَّر بالكامل”، وأن سكانها سيبدأون “المغادرة بأعداد كبيرة نحو دولة ثالثة”، بعد أن يتم نقلهم إلى جنوب القطاع، وأن الكيان لن ينسحب من القطاع حتى وإن كان هناك اتفاق آخر بشأن الرهائن.
وتحاول الإدارة الأمريكية من خلال تلك المقترحات تكثيف الضغوط الممارسة على الوسيطين، المصري والقطري، ودفعهما نحو بذل المزيد من الضغوط على المقاومة لتقديم تنازلات إضافية تتماهى مع الطموحات الإسرائيلية الأمريكية في القطاع والتي تتمحور في إبعاد الفصائل عنه وتحويله إلى منطقة منزوعة السلاح وبلا أي قلق ديموغرافي مستقبلي.
وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش يتوعد بتدمير قطاع غزة بالكامل https://t.co/IKY5m1qwTW pic.twitter.com/1OmN3xmkWo
— فرانس 24 / FRANCE 24 (@France24_ar) May 7, 2025
وكانت كل من القاهرة والدوحة وفي بيان مشترك، الأربعاء 7 مايو/أيار الجاري، أكدتا على أن “جهودهما في ملف الوساطة في قطاع غزة مستمرة ومتسقة، وتستند إلى رؤية موحدة تهدف إلى إنهاء الأزمة الإنسانية غير المسبوقة في القطاع، وتخفيف معاناة المدنيين عبر تهيئة الظروف الملائمة للوصول إلى تهدئة شاملة”، مشددين على المضي قدما في دعم الرؤية العربية الخاصة بمستقبل القطاع وتفاهمات اليوم التالي للحرب.
وطالما شددت حماس على رفضها القطاع لتولي أي سلطة أجنبية إدارة قطاع غزة، مٌعربة عن تفاهمها الكامل بشأن إسناد الأمر إلى لجنة فلسطينية فلسطينية برعاية عربية إقليمية، متمسكة بمبدأها الراسخ القائم على مسارين رئيسيين، الأول أن الفلسطينيين وحدهم من يختارون حكامهم، والثاني أن فلسطين لا يحكمها إلا أبناؤها.
وبين مطرقة مجاعة غير مسبوقة تضع مليوني فلسطيني داخل القطاع في مواجهة غير متكافئة في حرب تجويع نكراء، وسندان مخططات الاحتلال الناعم لغزة باسم الإدارة الانتقالية وتفاهمات اليوم التالي للحرب، يجلس المجتمع العربي والدولي في مقاعد المتفجرين، في انتظار لحظة الحسم وما ستسفر عنه تلك المباراة، إما موت سكان غزة أو احتلال القطاع، دون أن يُحرك أحد ساكنًا، في مشهد خذلاني لم تعرفه الإنسانية منذ عقود طويلة.