لم يكن المسجد الأقصى، منذ سنوات طويلة، مجرد مكان للعبادة، بل شكّل دومًا ساحة مركزية في الصراع على الهوية والوعي، إلى جانب الصراع على الأرض والسيادة.
ومع تصاعد حرب الإبادة المستمرة ضد قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، تكثفت محاولات الاحتلال الإسرائيلي لطمس البُعد الوطني للمسجد، وتحويل منبره إلى مساحة وعظية صامتة، تُقصى منها القضايا الكبرى وتُفرَّغ من التفاعل الحي مع محطات النضال الفلسطيني.
وفيما يواصل الاحتلال إجراءاته القمعية داخل المسجد، من إبعادات واعتقالات وتضييق أمني محكم، تُسهم الأوقاف الأردنية – بشكل مباشر أو غير مباشر – في فرض سقف على الخطاب الديني، عبر تعليمات للخطباء بعدم التطرق لأي مضمون وطني أو سياسي، تحت ذريعة الحفاظ على “قدسية المكان” وتجنّب “الذرائع الأمنية”.
وترافق هذا التوجه مع سياسة لاستبدال بعض الخطباء، يُنظر إلى بعضهم على أنهم أقل تأثيرًا، وأكثر ميلًا إلى خطاب هادئ ومنضبط، يتماهى مع هذه التوجهات.
غزة تُغيَّب عن منبر المسجد الأقصى
شهد المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، خلال الأسابيع الأخيرة تطورات مثيرة للجدل، بعد أن فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قيودًا صارمة على الخطباء، تمنعهم من ذكر قطاع غزة صراحةً في خطب الجمعة أو الدعاء لأهله، في وقت تتصاعد فيه وتيرة العدوان على القطاع.
وأفادت مصادر من داخل الأقصى أن خطباء الجمعة التزموا بهذه القيود مؤخرًا، حيث تجنّبوا الإشارة إلى غزة بشكل مباشر، واكتفوا بأدعية عامة “لفلسطين”، ما أثار استياءً واسعًا في صفوف المصلين، وانعكس بغضب شعبي على منصات التواصل الاجتماعي.
وأظهرت تقارير إعلامية أن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس التزمت بهذه الشروط الإسرائيلية، خشية تعرّض الخطباء أو المسجد نفسه لإجراءات عقابية، في ظل تزايد الضغوط على المدينة المقدسة.
وتأتي هذه الخطوة في سياق تشديد الاحتلال لإجراءاته داخل المسجد الأقصى ومحيطه، بما في ذلك فرض قيود على دخول المصلين، لا سيما من هم دون سن الخمسين، وتكثيف اقتحامات المستوطنين لباحات المسجد بحماية من قوات الاحتلال.
وتحذر جهات فلسطينية من أن هذه السياسات تمهّد لمخطط تهويدي شامل، يهدف إلى تقليص الحضور الفلسطيني في المسجد ومحيطه، وسط استمرار الحفريات الإسرائيلية التي تهدد أساساته.
وفي السياق ذاته، أثار تغييب الدعاء لغزة موجة من الانتقادات على منصة “X”، حيث عبّر ناشطون عن غضبهم من استجابة الأوقاف لضغوط الاحتلال، واعتبروا أن هذا المنع يمثّل “تفريطًا بحقوق الشعب الفلسطيني”، وضربًا لوحدة الساحات الفلسطينية، خاصة في ظل ما يتعرض له القطاع من مجازر متواصلة.
حين يصبح الدعاء لغزة تهمة
في سياق متصل، كشفت تقارير صحفية أن شرطة الاحتلال الإسرائيلي سلّمت دائرة الأوقاف الإسلامية في إبريل/نيسان 2025 قائمة شروط لإلغاء قرار إبعاد الشيخ محمد سليم، أحد خطباء المسجد الأقصى، تضمنت حظرًا صريحًا على ذكر غزة أو تناول أي قضية سياسية خلال خطب الجمعة، تحت طائلة الإبعاد لمدة قد تصل إلى ستة أشهر.
ووصفت هذه الشروط بأنها “غير مسبوقة”، إذ دفعت عددًا من الخطباء إلى الاكتفاء بأدعية عامة لفلسطين، ما أثار موجة غضب بين المصلين، الذين اعتبروا أن هذه القيود تمثل محاولة ممنهجة لفصل منبر الأقصى عن قضايا الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها المجازر المستمرة في قطاع غزة.
واعتبر حقوقيون أن خطورة ما تقوم به سلطات الاحتلال تكمن في سعيها لتكريس واقع قانوني يُجرّم حتى التعبير المعنوي عن التضامن، ويُصنّف أبسط أشكال الدعم – كالدعاء أو التعزية – على أنها “تحريض على الإرهاب”.
وفي هذا الإطار، أفادت مصادر مطلعة بأن مخابرات الاحتلال، بالتنسيق مع مؤسسات حكومية إسرائيلية، أقدمت على تهديد عدد من الخطباء وموظفي الأوقاف بفرض ضرائب “الأرنونا”، وحرمانهم من مستحقاتهم المالية، وتهديد وجودهم في مدينة القدس، في حال الاستمرار في الدعاء لغزة. وقد لجأت سلطات الاحتلال إلى سياسة كمّ الأفواه باستخدام الترهيب والضغوط الإدارية والاقتصادية.
وأكد الشيخ عكرمة صبري، خطيب المسجد الأقصى، في تصريحات صحفية: “منذ أن بدأت حرب غزة، هناك تشديد على خطباء المسجد الأقصى. ما من خطيب إلا وتتصل به المخابرات الإسرائيلية لتحذيره، تحذيرًا مبطنًا، بألا يتحدث عن غزة أو يدعو لها. وقد أُبعد بعض الخطباء بالفعل، والتشديد يشمل سائر الأئمة والخطباء بأنه لا يجوز الدعاء لأهالي غزة”.
ومنذ مطلع العام الجاري، أصدرت سلطات الاحتلال أكثر من 100 قرار إبعاد عن المسجد الأقصى بحق مقدسيين، إلى جانب عشرات القرارات غير المعلنة، التي أحجم أصحابها عن الحديث عنها خوفًا من تبعات أمنية، بحسب ما رصدته شبكة العاصمة الإخبارية.
وتشير هذه الأرقام إلى تصاعد كبير في وتيرة الإبعادات خلال الربع الأول من العام، علمًا بأن العام الماضي شهد إصدار أكثر من 400 قرار إبعاد، وفق معطيات مركز معلومات وادي حلوة في القدس. وغالبًا ما يتعرض الشخص الواحد لعدة قرارات إبعاد متتالية، تشمل المسجد الأقصى، والبلدة القديمة، وأحياء مقدسية محددة، وقد تمتد لتشمل مدينة القدس بالكامل.
وفي السياق ذاته، رُصد إبعاد نحو 25 موظفًا من دائرة الأوقاف خلال الشهور الماضية، إما من خلال سحب تصاريح الدخول أو عبر أوامر “منع أمني”، وكان من بين هؤلاء شخصيات دينية بارزة، مثل الشيخ عكرمة صبري، والشيخ إسماعيل نواهضة، والشيخ محمد سليم، حيث صدرت قرارات إبعادهم عقب مواقفهم المعلنة أو دعائهم لغزة، تحت ذريعة “التحريض”.
كيف يحاول الاحتلال إسكات الصوت الوطني في الأقصى؟
لم تكن سياسات التضييق على أئمة المسجد الأقصى مستجدة أو عابرة، بل تمثل امتدادًا لهجمة صهيونية متصاعدة، تحوّلت فيها السيطرة على المسجد إلى أولوية استراتيجية تتجاوز البعد الأمني التقليدي، لتأخذ شكل معركة على الهوية والرواية. فالمسجد، في نظر الاحتلال، ليس مجرد موقع ديني، بل ساحة رمزية يسعى من خلالها إلى تفكيك الخطاب المقاوم، واستبداله بتصورات توراتية تمهّد لتحويله إلى “مقدس يهودي” خالص.
ومع تصاعد حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، كثّفت “إسرائيل” من محاولاتها لفرض سيادتها على المسجد الأقصى، باعتباره إحدى أهم جبهات المواجهة الرمزية، خصوصًا بعد الرسائل التي حملتها عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي أعادت الأقصى إلى مركز الاشتباك.
وبغطاء من شرطة الاحتلال وأجهزته الأمنية، باتت الاقتحامات الجماعية للمستوطنين تُنظم بشكل يومي، وتُمارس خلالها طقوس تلمودية علنية داخل الحرم، كالسجود التوراتي والنفخ بالبوق، وسط تزايد نفوذ منظمات مثل “بيدينو“، التي تتصرف كما لو كانت إدارة موازية للمسجد، في مشهد يرسّخ خطوات “التهويد المقنن”.
في المقابل، شددت سلطات الاحتلال قبضتها الأمنية داخل المسجد ومحيطه، من خلال تكثيف الحواجز، ونصب الأقفاص الحديدية، وتشغيل منظومات مراقبة متقدمة، بينها برج استخباري جديد نُصِب في المدرسة التنكزية، ويُستخدم لأغراض أمنية دقيقة.
لكن الإجراء الأخطر تمثّل في اتّباع سياسة الإقصاء والإبعاد بحق الشخصيات الدينية المؤثرة، وفي مقدمتهم الخطباء الذين حافظوا على حضور وطني واضح في خطبهم. إذ لم تتردد سلطات الاحتلال في إبعاد رموز دينية بارزة، كالشيخ ناجح بكيرات نائب مدير عام الأوقاف، بتهم واهية تتراوح بين “التحريض” و”الدعاء لغزة”، في محاولة واضحة لتفريغ المسجد من رموزه المعنوية.
وتُظهر المعطيات حجم التصعيد في هذا المسار، فقد أصدرت سلطات الاحتلال خلال عام 2023 أكثر من 1100 قرار إبعاد، بينها 412 قرارًا بحق المسجد الأقصى وحده، وفق مركز معلومات وادي حلوة. ولم يقتصر الاستهداف على رجال الدين، بل طال المرابطين والمرابطات، والنشطاء، والصحفيين، وحتى الأطفال.
وتتعدد أنماط الإبعاد بين قرارات جماعية، كما جرى مع طالبات مصاطب العلم، وقرارات إبعاد مكاني تشمل البلدة القديمة أو القدس كاملة، مع إمكانية تمديدها مرارًا وفرض شروط مشددة على المبعدين. كما تحولت الحواجز العسكرية المنتشرة داخل القدس إلى أدوات ميدانية لتنفيذ الإبعاد الفوري، في ظل عسكرة المدينة وتحويلها إلى فضاء أمني مغلق.
ولا يقتصر هدف هذه السياسات على تسهيل اقتحامات المستوطنين، بل يتعداه إلى ضرب الحضور الوطني داخل المسجد الأقصى من جذوره، وتفريغه من كل ما يربط خطابه الديني بمفاهيم الكرامة والحرية والمقاومة. إذ لا يمثل إبعاد الخطباء فقط تغييبًا لأصواتهم عن المنبر، بل أيضًا كسرًا للرموز الملهمة، وحرمانًا للأجيال الجديدة من نماذج الصمود والارتباط بقضايا الأمة.
وعلى هذا الأساس، يمكن فهم هذه السياسات بوصفها خطوات متراكمة لإعادة تشكيل المشهد داخل المسجد الأقصى، بما ينسجم مع رؤية الاحتلال القائمة على إفراغ الحرم من هويته الأصلية، وتجريده من رمزيته الإسلامية والعربية، وفرض الرواية التوراتية كأمر واقع.
الأوقاف الأردنية: دور غائب أم شريك في التحييد؟
في الوقت الذي يصعّد فيه الاحتلال الإسرائيلي استهدافه للمسجد الأقصى وخطبائه، تبدو الأوقاف الأردنية – الجهة المسؤولة رسميًا عن إدارة شؤون الحرم – كعامل إضافي في إعادة تشكيل مضمون الخطاب الديني داخله، على نحو يكرّس تحييده عن قضاياه الوطنية والسياسية.
ورغم تزايد الاعتداءات الإسرائيلية على الشخصيات الدينية، لم تتخذ الأوقاف أي موقف حازم أو علني تجاه سياسة الإبعاد الممنهجة التي طالت الخطباء والحراس والمرابطين، بل حافظت على خطاب إداري “هادئ” يركّز على انتظام الشعائر، متجاهلًا إلى حد بعيد البعد التحرري الوطني للمسجد.
ويستند سلوك الأوقاف إلى قاعدة مفادها أن الحفاظ على انتظام الصلاة وتسيير شؤون المسجد مقدم على أي مضمون وطني أو سياسي. وبهذا التوجه، صدرت تعليمات مباشرة للخطباء تطالبهم بالامتناع عن الحديث في خطب الجمعة عن الحرب في غزة أو الدعاء للشهداء، والتحذير من استخدام أي تعبير قد يُفسر على أنه “تحريضي”، في انحياز واضح لخطاب التهدئة على حساب التعبير عن آلام الناس وتطلعاتهم.
وليس هذا النهج وليد اللحظة، إذ تعود جذوره إلى محطات سابقة، كان أبرزها خطبة الجمعة التي ألقاها مفتي القدس الشيخ محمد حسين خلال معركة “سيف القدس” في مايو/أيار 2021، حين تجاهل فيها الإشارة إلى العدوان على غزة، ما أثار غضبًا شعبيًا واسعًا، زاد من حدته عدم إقامة صلاة الغائب على أرواح الشهداء.
وفي رمضان 2022، مثّل قرار منع الاعتكاف في المسجد الأقصى خارج العشر الأواخر نقطة مفصلية، جرى تبريرها بـ”الترتيبات الإدارية”، بينما تزامن القرار عمليًا مع تفاهمات غير معلنة مع الاحتلال، بالتوازي مع دعوات جماعات “الهيكل” لتكثيف اقتحاماتها خلال عيد الفصح العبري. وفي ليلة القدر من الشهر نفسه، استخدم أئمة الأقصى مكبرات الصوت لحثّ المصلين على عدم الاشتباك مع قوات الاحتلال المقتحمة، في مشهد وُصف بأنه أقرب إلى “ضبط الجماهير” بدل حمايتها.
ولم تقف ملامح هذا الانزياح عند حدود الخطاب أو الممارسة الميدانية، بل وصلت إلى التوصيفات الرسمية، كما في حالة باب الرحمة، الذي وصفه بيان رسمي أردني بـ”المبنى“، متجاهلًا عمدًا هويته كمصلّى إسلامي، في توصيف يتقاطع مع محاولات الاحتلال نزع الصفة الدينية عن المكان.
ومع تصاعد حرب الإبادة في قطاع غزة، تعمّق هذا النهج أكثر، إذ أصدرت لجنة الأئمة في دائرة الأوقاف تعليمات واضحة للخطباء، تدعوهم إلى الابتعاد التام عن القضايا الوطنية، وتوجيه خطب الجمعة نحو الجوانب الوعظية والأخلاقية فقط، بحجة تفادي الملاحقة الأمنية من قبل الاحتلال.
وتتولى وزارة الأوقاف الأردنية – بموجب اتفاقية وادي عربة (1994) – الإشراف الرسمي على إدارة المسجد الأقصى من خلال دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، وتختص بتعيين الأئمة والخطباء والحراس. ويرى المنتقدون أن هذه الدائرة، تحت وطأة التنسيق الأمني والضغوط السياسية، لم تُظهر الممانعة الكافية للشروط الإسرائيلية، مما ساهم فعليًا في تجفيف الخطاب الوطني داخل الأقصى وتفريغ منبره من رسالته السياسية والوجدانية الجامعة.
حين يُصبح الصمت سياسة
ما تشهده خطب المسجد الأقصى اليوم لا يُختزل في تغييب الدعاء أو تجاهل المجازر في غزة، بل يعكس تحوّلًا عميقًا وخطيرًا في وظيفة المنبر، في واحدة من أكثر ساحات الاشتباك الرمزي تأثيرًا في الوعي الفلسطيني والعربي.
إن تحييد الأقصى عن قضاياه الوطنية ليس وليد لحظة، بل نتاج سياسة مزدوجة: يد احتلالية غليظة، وتوجيهات “ناعمة” من الأوقاف، التقت معًا على تفريغ الخطاب الديني من مضمونه التعبوي، وإسكات الصوت الوطني الذي لطالما مثّل روح المنبر ونبض المدينة.
ومع كل خطبة باهتة تُلقى في زمن الذبح الجماعي لأهل غزة، تتسع الفجوة بين الأقصى وجماهيره، ويتراجع دوره التاريخي كمحرّك للمزاج الشعبي وبوصلة للغضب الوطني. فحين يُمنع حتى الدعاء، يغدو الصمت فعلًا سياسيًا، ويغدو المنبر شاهدًا على مشروع محو تدريجي للهوية والوعي.
ولا يهدد استمرار هذا المسار فقط حاضر الأقصى، بل يمهّد لتفكيك دوره الاستراتيجي، وتحويله من منارة للمقاومة والكرامة، إلى مساحة روحية صامتة… يُؤمّ فيها المصلون، ويُدفن فيها الموقف.