ترجمة وتحرير: نون بوست
بصفتي أحد الناجين من حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على غزة، يؤلمني أن أشاهد شعبي يكافح من أجل العثور على ما يسد رمقه.
تستمر سياسة التجويع المتعمدة التي تتبعها إسرائيل في إحكام قبضتها على القطاع، بينما دقت المنظمات الإنسانية ناقوس الخطر، محذرةً من أن غزة على حافة مجاعة شاملة.
فمنذ أن خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار في 18 مارس/ آذار وأحكمت حصارها، انقطعت المواد الغذائية والمساعدات الأساسية عن 2.1 مليون فلسطيني في غزة، ومع إعلان برنامج الأغذية العالمي ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مؤخرًا عن نفاد مخزونهما من الدقيق والمواد الغذائية، يزداد خطر المجاعة على نطاق واسع مع مرور كل يوم.
عايشتُ الموجة الأولى من المجاعة في غزة في الأشهر الأولى من عام 2024، وهي الفترة التي أدت فيها القيود التي فرضتها إسرائيل على المساعدات إلى وصول الجوع إلى مستويات كارثية؛ فقد عانى الجميع في جميع أنحاء القطاع من نقص حاد في الغذاء، وأصبحت الأطباق الفارغة مشهدًا يوميًا اعتياديًا، وأُجبرتُ على مغادرة غزة بمفردي في فبراير/ شباط 2024 والهروب إلى مصر، بعد ما يقرب من خمسة أشهر من القصف والحصار المتواصل، وقد فقدت 16 كيلوغرامًا من وزني في ذروة المجاعة.
ومنذ ذلك الحين، كرستُ نفسي لمحاربة الدعاية الإسرائيلية والروايات التي تشوه الحقيقة وتقلل من شأن المعاناة الفلسطينية وتسخر من المعاناة التي يعيشها سكان غزة.
وبينما أتحرى عن التضليل الإسرائيلي، أحمل على عاتقي عبئًا عاطفيًا لرؤية آلام عائلتي التي لا تزال عالقة في غزة، فالطعام والدقيق ينفد من عائلتي مثلما ينفد من كل أسرة هناك تقريبًا،، وتكشف كل مكالمة فيديو بشكل مؤلم عن أجسادهم الواهنة التي أنهكها الجوع.
ووجدت دراسة أجريت في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2024 أن الشخص العادي في غزة فقد حوالي 18 كيلوغرامًا بسبب انعدام الأمن الغذائي الحاد خلال الحرب، وقد ازداد الوضع سوءًا منذ ذلك الحين.
استخدام إسرائيل للمجاعة كسلاح
لقد أدى الحصار الإسرائيلي الذي بدأ في 2 مارس/ آذار إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى مستويات غير مسبوقة؛ فقد أخبرني والدي الأسبوع الماضي أن كيس الدقيق الذي يزن 25 كيلوغرامًا يكلف الآن حوالي 200 دولار أمريكي، وارتفع السعر هذا الأسبوع إلى 470 دولار أمريكي.
لقد شاهدتُ مقاطع مصورة لعائلات تطحن المعكرونة والعدس لصنع خبز مؤقت لأطفالهم الذين يتضورون جوعاً بعد نفاد الدقيق، وقد أصبح خبز العدس الملاذ الأخير بالنسبة للكثيرين في ظل نظام التجويع الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي.
بعد أن عادت عائلتي إلى منزلنا الذي تعرض للقصف في شمال قطاع غزة في يناير/ كانون الثاني من هذا العام، قام أخي فهمي ببناء فرن مؤقت يعمل بالحطب لخبز الخبز لعائلتنا وجيراننا، ومع إغلاق جميع المخابز الرئيسية بسبب نقص الدقيق، أصبح عمله الصغير هذا بمثابة شريان حياة حيوي.
يخبز فهمي منذ أكثر من شهر، ويساعد من حوله. قال لي الأسبوع الماضي: “أعداد القادمين أصبحت أقل لأن الدقيق لم يعد متوفرًا، وأولئك الذين لا يزالون يأتون غالبًا ما يجلبون دقيقًا ملوثًا بالحشرات، وهو الشيء الوحيد المتبقي لديهم لإطعام أطفالهم”.
مع تزايد ندرة الغذاء في غزة، يعتمد الكثير من السكان الآن على التكايا – المطابخ المجتمعية – للحصول على وجبة يومية واحدة، وقد اضطرت هذه التكايا، التي لا تقدم في كثير من الأحيان سوى العدس العادي أو المعكرونة أو الأرز، إلى تقليل حصصها بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض على الطعام وغاز الطهي.
وحذر أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الفلسطينية غير الحكومية، من أن العديد من التكايا على وشك الإغلاق مع تناقص الإمدادات الغذائية.
أشاهد يوميًا لقطات لأشخاص يصطفون في طوابير ويتدافعون، وأطفال يبكون للحصول على وجبة صغيرة. إن هذه المشاهد المفجعة هي دليل لا يمكن إنكاره على استخدام إسرائيل سلاح التجويع.
حتى هذه التكايا القليلة الحيوية لم تسلم من الهجمات الإسرائيلية؛ فقد أفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن الجيش الإسرائيلي استهدف وقصف 29 تكية منذ بدء الحرب.
واضطر العديد من الفلسطينيين في غزة إلى أكل أي حيوان يجدونه للحصول على بعض البروتين؛ حيث تُظهر مقاطع فيديو صادمة، تحققت منها أنا وزملائي في الصحافة، أشخاصًا يأكلون السلاحف البحرية والخيول وحتى القنافذ للبقاء على قيد الحياة.
ومن القصص التي أثرت فيّ بشدة قصة الطفل عمر قنن، الذي قال إنه أكل لحم السلاحف رغم حبه لرافاييل، البطل الخارق من فيلم “سلاحف النينجا المتحولون المراهقون”.
إنه أمر مؤلم للغاية أن نتخيل كيف سيشاهد عمر شخصيته الكرتونية المفضلة مرة أخرى دون أن يتذكر أن الجوع أجبره ذات مرة على أكل حيوان كان يراه صديقًا بطلًا.
التحقق من صحة معلومات الهاسبارا الإسرائيلية
شنّ المتصيدون الإسرائيليون حملة تضليل أو دعاية مكثفة لإنكار المجاعة التي تعصف بغزة، حتى في ذروتها في فبراير/ شباط 2024، ويستمر هذا الإنكار رغم التحذيرات المتكررة من المنظمات الدولية بأن غزة تقترب من المجاعة، والأدلة واضحة أمام أعيننا.
ففي 20 أبريل/ نيسان، نشر أحد مستخدمي “إكس” المشهورين بنشر الدعاية الإسرائيلية مقطع فيديو لرجل يجلس على الشاطئ في غزة، زاعمًا أنه كان يستمتع بتناول “وجبة كباب كبيرة” خلال الأزمة، وقد أغفل المستخدم عمدًا حقيقة أن الرجل كان يأكل لحم الخيل.
وأذهلني منشور آخر من “غزة وود”، وهي حملة ممنهجة تهدف إلى السخرية من معاناة الفلسطينيين وتشويه سمعتهم وإنكارها؛ وقد أظهر الفيديو امرأة في غزة تطحن المعكرونة لتخبز الخبز لأطفالها، واتهم المروج الإسرائيلي المرأة بافتعال القصة أمام الكاميرا بدلًا من محاولة إطعام أسرتها التي تتضور جوعًا.
في 12 مايو/ أيار 2024، كشفتُ زيف مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع بهدف تشويه سمعة فادي الزنط، وهو طفل من غزة كان يعاني من سوء التغذية قبل أن يفر من القطاع لتلقي العلاج الطبي العاجل؛ حيث اتهم المتصيدون بقسوة والدته بتعمد تجويعه لتمثيل مشهد “تمثيلي”، واستخدم بعض منكري الفظائع مظهرها كسلاح للتشكيك في معاناة طفلها.
إن هذه التلميحات المغرضة تتجاهل الحقيقة الأساسية المتمثلة في كون الأطفال أكثر عرضة للخطر أثناء المجاعة؛ حيث تضعف أجسادهم بسرعة أكبر ويواجهون خطر الموت بشكل أكبر بكثير في أزمات الجوع، كما ذكرت لجنة الإنقاذ الدولية.
وأفادت الأمم المتحدة أنه تم تشخيص ما يقرب من 3,700 طفل بسوء التغذية الحاد في الشهر الماضي وحده، بزيادة قدرها 82 بالمائة منذ فبراير/ شباط.
ولا تزال مقاطع الفيديو الأخيرة لأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد، مثل الرضيعة سوار عاشور والطفلة رهف عياد البالغة من العمر 12 عامًا، تؤرقني.
قد لا يبقى هؤلاء الأطفال على قيد الحياة بدون إجلاء طبي عاجل. وبدون إيصال الغذاء والمساعدات بشكل فوري ومستدام، سيقع المزيد من الأطفال ضحايا للجوع وسيواجهون العواقب الصحية للجوع مدى الحياة.
ورغم تلك الظروف، يكذب المسؤولون الإسرائيليون علنًا أمام أعيننا؛ ففي 24 يوليو/ تموز 2024، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي ونفى دور إسرائيل في عرقلة المساعدات الإنسانية إلى غزة، وعلى الرغم من أن خطابه كان مليئًا بالادعاءات المضللة، إلا أنه حظي بتصفيق المشرعين الأمريكيين الذين اختاروا التغاضي عن الأزمة الإنسانية الكارثية التي تتكشف في غزة.
لقد تتبعتُ العديد من المنظمات التابعة للحكومة الإسرائيلية التي نشطت في نشر الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية خلال الحرب.
ومن بين هذه المنظمات مجموعة “أونست ريبورتنغ”، وهي مجموعة هاسبارا تدعي أنها هيئة رقابة إعلامية تفضح التحيز ضد إسرائيل.
عملت هذه المجموعة على إنكار المجاعة في غزة وتقويض مصداقية الخبراء المستقلين، ورفضت نتائج تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، الذي حذر من أن المجاعة في غزة كانت وشيكة بحلول منتصف مارس/ آذار 2024. وبدلًا من عرض الأدلة، اعتمدت منظمة “أونست ريبورتنغ” على أدلة منتقاة بعناية للتشكيك في استنتاجات التقرير.
لغة التجويع الناعمة
دأب المسؤولون الإسرائيليون المتطرفون على إنكار وجود مجاعة في أوساط الفلسطينيين في غزة، وفي الوقت نفسه ضغطوا لأجل اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمنع وصول الغذاء والمساعدات إلى السكان المحاصرين.
وعلى الرغم من تحذير المنظمات الدولية مرارًا وتكرارًا من خطر المجاعة الوشيك، إلا أن هؤلاء المسؤولين لم يتوقفوا عن التحريض على خطاب الكراهية وتجاهل معاناة سكان غزة.
وباستخدام لغة ناعمة، يضع المسؤولون الإسرائيليون التجويع والحصار في إطار الضرورات الإستراتيجية، ففي 16 نيسان/ أبريل، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس: “لن تدخل أي مساعدات إنسانية إلى غزة”، وذلك للضغط في مفاوضات وقف إطلاق النار.
وفي الوقت نفسه تقريبًا، قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش: “لن تدخل حبة قمح واحدة إلى غزة”.
وذهب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى أبعد من ذلك؛ حيث دعا مؤخرًا القوات الإسرائيلية إلى قصف منشآت تخزين الأغذية في غزة.
لقد أصبح التجويع في غزة أداة أخرى من أدوات الموت التي تستخدمها إسرائيل: سلاحها الأبطأ والأكثر إيلامًا. فهو لا يأتي مع دوي الانفجارات؛ بل يستنزف الحياة بصمت يومًا بعد يوم، ويفاقم الأزمة الإنسانية المزرية بالفعل.
لقد تحول دوري إلى دور المطمئن المستمر؛ حيث أقول لهم ما يريدون سماعه من أن المعابر الحدودية ستفتح قريبًا وأن مئات الشاحنات التي تحمل الإمدادات الحيوية، بما في ذلك الغذاء والدقيق، في طريقها إلى غزة. ومع ذلك، أعلم في أعماقي أن الوضع لا يزال قاسيًا، فكل يوم يمر دون وصول المساعدات إلى غزة يدفع بالمزيد من العائلات إلى حافة الموت.
المصدر:ذي انترسبت