يدرك الفلسطيني أينما كان أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى لطمس كل ما يربطه بأرضه من تاريخ وتراث من خلال الحرق والتدمير والتزوير، لذلك يبذل جهداً مضاعفاً لتوثيق روايته وحفظ إرثه، سواء عبر التدوين الورقي أو باستخدام الوسائل الرقمية الحديثة، خصوصاً في السنوات الأخيرة.
في السنوات الأخيرة ظهرت عدة مشاريع ومبادرات تهدف إلى حفظ التاريخ الفلسطيني وأرشفة كل حكاية أو صورة توثق ارتباط الفلسطيني بأرضه، قبل سنوات قليلة وتحديدا 2019 بدأت تبزغ فكرة مبادرة “حكايات فلسطينية” تربط الفلسطيني بأرضه وهي عبارة عن أرشيف رقمي للعائلات الفلسطينية للحفاظ على الإرث والذاكرة الشخصية للحياة الاجتماعية والثقافية في فلسطين.
تحدثت الدكتورة سمر دويدار، باحثة في التاريخ الشفهي ومؤسسة المبادرة، إلى “نون بوست” عن أهمية منصتها في حفظ التاريخ الفلسطيني من الضياع، خاصة وأنها تعتمد على “الأرشيفات العائلية” كمصدر أساسي فهي منذ سبتمبر 2019 تعمل على توسيع توثيق الشهادات.
ما الذي دفعك لإطلاق مبادرة “حكايات فلسطينية”؟ وما الفجوة التي تسعى هذه المبادرة لسدّها في التاريخ الفلسطيني؟
كانت الدوافع شخصية وعاطفية في المقام الأول، كنت أعمل على كتابة رواية عن فلسطين، وضمن رحلة البحث التي خضتها لهذا الغرض، وصلت إلى نقطة محورية حين وقعت بين يدي رسالة شخصية جداً كتبها جدي أثناء النكبة. تلك الرسالة تركت أثراً عميقاً في نفسي، إذ شعرت لأول مرة أنني أتعرف إلى فلسطين من خلال صوت شخص عاش التجربة فعلاً، لا من خلال كتب التاريخ. وكأنني فجأة أصبحت داخل الحدث نفسه.
تلك اللحظة جعلتني أُدرك أهمية الروايات الشخصية، وأثرها العاطفي والمعرفي العميق، فالتوثيق الشفوي لتجارب عاشها أشخاص خلال أحداث كبرى مثل النكبة له وقع خاص ومُلهم، أعمق أحيانًا من السرد الأكاديمي أو الرسمي.
ومن هنا، تطور المشروع من مجرد محاولة لتوثيق تاريخ عائلتي إلى مبادرة أوسع تهدف إلى تمكين الفلسطينيين كافة من سرد حكاياتهم.
أما الهدف من المبادرة هو أن تكون هذه الحكايات ملكًا لأصحابها، تُروى بحرية دون تدخل من مؤسسات أو سلطات تختار ما يُحفظ وما يُهمّش. أردت أن أُنشئ مساحة مفتوحة على الإنترنت، تمكّن أي شخص من مشاركة ذاكرته وتجربته، ليكون لكل صوت فلسطيني فرصة في أن يُسمع. لقد شعرت أن هذه هي طريقتي في المساهمة في القضية الفلسطينية، شكل من أشكال المقاومة السلمية حين لا أستطيع أن أشارك بشكل آخر.
تعتمد مبادرة “حكايات فلسطينية” على الأرشيفات العائلية كمصدر أساسي، لماذا تم اختيار هذا النوع من الأرشيفات تحديدًا؟ وما الذي يمكن أن تضيفه مقارنة بالمصادر الرسمية في توثيق التاريخ الفلسطيني؟
تم اختيار الأرشيفات العائلية كمصدر أساسي لأنها تتيح تقديم صورة إنسانية حقيقية للفلسطيني، بعيدًا عن الصور النمطية المتكررة في الإعلام أو في السرديات الرسمية، حيث يُقدَّم الفلسطيني إما كبطل خارق أو كإرهابي، مما يجرده من إنسانيته ويحوّله إلى رمز مجرد.
أما الأرشيف العائلي، فيمنحنا القدرة على رؤية الفلسطيني كإنسان يعيش حياة كاملة بتفاصيلها اليومية: نراه طفلاً، عاملاً، طالبًا، يحتفل، ينجح أحيانًا ويفشل أحيانًا أخرى. هذه التفاصيل هي ما يقرّب الناس من القصة الفلسطينية، ويخلق مساحة للتعاطف والفهم الإنساني.
عند مقارنة ذلك بالمصادر الرسمية، نلاحظ أن الأخيرة عادة ما تُكتب من قبل أشخاص مثقفين ومتخصصين، مما يجعلها تعكس رؤيتهم ووجهة نظرهم أكثر مما تعكس الحياة كما عاشها الناس فعليًا. فكل عمل تاريخي يحمل بالضرورة بصمة كاتبه وموقفه، بينما الأرشيفات العائلية تُعدّ صوت الناس أنفسهم، تُروى على ألسنتهم، وتحمل تجاربهم الحقيقية كما هي.
ولهذا، فإن هذه الأرشيفات لا تُكمل فقط ما هو ناقص في الرواية الرسمية، بل تساهم في إعادة تشكيل السردية التاريخية بشكل أكثر توازنًا وإنسانية.
هل كانت هناك شهادة أو قصة معينة أثّرت بك بشكل خاص وجعلتك تُدركين أهمية هذا العمل؟
نعم، أكثر ما أثّر فيّ كان أرشيف الرسائل الذي تركه جدي، وتحديدًا إحدى رسائل الخطوبة التي كتبها خلال فترة النكبة. لقد كان يمتلك أسلوبًا أدبيًا مميزًا في الكتابة. الرسائل كانت مرتبة ومنظمة بدقة، وكأنها أُعدّت لتصل في يومٍ ما إلى شخص يمكنه أن يفهمها ويقدّرها.
يصعب أن أقول إن هناك رسالة واحدة فقط أثّرت بي، فكل رسالة تحمل شيئًا خاصًا، لكن ربما كانت أول رسالة وصلَتني من أرشيف جدّي، والتي قدّمتها لي والدتي، هي الأكثر تأثيرًا من حيث نقطة التحوّل، لم يكن هو كاتب الرسالة، بل كانت من ابن أخته، الذي اضطر إلى مغادرة بيته في القدس مع والدته وعدد من أفراد العائلة على ظهر حمار، للذهاب إلى غزة حيث كانت العائلة تقيم.
وصفه لتلك الرحلة، كما جاء في الرسالة، كان شديد الواقعية والحميمية، وشعرت من خلاله بأهمية الرواية الشفوية—أن نسمع التاريخ من ألسنة من عاشوه، لا من كتب أكاديمية باردة أو تحليلات جامعية مجردة، كانت تلك الرسالة بمثابة المفتاح الذي جعلني أُدرك أن لهذه الحكايات قيمة عظيمة يجب أن تُروى.
كثيرًا ما تُهمل الأوراق الشخصية وتُعتبر مجرد تفاصيل يومية عادية، كيف غيّر مشروعك هذه النظرة تجاه الأرشيف الشخصي؟
في ظل الحروب والظروف القاسية التي يعيشها الناس، من الطبيعي أن يشعر البعض بأن الحفاظ على أوراقهم الشخصية أو أرشيفهم العائلي ليس أولوية، أو حتى أنه أمر لا يستحق الاهتمام. في البداية، واجهت الكثير من الشكوك، بل وحتى اتهامات بأن ما أطلبه من الناس—أن يشاركوا صورهم ورسائلهم القديمة—هو أمر غير حساس تجاه واقعهم الصعب، لكن مع مرور الوقت، تغير هذا الإدراك لدي ولدى البعض.
وما زال الكثيرون يجدون صعوبة في تقبّل الفكرة أو لا يرون أهمية توثيق هذه المواد. ومع ذلك، أصبحت أكثر إصرارًا على المحاولة، لأنني مؤمنة بأن الأرشيف الشخصي هو وسيلتنا الوحيدة المتاحة حاليًا للحفاظ على ذاكرتنا الجماعية.
هذا العمل يحتاج إلى وعي مجتمعي، واستمرارية، والأهم أن يشعر الناس بأن من يخاطبهم يُدرك ما يعيشونه، ويقدّر مشاعرهم.
ما نوع الأرشيفات التي تستقبلها المنصة؟ وهل هناك حدود زمنية للتوثيق؟
ركّزت المبادرة على جمع الأرشيفات التي توثق للحياة في فلسطين حتى عام 1967، باعتبار أن الاحتلال بعد هذا التاريخ شكّل مفصلًا حاسمًا في التاريخ الفلسطيني. لكن بعد العدوان الأخير على غزة في أكتوبر 2023، حصلت مراجعة عميقة في فلسفة التوثيق، واتضح أن ما يحدث اليوم هو استمرار لنكبة طويلة. لذا، أصبح من المهم توثيق الحياة اليومية في غزة قبل 6 أكتوبر 2023 أيضًا، بما يشمل تفاصيل الحياة العادية، من صور عائلية إلى لحظات بسيطة تحمل قيمة كبرى في سياق الفقد والدمار.
أيضا ما نوع المواد التي يمكن مشاركتها عبر حكايات فلسطينية؟
يمكن لأي فلسطيني مشاركة مواد شخصية تخصه أو تخص عائلته، مثل صور الزفاف، لحظات من رمضان، مناسبات التخرج، أو حتى لحظات الحياة اليومية في غزة أو أي مكان آخر. المهم أن تكون هذه المواد جزءًا من الذاكرة الفلسطينية الجماعية.
الهدف هو بناء خريطة إنسانية لفلسطين من خلال حياة الناس العاديين، وتوثيق تفاصيلهم التي تشكّل معًا صورة للتاريخ الفلسطيني من زاوية شخصية.
ما التحديات التي تواجهونها في توسيع قاعدة المشاركين في “حكايات فلسطينية”؟
إقناع الفلسطينيين بأهمية القيام بهذا الدور بأنفسهم، وبأن الأرشيف الشخصي ليس شيئًا ثانويًا أو غير مهم، نحتاج إلى وعي جماعي بقيمة الذاكرة، وإلى تحفيز الناس على المشاركة في كتابة تاريخهم بأنفسهم.
كما أن التحدي الأساسي هو الوصول الشخصي المباشر إلى الناس، فحتى تنتشر المبادرة وتُتبنّى فعليًا، من الضروري أن يعرف بها عدد أكبر من الفلسطينيين، ويشعروا بالثقة لتوثيق أرشيفاتهم. هناك دائمًا تخوفات وكثير من الناس يترددون في مشاركة موادهم الشخصية، ويسألون: “ماذا سيحدث لهذه الأوراق؟ هل سيتم تزويرها؟ هل يمكن أن تُسرق أو يُساء استخدامها؟”.
من الناحية التقنية، كيف صُممت منصة “حكايات فلسطينية”؟ وما المبادئ التي قامت عليها؟
حكايات فلسطينية” صُممت لتكون منصة رقمية تحفظ وتعرض الأرشيفات العائلية الفلسطينية، وقد استندت إلى مبادئ أساسية أهمها: الحفاظ على الذاكرة الجمعية من خلال المواد الشخصية، وضمان أن تكون عملية التوثيق بيد أصحابها لا المؤسسات أو الجهات الرسمية. تم بناء المنصة باستخدام تقنيات حديثة تتيح رفع الصور، الوثائق، والمرويات الصوتية أو المكتوبة بسهولة، لتكون متاحة للجمهور، ضمن شروط تحفظ خصوصية أصحاب الأرشيف.
بدأت المبادرة بقاعدة بيانات إلكترونية تستقبل الأرشيفات العائلية من خلال نموذج سهل التصفح، عند دخول الزائر إلى الموقع، تظهر له على الصفحة الرئيسية دعوة للمشاركة بعنوان “شاركنا ذكرياتك”، وبمجرد الضغط عليها يُطلب منه إنشاء حساب بسيط يتطلب فقط: الاسم، البريد الإلكتروني، رقم الهاتف، وكلمة مرور وبعدها يتم التسجيل والبدء بإضافة أرشيف عائلته.