يُعرف مسجد السليمانية في اسطنبول كأحد الوجهات السياحية في تركيا، المسجد الذي بُني عام 1557 على يد المهندس سنان بأمر من السلطان سليمان -وقد دُفن فيه- يجذب الآلاف من الزوار من مختلف أنحاء العالم، هندسته المعمارية البديعة وموقعه الساحر المطل على خليج أمينونو ومعالمه المميزة تأخذك إلى عالم أخر عبر العصور.
لكن المسجد أيضا، يشهد نشاطًا كبيرًا لدعوة الزوار الأجانب إلى الإسلام، حيث يعتنق الإسلام سنويًا المئات منهم داخل المسجد، على يد الدعاة الموجودين فيه، والذين يعملون ضمن وقف للدعوة إلى الإسلام يُدعى “وقف التواصل الثقافي” أو كما يعرف اختصارا من التركية “كيم” “KIM”.
وقف التواصل الثقافي .. من أجل الدعوة
حين تدخل مسجد السليمانية، لا تتفاجأ إذا رأيت حلقة من السياح، يتوسطها أحد الدعاة وهو يشرح لهم عن الإسلام. فهؤلاء هم المتطوعون الدعاة العاملين في وقف “KIM”.
تأسس وقف التواصل الثقافي عام 2010، ويهدف إلى إبلاغ رسالة الإسلام إلى السياح القادمين من مختلف دول العالم إلى مدينة إسطنبول، خاصة زوّار مسجد السليمانية، الذي يقع مقرّ الوقف بالقرب منه.
يقول مدير الوقف عبيد الله تانريوفر إنهم لا يكتفون بالتواصل مع السياح القادمين إلى المسجد، بل تَوسَّع التواصل مع السياح في إسطنبول عامة.
ويضيف تانريوفر في حديث لـ”نون بوست” أن الوقف يقيم أنشطة خاصة في شهر رمضان، منها إفطار جماعي يومي يدعون فيه السياح من داخل المسجد إلى مقر المركز القريب من المسجد، إضافة لدورات تعليم المسلمين الجدد، حيث يوفرون محل إقامة لعدة أيام في حال تطلب الأمر ذلك.
وبحسب تانريوفر، فإن “حوالي 78 داعيًا يعملون ضمن الوقف بشكل دوري، وهم من عدة بلدان: تركيا، مصر، العراق، سوريا، المغرب، الجزائر، باكستان، الهند، طاجيكستان، الصين، روسيا، والسعودية. ويخضع هؤلاء الدعاة لدورة تدريبية مكثفة تستغرق نحو 20 ساعة، يتبعها اختبار، ثم فترة معايشة عملية مع دعاة مخضرمين تمتد لعدة أسابيع، قبل أن يُسمح لهم بالتواصل مع السياح والدعوة إلى الإسلام”.
كما “يُشترط على جميع الدعاة إتقان اللغة الإنجليزية قبل البدء في نشاط الدعوة، في حين أن العديد منهم يتحدثون لغات أخرى إلى جانب الإنجليزية، مثل الإسبانية، والفرنسية، والروسية، والبرتغالية، والألمانية.”
ورغم انطلاق أنشطة الوقف الدعوية من مسجد السليمانية في إسطنبول، إلا أن نشاطه سرعان ما توسّع ليشمل عددًا من المساجد التي يقصدها السيّاح، مثل مسجد بايزيد، ورستم باشا، والوالدة – الجديد، وتشامليجا الكبير، بالإضافة إلى مسجد محرمة سلطان.
منذ شهر رمضان العام الماضي، أعلن نحو 700 شخص اعتناق الإسلام، فيما شهد رمضان الحالي زيادة في الأعداد، حيث توافد بعض الزوار خصيصًا إلى مسجد السليمانية لنطق الشهادة في أجواء احتفالية مميزة.
ويقول أمير قادر أوغلو، أحد المتطوعين في المسجد والذي يتقن الإنجليزية والروسية إلى جانب التركية، في حديثه لـ”نون بوست”، إن انضمامه إلى العمل الدعوي في العام 2020 كان تجربة غيرت مجرى حياته بالكامل، واصفًا إياها بأنها “فريدة بكل المقاييس“.
يضيف قادر أوغلو: “منذ أن بدأت الدعوة، أصبح لحياتي طعم أخر ومعنى جديد، وإلى جانب أن الدعوة هي عمل الأنبياء، فإن تجربة الدعوة والتواصل مع غير المسلمين لإيصال رسالة الله إليهم يضفي بعدًا آخرًا لشخصيتك، ويوسع المعرفة من خلال التواصل. حسنا.. يمكن القول أنها تحمل مسؤولية إضافية، لأنك تمثل سفيرا للإسلام، والسياح ينظرون إلى الإسلام من خلالك على أي حال” يقول أمير.
أوريانا.. فرنسية وجدت الإسلام في السليمانية
لم تكن أوريانا تتوقع أن تكون زيارتها السياحية إلى مسجد السليمانية في إسطنبول نقطة تحوّل جذرية في حياتها. فبين جدران هذا المسجد التاريخي، وجدت ما تصفه بـ”الضوء الذي أخرجها من الظلمات”.
وفي حديثها لـ”نون بوست”، بدت عليها ملامح التأثر وهي تستعيد لحظة دخولها المسجد للمرة الأولى، قائلة إن تلك الزيارة كانت البداية لرحلة روحانية غيرت حياتها بالكامل.
تقول أوريانا: “قبل الإسلام، لم تكن حياتي سيئة، بل على العكس تمامًا. كان لدي كل ما يلزم لأكون سعيدة فقد تخرجت من الجامعة، وحصلت على وظيفة في شركة كنت أحلم بالعمل بها، وكان لدي أصدقاء جيدون، وكانت عائلتي تعيش حياة جيدة، وكنت أعيش في باريس، وأعيش حياة جيدة، وكنت أسافر… كانت الحياة جيدة. لكن الحقيقة هي أنني لم أكن سعيدة بهذه الحياة. شعرت وكأن شيئًا ما ينقصني، ولم أفهم هدفي في الحياة، ولم يمنحني أي شيء الرضا مقارنة بأصدقائي الذين كانوا يسعون وراء مهنة، أو مال، أو فكرة “الاستمتاع بالحياة” يقول جياموكو.
وتضيف: “عندما زرت مسجد السليمانية، التقيت بأحد الدعاة المتطوعين، وبدأ يُحدثني عن هندسة المسجد ويسألني إن كنتُ لاحظتُ أي فرق بينه وبين آيا صوفيا. لم ألاحظ، وخجلتُ من عدم معرفة الإجابة مُباشرةً. ثم تحدث عن الإسلام والأنبياء وسألني إن كنتُ أؤمن بالله، فأجبتُ بنعم. سألني إن كنتُ أؤمن بأن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) نبي، فأجبتُ بنعم أيضًا فأنا كنت قد قرأت عن النبي من قبل”.
وتابعت: “فوجئ قليلًا وسألني: لماذا لستِ مسلمة أصلًا؟ لم أُجب، لم يخرج من فمي أي صوت، شعرتُ وكأنني أبكم. كان الجواب في ذهني أنني لا أعرف سوى القليل لأُقدّم نفسي كمسلمة، كما أظهر السؤال الذي طرحه عليّ سابقًا. ثم بدأ يُجيب على استفساراتي رغم أنني لم أقل شيئًا بصوت عالٍ. أخبرني أن كوني مسلمة هو، في المقام الأول، الإيمان بأركان الإيمان الستة، ثم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن تعلّم الدين رحلة العمر، وأننا نتعلم دائمًا أشياء جديدة، وأن عدم المعرفة في البداية لا ينبغي أن يمنع أحدًا من اعتناق الإسلام”.
“شعرتُ حقًا أن الله هو الذي ألهم هذا الداعية ليخبرني بما أحتاج سماعه بالضبط، ولم أتردد في نطق الشهادة في تلك اللحظة، ومن هذا الوقت، أنا مسلمة والحمد لله”.
تعيش أوريانا حياة جديدة بعد اعتناق الإسلام. ورغم أنها لا تخلو من التحديات، فإنها تشعر بأنها الآن في المكان الذي تنتمي إليه، وأن كل شيء يسير في الاتجاه الأفضل بالنسبة لها.
منذ اللحظة التي نطقت فيها الشهادة، شعرت أوريانا بسلام داخلي لم تعهده من قبل، كما لو أنها وُضعت أخيرًا على طريق واضح المعالم، لا يتطلب منها سوى أن تمضي فيه خطوة بخطوة، متعلّمة معنى أن تكون مسلمة، ولم يتوقف شعور الانتماء عند هذا الحد، بل امتد ليشمل كل من قابلته من المسلمين، والذين وصفتهم بأنهم “أصبحوا كعائلة جديدة ورفاق في هذه الرحلة”.
عند عودتها إلى فرنسا، بدا أن نظرتها للحياة قد تغيّرت بالكامل حيث تقول: “لم تعد الحياة هدفًا بحد ذاته، بل مجرد وسيلة لتحقيق غاية أكبر، لذلك لم أعد بحاجة إلى التشبث كثيرًا بالأشياء أو الأشخاص في هذه الحياة. لقد ابتعدتُ كثيرًا عن الأحداث والمحن التي أواجهها، وأصبحتُ الآن أكثر صبرًا واستعدادًا للاعتراف بأنني لا أعرف كل شيء، وأن تدبير الله خير من تدبيري
ما لفتها أيضًا هو أن أصدقاءها المقرّبين، وهم غير مسلمين، لاحظوا تغيرًا واضحًا في شخصيتها، ووصفوها بأنها باتت أكثر حكمة وهدوءًا، وكأن شيئًا لا يمكن أن يعكر صفوها. بالنسبة لها، وتصيف: “أخبرني أصدقائي المقربون أنني أصبحتُ أكثر حكمة، وكأن لا شيء يستطيع زعزعة السلام الذي أشعر به الآن. كان هذا يعني لي الكثير لأنهم عرفوني لعقد من الزمان، وإذا لاحظوا التغيير، كغير مسلمين، فهذا يعني أنه حدث بالفعل. أعلم الآن أن الله معي دائمًا. الحمد لله على كل شيء” تضيف أوريانا”.
جياكومو.. الملاكمة تقود إلى الإسلام
جياكومو، شاب إيطالي دخل الإسلام في مسجد السليمانية بإسطنبول، بعد رحلة داخلية طويلة بدأت منذ طفولته. ورغم نشأته في عائلة بوذية، يقول لـ”نون بوست” إنه كان دائم الإيمان بوجود إله واحد، حتى قبل أن يعرف الإسلام، واصفًا نفسه بـ”الموحد بالفطرة”.
لكن، كما هو حال كثير من الشبان الأوروبيين، لم يكن الإيمان وحده كافيًا لملء الفراغ الداخلي الذي شعر به وسط حياة مادية مليئة بالملذات والترفيه، لكنها خالية من المعنى الحقيقي. ظل يبحث عن هدف أكبر لحياته، إلى أن بدأت تحولات عميقة في وعيه قبل نحو عام من اعتناقه الإسلام، ممهّدة الطريق لخطوته الفارقة.
يضيف جياكومو لنون بوست: “كنت في فترة مظلمة للغاية. وأردت تجربة ممارسة الملاكمة، وبدأتُ أهتم بنفسي أكثر، وأتدرب بجدية شديدة. في الواقع، كنتُ أذهب إلى صالة الألعاب الرياضية كل يوم تقريبًا. كنتُ أذهب مع المدرب، وكان يُدربني بجدية شديدة. وهكذا توقفتُ عن التدخين وشرب الكحول. توقفت عن كل هذه الأمور السيئة. وطهرت جسدي من الناحية الصحية وأصبحت أعيش في حياة منضبطة، وأصبحت أكثر ثقة بنفسي”.
مع نهاية سنته الدراسية الأخيرة، قرر قضاء عطلة برفقة والده في مكان مختلف عن أوروبا. وبعد نقاش حول عدد من الوجهات، استقر الاختيار، بشكل لم يتوقعه، على تركيا. وهناك، خلال 20 يومًا من الإجازة، بدأت ملامح تحول أعمق تتشكل.
حين وصل جياكومو إلى إسطنبول لم يكن يعرف شيئًا عن الإسلام، بل كان يراه كأي ثقافة غريبة عنه. زار مع والده المعالم التقليدية مثل آيا صوفيا والمسجد الأزرق، ثم قادتهما الرحلة إلى مسجد السليمانية، وهناك لفت انتباهه وجود أشخاص يحملون كتبًا عن الإسلام، ومتطوعين يشرحون لهم الدين.
فجأة اقتربت فتاة بلطف وعرضت عليهما التعرف أكثر على الإسلام. المثير أن والده، وليس هو، كان من بادر بالاستماع. كان للأب خلفية غير متوقعة؛ فقد زار تركيا ودولًا إسلامية أخرى، وسبق أن قرأ القرآن كاملًا ودرس اللغة العربية قبل نحو عشرين عامًا بدافع الإعجاب، دون أن يعتنق الإسلام.
لذلك، لم يكن غريبًا أن يكون الأب من اختار البقاء والإنصات، بينما كان جياكومو في البداية مترددًا ومتشككًا، بحكم تجربته السابقة مع حديث كثيرين عن الديانات والروحانيات في بلاده. اعتقد أن ما سمعه دعاية ليس أكثر، لكن شيئًا تغيّر بعد تلك الجلسة، خاصة حين قدّمت لهما مريم نسخة من ترجمة معاني القرآن باللغة الإيطالية، ما زال يحتفظ بها حتى اليوم.
ويروي جياكومو: “خرجنا من المسجد، وكان المنظر جميلًا جدًا، لكننا لم نكن ننظر إليه، كنت رغم تشككي بما كنت أسمع، إلا أن هناك شعورًٍا غريبًا في داخلي يجذبني نحو الإسلام، كان هناك لحظة صمت، قطعها والدي بقوله أعتقد أننا سنعود من هذا البلد مسلمين، لقد أثر ذلك بي، كنت أفكر، كيف يكون ذلك؟
بعد عودته إلى إيطاليا، ظل جياكومو يتأمل في التجربة التي عاشها في مسجد السليمانية. ما ترك أثرًا عميقًا فيه لم يكن فقط ما سمعه من شرح عن الإسلام، بل الطريقة التي عومل بها. وصف تلك المعاملة بأنها طيبة على نحو لا يُصدّق، مقارنةً بالحياة التي يعيشها في إيطاليا، والتي بدت له -كما يقول- أشبه بـ”حديقة حيوانات”، في إشارة إلى الفوضى والاضطراب.
هذا الانطباع دفعه للتفكير بجدية في الإسلام، فبدأ يشاهد مقاطع مصورة على “يوتيوب”، ويقرأ عن الدين أكثر. ومع مرور الوقت، اتخذ قراره الحاسم: نطق الشهادتين وأعلن إسلامه.
بعد ذلك، تذكّر أن لديه رقم وقف الدعوة في تركيا، فتواصل معهم مجددًا ليؤكد إسلامه رسميًا، ويطرح بعض الأسئلة التي كانت تشغله، خصوصًا حول قضايا المرأة وغيرها. وعندما وجد الأجوبة التي أراحته، لم يتردد ثانية، ونطق الشهادتين مرة أخرى، وبدأ رحلته التي يصفها بـ”الرائعة” مع الإسلام، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
أوريانا وجياكومو ليسا سوى مثالين من بين آلاف القصص التي تتكرر على مدار العام، حيث يعتنق الناس الإسلام حول العالم. فقد باتت هذه الظاهرة تجذب الأنظار بقوة، خاصة بعد أحداث غزة الأخيرة، التي دفعت كثيرين ممن لم يسمعوا بالإسلام أو لم يعرفوه عن قرب، إلى طرح الأسئلة حول الإيمان، والرسالة، والقرآن.
كذلك، بدأ عدد كبير من الأشخاص الذين كانوا يحملون تصورات مغلوطة عن الإسلام، بإعادة النظر في تلك الأفكار، واللجوء إلى المسلمين أنفسهم لطرح استفساراتهم، بدلاً من الاعتماد على روايات الإعلام التي اعتادت تشويه صورة الدين، وربطه بالإرهاب، أو تصويره كدين يضطهد المرأة ويقمع الحريات.
هذا التحول يضع مسؤولية كبيرة على العاملين في مجال الدعوة في مختلف أنحاء العالم. فالساحة الدعوية اليوم تحتاج إلى مزيد من المتطوعين، القادرين على التواصل بلغة العصر، لنقل الصورة الحقيقية للإسلام، ولإيصال رسالة التوحيد لمن يبحثون عنها، وانتشالهم من حيرة الظلمات إلى هداية النور.